السلفية والأدعياء

محمد حامد محمد

[email protected]

هنا سؤال :

كيف نفرق بين السلفيين وغيرهم و الجميع ينادون بأنهم يتبعون نفس المنهج ؟

هنا ، يجب علينا تتبع ظهور الفرق تاريخياَ:

لو مضينا مع المقريزى لوجدنا أنه فى تاريخه لظهور السلف يبدأ بالكلام عن الصحابة أيضا ، فيذكر أن أحداً منهم لم يعرف شيئاً من الطرق الكلامية و لا مسائل الفلسفة ، فلما ظهر معبد الجهنى القائل بالقدر انكروا دعوته- وصلبه الحجاج عام 80هـ بناء على أمر عبد الله بن مروان – كذلك ظهر فى أيام الصحابة الخوارج و الشيعة وقبيل المائة من سنى الهجرة نفى جهم بن صفوان صفات الله تعالى وحدث أيضا فى أثناء أو بعده بقليل مذهب الاعتزال  وبعده ظهر مذهب التجسيم بواسطة محمد بن كرام .(1)

واستمرت الفرق والمذاهب فى تعددها مع ظهور الغلو عند اتباعها. ولكن ظل أهل الحديث – وهم يمثلون الغالبية من المسلمين- مخلصين للإسلام الذى تلقوه وفهموه زمن الرسول صلى الله عليه وسلم و صحابيته ، فذموا القدرية و أنكروا على الشيعة بدعهم ، وكذلك وقفوا فى وجه الخوارج ، وذموا الاعتزال.

إن هذه الحالة من الانقسام والاضطراب لدى الفرق ظلت طوال القرن الثانى – كما يذكر الذهبى – وكانت المهمة مناطة بأئمة الحديث وأئمة القراء طوال عهد بنى امية وفترة من حكم العباسيين انتهت بخلافة الأمين . فلما استخلف المأمون على رأس المائتين ، بزغ فجر علم الكلام وترجمت علوم الأوائل وانحرف البعض على علم النبوة لأن الخليفة المأمون رفع من شأن الفلسفة وعلم الكلام .

وأزعج هذا التحول الشيوخ السلفيين أيما ازعاج – يصوره لنا الذهبى بكلمات تدل على مدى احساسه بخطورة ظهور الفكر الفلسفى اليونانى فيقول : (فلا حول ولا قوة إلا بالله من البلاء ، أن  تعرف ما كنت تنكر و تنكر وما كنت تعرف وتقدم عقول الفلاسفة ، ويعزل فنقول أتباع الرسل ، ويمارى فى القرآن ، ويتبرم بالسنن والآثار ) .(2) وهو تصوير لحالة الاضطراب الفكرى ، وتعدد الخلافات بين الفرق ، وانزلاق البعض إلى ضباب العقائد المتباينة ، بدلاً من المحجة البيضاء المستقيمة الواضحة التى تركنا عليها الرسول صلى الله عليه وسلم .

أو كما يقول المقريزى مبينًا النتائج التى أحدثها تعريب كتب الفلاسفة (فانجر على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء و المحنة فى اليدين).(3)

ومع هذا فلم تلن لشيوخ السلف قناة ، ولم يجرفهم التيار ، وإنما وقفوا فى صلابة ، مؤمنين بأن الحق كله فى كتاب الله والأحاديث الصحيحة التى حرصوا على نقلها فى أناة وصبر ودقة ، مهما حالت دونهم الصعاب .

ونجد فى محنة الإمام أحمد بن حنبل برهانًا صادقًا على إخلاص القوم ودفاعهم المستميت . فقد كتب هذا الإمام الجليل صفحات ساطعة فى الدفاع عن العقيدة وضرب مثالاً فذًا على التضحية وبذل النفس فى سبيل المبدأ ، فكانت تضحياته وآلامه نقطة تحول ، انعشت الاتجاهات السلفية فيما بعد ، واكسبتها المناعة فى مواجهة خصومها ، وحالت دون استفحال الخطر الزاحف على التراث الإسلامي الأصيل , فالتف حوله الأصحاب من كل بالبلاد الإسلامية ولعل ببغداد ونواحيها والجزيرة من أصحابه من لا يدخل تحت الحصر والعد.

