صور ناطقة للتحوط 57 - 58

صور ناطقة للتحوط

أحمد الجدع

[57]

-- -----------------------------

صديقان عزيزان ، كانا مختلفين ، أو قل كانا يصطنعان الاختلاف .

أولهما لا يعرف الحياة إلا ديناً وشريعة وطاعة لله ، يقيس الحوادث كلها بمقياس الدين ، فما وافقه كان حسناً ، وما خالفه كان سيئاً .

والآخر كان مصلياً ، ولكنه يتجاوز كثيراً عن أخطاء من يحب وإن كان ذلك مخالفاً للدين ، مجافياً للخلق ، لا يراعي فيه الحق والصدق والعدل .

كانا يحبان الجدال ، ويجتمعان له ، ويحتشدان لموضوعه .

كان موضوعهما المفضل للجدال هذا الزعيم الذي قتل مخالفيه وشردهم في الآفاق ، أعلن عن محاربته لكل متدين ، ولكل من طالب غيره بأن يكون من المتدينين .

ألغى المحاكم الشرعية التي كان المسلمون يتحاكمون إليها في منازعاتهم الأسرية وأحوالهم الشخصية ، حارب الأزهر أكبر مؤسسة لنشر الإسلام في العالم ، وقضى على مهمته الأساسية في حفظ الدين وفي تعليم مبادئه كما سار عليه المسلمون قروناً طوالا ، ثم علق العلماء على أعواد المشانق ، وزج أنصار الإسلام في غياهب السجون .

كان صاحبنا الأول كارهاً لما يفعله هذا الرجل ، وامتدت كراهيته إلى الرجل نفسه ، وكان الآخر مناصراً لهذا الرجل ، ولا يرى بأساً فيما يفعله .

وامتد الجدال بينهما أسابيع وأشهرا ، وكان رأيهما فيما انتهيا إليه هو نفسه ما ابتدءا به .

وللخروج من هذا المأزق الذي انتهيا إليه قال صاحب الدين المستنير لصاحب المحبة العمياء :

هذا الذي سأقوله لك هو آخر ما عندي : أسأل الله أن يحشرك في الآخرة مع هذا الرجل في صعيد واحد .

قال الآخر وهو يبتسم : أما هذا فلا !!

حسبنا الله .

=========

[58]

-------------------------------

إلى مصر المحروسة وصلنا قبل الهزيمة الكبرى ، وكان مما أحببنا أن نزوره قصر عابدين ، القصر الذي كان يسكنه الملك فاروق ، القصر الذي سمعنا عنه قصصاً أسطورية عن فساد الملك وعهده وخيانته وفسقه وفجوره ، وبالمقابل كنا نسمع عن الزعيم الوارث لمملكة فاروق وما يتحلى به من عالي الأخلاق والشيم وقد قادت محبة الناس إلى أن قدسوه وتصوروا أنه لا زال في بيته المتواضع يستقبل الناس ويشاركهم في بيته أكل الملوخية واحتساء الشاي !

تجولنا في القصر يرافقنا دليل يشرح لنا مقتنيات القصر وأحداثه ، فلما وصلنا غرفة نوم فاروق وجدتها أنا غرفة متواضعة بالنسبة لما نراه من بذخ في قصور أقل أمراء عهدنا ، بل في بيوت بعض المترفين من غير الأمراء .

أحب صاحبنا أن يستلقي على سرير فاروق ، فأذن له الدليل ، وبعد أن قضى ما تمنى قام وهو يقول : ما هذا الإسراف والبذخ ، لقد كان ملكاً منحرفاً ، فرد عليه الدليل قائلاً : إن كل ملك أو زعيم يعيش عصره ، وهذا سيادة الرئيس قد أضاف إلى قصره مؤخراً خمسين غرفة في كل غرفة منها تلفاز ... وكان التلفاز في ذلك الوقت نادراً ، بل لا تكاد تجده في الفنادق الفخمة ...

غضب صاحبنا غضبة مضرية ، وصاح في الدليل : أنت داسوس ، قالها بلغته العامية وهو يعني جاسوس ، تريد أن تشوه صورة الزعيم ، وأنا أعلم أنه شديد التواضع ، لا زال يسكن في بيته القديم لا يغادره ، يأكل مع زائريه الملوخية ويشرب الشاي !

استنكر الدليل قوله ، وقال : كيف يعيش الرئيس في بيت صغير ، ويشغل نفسه بالأكل مع العامة ، وماذا سيبقى له من وقته إذن ليدير الدولة ، وكيف يقابل زعماء العالم في مثل هذا البيت ، ثم أردف قائلاً لصاحبنا : لماذا لا تذهب إليه لتأكل معه الملوخية ... أقسم لك أنك لو اقتربت من سور قصره لما ارتد إليك نفسك ، وقصره بعيد عن سوره بأكثر من كيلومترين !

لم يصدق صاحبنا ، وكاد أن ينطلق لسانه بالسباب والشتائم لهذا (الداسوس) لولا أننا سحبناه من يده ، وانطلقنا خارجين .

قضينا خمسة عشر يوماً في القاهرة ، ولم يذهب صاحبنا لأكل الملوخية مع الزعيم !

حسبنا الله .