الثورات وميراث الغضب العربي

قدري شوقت محمد الراعي

[email protected]

قلت لصديقي الثوري وأنا أحاوره :" برأيك هل تري أسباباً واضحة ومحددة لإنبثاق الثورات العربية من قماقم الصمت فجأة دفعة واحدة علي هذا النحو المتواتر المتتابع ..؟"

فانفرجت أساريره , ولاحت علي ثغره ابتسامة , ومكث ملياً يفكر..

ومضت لحظات , استبطأت فيها إجابته , فقلت :" هل السؤال معضلة إلي هذا الحد ..؟"

فأجابني في حماس :" كلا يا صديقي , لقد عن لفكري الآن خاطر غريب , هل الثورة ميكروب معدي ينتقل من بلدٍ إلي بلد , ومن شعبٍ إلي شعب ؟! .."

فتبسمت ضاحكاً من قوله , وسألته :" وما رأيك أنت ؟"

فأجابني باسماً :" صحيح أن الميكروبات المعدية الفتاكة قد تسقط شعوباً , وتردي أمماً , ولكنها بالقطع لا تستطيع أن تسقط أنظمةً عاتية كتلك التي تستوطن بلادنا العربية عقوداً من الزمان , حتي باتت كالجبال الراسيات لا يفتها زلزال , ولا يشطرها بركان ..! ..أعتقد أن الأمر كله لا يعدو شعوراً جماعياً بالملل واليأس

فقلت مستفسراً :" الملل واليأس ؟!"

فأردف موضحاً :" أجل , الملل واليأس يا صديقي هما السبب , ألم تر أن الشعوب العربية عاشت حيناً من الدهر تربي في قلبها الحلم , وتمني نفسها بالأمل , وترقب عقوداً من الأزمنة العجاف شاخصة إلي الأفق البعيد علها تصافح فجراً جديداً تنتكس فيه ألوية الظلم والجبروت , وتزهر فيه أشجار العدالة والكرامة الإنسانية ..!

ولكم منحت الشعوب العربية حكامها ألف فرصة , وصبرت عليهم ألف مرة

ولكنها كانت تعود في كل مرة خائبة الرجاء , كسيرة الخاطر , مكلومة القلب والشعور ..!

حكم يخلف حكماً ....ولا جديد .....ثوب آخر مهترئ,  وجه آخر قميئ , عقلية يستوطنها المرض , ونفس تركبها حمير الصلف والغطرسة والغرور ..

حكام تشبعوا بجنون العظمة إلي الحد الذي تصوروا أنهم في الأرض أنصاف آلهة , وأوصياء علي الخلق

وشعوبهم لا تعدو مجرد أطفال في حضانات ...!"

وصمت صديقي برهة ...

وتذكرت في نفسي حينئذٍ مقالة الزعيم الليبي الهارب (معمر القذافي) حين كان يجلس إلي الكاميرات في الماضي القريب منتفخ الأوداج كديكٍ إستعراضي , " منفوش " الريش كطاووسٍ مغرور , يهذي بكلام لا يفهم

كرجلٍ مسطول انتهي لتوه من تعاطي "تربة حشيش" , ثم يقول في صلف أحمق :"أنا عميد القادة العرب "

بل إن غروره المطعم بالبلاهة حدا به يوماً إلي الخروج عن الآداب الإسلامية والإدعاء الوقح بأنه (نبي الصحراء) وأن (الكتاب الأخضر)- دستوره المزعوم- أحق أن يُحتكم إليه في ليبيا كبديل عن (القرآن)..!!

...وأفقت من شرودي ..وصديقي لم يزل يدلي بدلوه :" أتعرف يا صديقي ..إن من الخطأ الجسيم , والظلم الفادح أن نختزل الثورة –أية ثورة- في فكرة ما , أو مبدأ محدد , أو حتي شخصٍ بعينه ..

إن من الخطأ أن نقول (محمد بوعزيزي) كان مفجراً للثورة التونسية , أو (خالدسعيد) كان ملهماً للثورة المصرية ...كلا هذا خطأ تاريخي ينبغي ألا ننزلق في قعره ...!!

إنه ميراث من الغضب الهائل انتقل بحكم المعاشرة والجوار والألم المشترك من جيل الأجداد إلي جيل الآباء

ثم إلي جيل الأبناء...

إنها ثورات الشعوب الحرة ضد غربان الظلم , وسياسات القمع والإذلال

إن من الأحري أن نقول إن ملهمي الثورات العربية وأبطالها الحقيقيين هم الحكام الفاسدين أنفسهم ..!"

فقلت مؤمناً علي كلامه :" معك حق , فلكل فعل ردة فعل , وعلي قدر الفعل تأتي ردة الفعل , وإذا لم يكن

الوطن قادراً علي أن يقدم لبنيه الحد الأدني من الحقوق الإجتماعية التي تكفل له عيشة حرة , وآدمية

محفوظة . وكرامة مصانة ...فهو وطن مريض بالعجز والبخل ..!

وإذا لم يكن الوطن ملاذاً آمناً , وبيتاً عائلياً كبيراً تستشعر الشعوب في أركانه الراحة والأنس والحرية

والمساواة .....فهو وطن مريض بالسادية , وسجن كبير تقمع فيه الآراء , وتلقي خلف قضبانه حتفها

الأحلام ..!!

لقد عاشت الشعوب العربية زمناً في سجون الإغتراب الداخلي , تكتوي بقسوة الأوطان , وصلف الأنظمة

وغباء الحكام ..حتي طفح الكيل , وتشبعت الأنفس المكلومة باليأس المرير , وعوت في القلوب الصابرة

ذئاب الجوع والحرمان ..!

وأمن صديقي قائلاً : أجل يا صاح ...وها قد هبت ريح التغيير ...آية من آيات الله

انبثقت زاعقة في تونس , ثم مضت لتحيي بأرض النيل مواتها , وهاهي الآن في ليبيا , وسوريا

واليمن ...متوهجة , ومشتعلة .

ولا أستبعد يوماً تغادر فيه إلي بلادٍ أخري ظمآنة تواقة ...وشعوب أخري مرتقبة صابرة

وعلي الباغي ياصديقي تدور الدوائر..!!