وامتنع إمامنا عن إبداء رأيه فى مشكلة خلق القرآن بالرغم مما عاناه من آلام تحت ضربات السياط ، وأصر على القول فى كل مرة (لست أتكلم إلا ما كان من كتاب أو سنة أو عن الصحابة و التابعين ، وأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود).(4) وكانت تؤرقه هذه الاختلافات بين المسلمين فيدعو ربه فى سجوده (اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يظن انه على الحق فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق ).(5)

وإذا ما استطلعنا موقفه من هذا الزهد و الحياة الوجدانية وقواعد السلوك ، رأيناه يرتبط بالسابقين .

 يقول ابن كثير (وقد صنف أحمد فى الزهد كتاباَ حافلاً عظيماً لم يسبق إلى مثله ، ولم يلحقه أحد فيه . و المظنون – بل المقطوع به – أنه إنما كان يأخذ بما أمكنه منه ، رحمه الله ) .(6)

وكانت معارضته للحارث بن أسد المحاسبي بسبب نزوعه نحو علم الكلام ، أضف إلى ذلك خروجه عن الزهد المألوف فى عصره ولهذا نهى عن الاجتماع بأصحاب الحارث لأن فى كلامهم من التقشف وشدة السلوك التى لم يرد بها الشرع و التدقيق و المحاسبة الدقيقة البليغة ما لم يأت بها أمر .

وتلفتنا العبارة التى وردت على لسان أبى زرعة الرازى – وكان من أصحاب الإمام أحمد – تلفت نظرنا إلى تمسك السلفيين أيضاً بنفس نظريات السابقين ، قال أبو زرعة فى وصفه لكتاب "الرعاية لحقوق الله" هذا بدعة ، ثم قال للرجل الذى جاء بالكتاب : عليك بما كان عليه مالك و الثورى والأوزاعى و الليث ، ودع عنك هذا فإنه بدعة .

وهكذا اتخذ شيوخ المدرسة السلفية مواقف محددة منذ البداية إخلاصاً منهم لمنهج الشرع .

فإذا تتبعنا شيوخ السلفيين الأوائل ، فأننا نجد ثمة روابط موضوعية تجمع بين الفكر السلفى على مر العصور ، كما إن لمذاهبهم سمات خاصة و معالم بارزة فهم فى العقائد يتمسكون بفهم الصدر الأول المنقول بواسطة أئمة المحدثين ، ومن أخص مميزاتهم حرصهم على نقل العلم النبوي, فهم المحدثون أصحاب علم الجرح والتعديل , وتربطهم وشائج قوية لنزعتهم إلى التثبيت فى نقل الأخبار وروايتها .

ولكن ، لا يكفى للتعرف على المدرسة السلفية متابعتها تاريخياً لأن شيوخها أخذوا فى المراحل التاريخية المختلفة يفصلون المذهب ويقيمون قواعده ويحددون أركانه لكى تتضح صورته وتظهر معالمه فى وسط طوفان مذاهب الفرق الأخرى المتعددة التى أخذت تتزايد وتتشعب . ولقد ضمت هذه المدرسة بين جنباتها أصحاب الحديث والفقهاء و المفسرين و الزهاد ، وكانوا جميعاً مخلصين لمنهج النقل .

ومن العجب أن ابن تيمية استطاع بعقليته العلمية الناضجة ، وفهمه الواعى للتراث ، أن يهضم كل هذه العلوم والاتجاهات ويعرضها فى قالب يتسم بالجدة ، فقام بنصر السنة المحضة و الطريقة السلفية ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها . لهذا لابد لنا من وقفة معه لنستطلع رأيه فى الفرق بين السلف والخلف .

السلف والخلف :

استمرت المدرسة السلفية بعد الإمام ابن حنبل تضم اتباع المنهج الشرعى ، وهم أهل الحديث ، إلى أن ظهر أبو الحسن الأشعرى الذى استخدم المنهج الكلامى فى الدفاع عن العقائد السلفية فى مواجهة المعتزلة

لقد عانى الإمام الأشعرى طويلاً النظريات المعتزلية ، وأخذ يكابد نفسياً هذا الاضطراب الذى يحسه رجل الفكر بين عقيدة تربى فى أحضانها وتشربها وظل يدرسها نحو أربعين عاماً ، و بين ما رآه حقاً.

وبعد طول فكر وإمعان نظر ، تنصل من الفكر الاعتزالى وتبرأ من المعتزلة ، وأعلن ألا مفر من سلوك الطريق الصحيح : طريق السلف ، فهل تحول من النقيض إلى النقيض دفعة واحدة ؟ إن التفسير النفسي لهذه الظاهرة يبدو غير مقنع ، فالأقرب إلى الصحة أنه بعد لفظه للأفكار التى اعتادها بحث عن الحلول السليمة التى يراها بديلة لها ، فاهتدى إلى حل وسط – و المنهج الوسط لا يحل المسائل – ولا شك أنه أحسن بالحيرة تتملكه لأن منهجه الوسط أوقعه فى مشاكل من نوع جديد ، وهى التى حاول الخروج منها أيام اعتزاله ، ثم تعدى هذه الحلقة الوسطى فى تفكيره ووجد الحل النهائى فى عقيدة السلف التى دوَّنها بكتابه "الإبانة" هذه العقيدة المطابقة تماماً لما أورده فى كتابه " مقالات الإسلاميين" .

وتابع الأشعرى شيوخ آخرون أمثال الباقلانى ، وابن فورك ، والاسفرايينى ، والجويني ، والغزالى، و الشهرستانى ، وغيرهم .

ولكن نظريات الأشاعرة الكلامية لم تلق قبولاً لدى المتمسكين بمنهج الأوائل – اتباع المدرسة السلفية الذين أطلق عليهم اسم الحنابلة فى هذا الدور لتمييزهم عن الأشاعرة – وتمسكوا بعقيدة الإمام أحمد بن حنبل .

ومن جهة أخرى ، أعلن الأشاعرة أنهم يدافعون عن العقيدة السلفية بواسطة علم الكلام ، أو بالطرق العقلية ، وأنهم يعدون امتداداً للسلف ، وأطلقوا على أنفسهم اسم " الخلف" تمييزاً عمن سبق الإمام أبا الحسن الأشعري ولكن الحنابلة – أو إتباع العقيدة السلفية – رأوا فى هذا المنهج الجديد أيضاً ما يعتبر انساقاً فى التيار الكلام البدعى ، وهم كأهل حديث – لا يحيدون عن منهجهم الذى ناصره الإمام أحمد وناضل من أجله ، أو بمعنى آخر ، كان من رأيهم من لم يتبع شيخهم يصبح مخالفاً لهم . ولم يقبلوا المنهج الوسط.

وقد مرت العلاقة بينهما فى دروب متعددة اكتنفتها الخلافات ، وكانت تظهر فى بدايتها فى شكل مصادمات عنيفة – ربما أهمها " فتنة القشيرى" ثم خفت حدتها عند شيوخ السلف المتأخرين ، لاسيما ابن تيمية والذهبى .

أما فى البداية، فلم يقبل شيخ الحنابلة البربهاري كتاب "الإبانة " للأشعرى بالرغم مما يتضمنه من الدفاع عن العقائد السلفية ، ذلك لأنه رأى التمسك بمنهج الإمام أحمد .

ومع هذا فإن ابن تيمية يرى أن شيوخ الأشاعرة أقرب إلى الإمام أحمد تحقيقاً وانتساباً

أما تحقيقاً ، فإن الأشاعرة أقرب إلى مذهب السلف وأهل الحديث فى مسألتى القرآن و الصفات .

كذلك فإن انتساب الأشعرى وأصحابه إلى أحمد بن حنبل و المحدثين عموماً ظاهرة واضحة فى كتبهم(7) ، ويقول "ولهذا لما كان أبو الحسن الأشعرى و أصحابه منسبين إلى السنة و الجماعة كان منتحلاً للإمام أحمد ذاكرًا أنه مقتد به متبع سبيله . وكان بين أعيان أصحابه من الموافقة والمؤالفة لكثير من أصحاب الإمام احمد ما هو معروف " .(8)

أما عن موقفه من الإمام أبى الحسن ، فإن القارئ لكتبه يلمس أحياناً رقة فى نقده ، وذلك بسبب أقوال الأشعرى المؤيدة لمذهب أهل الحديث والسنة فى عدة مواضيع كالصفات و القدر و الإمامة وردوده على المعتزلة و الشيعة و الجهمية . ولهذا يرى أنه ينبغى أن يعرف لهذا الإمام حقه وقدره عملاً بقول الله تعالى (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:3]، كذلك فإن قيامه بنصرة مذهب أهل السنة فى وجه أهل البدع وقهره للمخالفين يضعه فى مرتبة المجاهدين.

ومع أن شيخنا لا يعد أتباع المدرسة الأشعرية سلفيين خلصاً لأن المذهب السلفى بالمعنى الدقيق يلفظ علم الكلام سواء على منهج المعتزلة أم بدفاع شيوخ الأشاعرة ، إلا إنه يقر بوجود تقارب بين المذهبين كما قلنا ، ويراه يكاد يلتحم عند المحدثين منهم خاصة :كابن عساكر ، والبيهقى ، و النووى حيث غلب عندهم جانب الاهتمام بالحديث عن الاتجاه الكلامي . ومن جهة أخرى ، ينتسب إلى الحنابلة أيضاً من المتأخرين من يذهب إلى شىء من التأويل كابن عقيل ، وابن الجوزى . كذلك فقد شذت منهم قلة – شأنهم فى ذلك شأن أتباع أهل المذاهب والفرق جميعاً – حيث اتفقت مع ابن حنبل فى الفروع و خالفته فى بعض الأصول قائلين بالجهة و الجسمية ولكن أحمد برىء منهم وأهل السنة و الجماعة من الحنابلة لا يعدونهم منهم .

وفى نقده للمحدثين ، يرى أن ما يعيب بعض أهل الحديث يرجع إلى الحشو الناجم عن الاحتجاج به .

 أما القاعدة السليمة التى ينبغى على المحدثين التقيد بها حتى يسلم منهجهم من الأخطاء و الحشو ، فهى تتلخص فى ضرورة توافر عاملين : أحدهما التثبت من صحة الحديث ، والثانى : فهم معناه .(9)

وهكذا استطاع الإمام ابن تيمية باستخدامه لمنهج المقارنة أن يحدد مدي الاقتراب و الابتعاد عن طريق السلف ، محاولاً البرهنة على أن المحدثين الذين تنسحب الشروط السالف الإشارة إليها عليهم – هم الممثلون الحقيقيون للمدرسة السلفية لأنهم اعتمدوا فى دينهم على استنباط النصوص لا على خيال فلسفى ، ولا رأى قياسى ولا غير ذلك من الآراء المبتدعات .

ومن هنا أيضاً يظهر الفرق بين السنة و البدعة :-

السنة و البدعة:

إن تعريف السنة هو :"ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتقاداً واقتصاداً وقولاً وعملاً" .(10) وكل ما يخالف السنة فهو "بدعة". وقد اقتصرت البدع فى البداية على بدعة الكلام فى الدين بغير طريقة المرسلين وأفكار الخوارج ونظريات الشيعة . ثم اتسع مدلولها فأصبحت تطلق على الفلسفة وأنواع التصوف الفلسفى بكل صوره . وربما انسحبت أيضاً على أهل الحديث الذين لا يراعون تطبيق قواعد علم الجرح و التعديل ، ولا يستوثقون عند تلقى الحديث أو روايته . فكل ما تفرع عن طريق يخالف السنة فهو نوع من البدع أياً كان مصدره وسببه

ويضع الشاطبى تعريفاً محدداً للبدع التى التزم بها الصوفيه فيقول " فالبدعة عبارة عن طريقة فى الدين مخترعة ، تضاهى الشريعة ، يقصد بالسلوك عليها المبالغة فى التعبد لله سبحانه ".(11)

وقد استطاع شيوخ السلف بهذه القاعدة التى فرقوا بها بين السنة و البدعة المحافظة على الإسلام نقياً من شوائب الثقافات الأخرى .

كذلك تنبه السلف إلى اليهودية و النصرانية ، وتيقظوا لتأثيراتهما خشوا أن تمتد إليهم آثارهما فى شكل عقيدة أو عبادة أو يلوك ، وظلوا ينظرون إليها نظرة حيطة وحذر ، لأنه – كما ورد على لسان قتادة – أن هذه البدع " ما نزل بهن كتاب ولا سنهن نبى " .(12) ويحصر الطبرى أصناف المبتدعة فى أهل النصرانية و اليهودية و المجوسية و السبئية و الخوارج و القدرية و الجسمية .

وهكذا نرى السلف حريصين على تمحيص ما يرد إليهم من عقائد وقواعد سلوك بمنهجهم الدقيق ، لأبعاد التأثيرات الخطرة على التراث الإسلامى وحفظ كيان الجماعة الإسلامية عملاً بالحديث " عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى" ، فإذا تناقلوا هذه السنة ، وحرصوا على حفظها ، أمكنهم التعرف على المخالف لها ، ومدى انحرافه عنها . يقول سفيان ابن عيينة " من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا ففيه شبة من النصارى.(13)

ومع هذا فمن الحق أن نقرر وجود ما هو من قبيل الإسرائيليات التى نقلها أمثال وهب بن منبه  وكعب الأحبار أو غيرهما ممن كانوا على الدين اليهودى قبل اعتناقهم للإسلام .

وهنا نجد شيوخ السلف يضيفون عليها الخناق فى دائرة محصورة لا تخرج عنها . يعلق الذهبى على حديث لوهب بن منبه يتناول السماوات و البحار و الهيكل و الكرسى وغيرها من الغيبيات بقوله "كان وهب من أوعية العلوم ، لكن جل علمه عن أخبار الأمم السالفة كان عنده كتب كثيرة إسرائيليات كان ينقل منها . لعله أوسع دائرة من كعب الأحبار وهذا الذى وصفه من الهيكل وأن الأرضين السبع يتخللها البحر وغير ذلك ، فيه نظر والله اعلم . فلا نرده ولا نتخذه دليلاً ".(14)

وإذا كانت هذه الإسرائيليات لا تخرج عن نصائح و مثل أخلاقية فإن أهل الحديث سمحوا أحياناً بنقلها ، وفقاً لإحدى قواعد الجرح و التعديل التى تترخص مقسط فى أحاديث الترغيب و الترهيب .(15)

قيل لابن المبارك ، وروى عن رجل حديثاً ، فقيل هذا رجل ضعيف فقال :"يحتمل أن يروى عنه هذا القدر أو مثل هذه الأشياء ، قلت مثل أى شىء ؟ قال : فى أدب و موعظة ، فى زهد أو نحو هذا(16) ، إذ من الجائز أن يروى مالم يعلم أنه كذب.(17)

بالإضافة إلى ما يقرره ابن تيمية من أن الأصول الكلية  فى الأديان السماوية جميعاً واحدة(18)  ، وأن القرآن و التوراة يتفقان أصلاً فى القواعد العامة من حيث إقرار التوحيد و النبوات كما أن القرآن أحيا الكتب السماوية السابقة .(19)

وعندما يتناول بالشرح الأحوال التى يجوز فيها الإتيان بالإسرائيليات فأننا نراه يعبر عن ذلك تعبيراً يدل على وعيه العميق بطرق البحث ، ويضع فيصلاً غاية فى الدقة بين الاعتماد عليها ، والاعتضاد بها ، فيذهب إلى أنه " يعتضد بها ، ولا يعتمد عليها " .(20)

أما فيما يتصل بالعبادات فهنا ينبغى وضع القواعد المشددة إذا " ليس لنا أن نتعبد فى ديننا بشىء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا"(21)  ، كما يضع هذه القاعدة العامة المتصلة بالإسرائيليات فيقول :" يجوز أن يروى منها ما لم يعلم أنه كذب ، للترغيب و الترهيب فيما علم أن الله تعالى أمر به فى شرعنا و نهى عنه فى شرعنا " ، ثم يتناول العبادات فيحذر بقوله " فأما أن يثبت شرعاً لنا بمجرد الإسرائيليات التى لم تثبت ، فهذا لا يقوله عالم ".(22)

يتضح مما سبق بيانه التغيرات الطارئة على تاريخ المسلمين منذ عصر النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته ، وصدق من ادعى السلفية و تمسك بها ، وزيف من انحرف عن المنهج السلفى الذى جاء به النبى صلى الله عليه وسلم و تمسك به صحابته رضوان الله عليهم ومن اتبعهم بإحسان.

                

(1) الخطط (2/356) .

(2) تذكرة الحفاظ 1/240

(3) الخطط 2/356

(4) ترجمة الإمام أحمد للذهبي ص32

(5) البداية والنهاية (10/329) .

(6) البداية والنهاية (10/363) .

(7) شرح العقيدة الأصفهانية ص68

(8) نقض المنطق ص137

(9) نقض المنطق ص22

(10) الرسالة الحموية ص161

(11) الاعتصام (1/30)

(12) تفسير الطبري (6/189) .

(13) توحيد الألوهية ص65 .

(14) العلو للعلي الغفار ص99

(15) الاعتصام 1/88

(16) الجرح والتعديل 1/30

(17) توحيد الألوهية ص251

(18) شرح العقيدة الأصفهانية ص133

(19) نقض المنطق ص93

(20) توحيد الألوهية ص343

(21) التصوف ص463

(22) توحيد الألوهية ص251