المتشاطر

 نبيل عودة

كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة

[email protected]l

تشاطر علي أحد المتثاقفين ، رافضا بمقابلة مع مجلة اسبوعية ، ما أسميته مرة "ادباء أميين " ، وكنت أقصد ان أدبائنا بعيدون عن الأدب المحلي ، أدب مجتمعهم ...  وكل يغني على مواله ، ولا يقرأون ما ينشره زملاؤهم الكتاب من أعمال ، وبالتالي لا يمكن الحديث عن حركة ثقافية بأي معيار كان . وكانت شطارته ، بدل طرح وجهة نظره ومحاولة البرهنة عليها ،  وهو أمر مقبول وطبيعي تماما ... ان تساءل اذا كان صاحب موقف "ادباء أميون" ينجح في امتحان الاملاء؟

ماذا كان هدفه من هذه الجملة الغبية ؟

هل ليثبت انه صاحب موقف  مغاير لما طرحه نبيل عودة  من رؤية نقدية ، لقيت شبه اجماع من كل الأدباء الجادين ؟ أم انه يقصد السخرية لأمر في نفس يعقوب ؟ أم يحك لنفسه بيض جربه؟ ام يريد ان يثبت ان كراساته تباع  ( وليس مهما أن تقرأ ) رغم أنف الواقع المأزوم ؟ حقا أعرف انه بياع شاطر .. أولا وزارة الثقافة تشتري  بين 300 – 400  نسخة من كتابه .. وأي كتاب آخر يصدر لغيره ، وعمليا هذه تغطية أساسية للتكاليف ، ثم يحمل شوالا بكتبه ويدور ليدلل  ويشحد من أصحاب المكاتب والمعارف بعض النقود فيما يسمى توزيعا للكتاب ؟ .

تعالوا نبق الحصوة ونتكاشف ...

ذلك المتثاقف  يدعي الأدب ولا يكاد يصل في ابداعه الى قصة واحدة ذات شأن فني مقبول ، او يستحق جهد القراءة ، رغم اننا مددنا له حبال روحنا ولاطفناه  ، واعتبرناه صديقا ، لعله بعد عمر مديد وتجارب لا تتوقف ،أن  يستوعب انه لن يتجاوز منطقة الصفر الأدبية. وأن يستريح ويريحنا .

كتب الشعر الذي لا علاقة له بالشعر أو الذوق الأدبي البسيط . وعرض نفسه للسخرية والتهكم حين ظهر على المنصة ليلقي ما استطاع ترتيبه من كلمات  ، كتب القصة ، ولم يرق الى مستوى النثر البسيط الذي يستحق جهد القراءة ، بلغة أبسط ما يمكن وصفها ، بأنها كتابة "استمنائية" .. ضحلة جافة وفارغة من فن القص أو رونق الشعر   .. حقا صفة " الاستمناء " لم أجد أنسب منها وصفا  ، استعرتها من عالم المراهقة ، مع ان المتشاطر تجاوز عمر المراهقة  جيلا ، ولم يتجاوزها بعقله وثقافته واسلوب صياغة أعماله، وعلاقاته مع الناس .

لست ضد الحوار ، ولا أرى ان آرائي مقدسة ، بل هي مواقف قابلة للتغيير والتطوير ، ولست ممن يتمسكون برأي ثابت غير قابل للتغيير . ما اراه اليوم هو صحيح في لحظة النشر من وجهة نظري على الأقل ، وغدا قد أجد ما نشرته أمس  بعيدا عن الواقع . وما دمت قادرا على اعادة التفكير من جديد ، فانا جاهز لقبول الرأي الآخر أو تغيير ما طرحته . لا قداسة لأي موقف الا بمدى مقاربته للواقع وتعبيره عن الحقيقة.

هكذا أفهم الحياة والثقافة والسياسة والعلوم ... والعقل البشري .

ان الواقع الثقافي العربي في اسرائيل ما زال يعاني من سحر فترة اكتشاف العالم العربي ، بعد حرب 1967 .. لشعرنا خاصة ولأدبنا المحلي عامة، وأذكر فترة دراستي في الاتحاد السوفييتي بين عامي 1968 – 1970 ، كيف كانت تصدر الصفحة الأدبية  لصحيفة الأخبار الشيوعية اللبنانية نسخة طبق الأصل تقريبا منقولة عن  الصفحة الأدبية لصحيفة الاتحاد الشيوعية في اسرائيل . ونفس الأمر مع مجلة " الطريق " اللبنانية ، التي كادت تكون نسخة مكررة من مجلة "ألجديد" الحيفاوية  .

وبات كل ما ينشر في الصحافة الشيوعية في اسرائيل يحظى بشعبية هائلة في الصحافة العربية كلها ، وكنت أحد هذه الاسماء الذي نشرت قصصه في عدة مجلات وصحف أدبية رغم اني ككاتب كنت في بداية طريقي  ... وعدد ما كتبته لا يتجاوز الخمسة عشرة قصة . كانت بالنسبة لي بداية تشكيل وعيي القصصي ، وتجربني الابداعية .. ومع ذلك لقيت ترحيبا وتقييما أخجلني ولم ينفخني مثل البالون المتشاطر ، ومن أسماء أدبية عايشتها في موسكو ، ومن أبرزهم المرحوم المقتول غدرا  المفكر والناقد الكبير الدكتور حسين مروة، الذي طلب ان ينشر لي مجموعة قصصية في بيروت في  ذلك الوقت المبكر ، ولكن مسؤوليتي الأدبية جعلتني أرفض لعدم  قناعتي اني تبلورت  قصصيا . وأذكر أيضا الأديب السوري  المرحوم سعيد حورانية ، محرر صحيفة "انباء موسكو" باللغة العربية في وقتها والتي نشرت فيها بعض أعمالي الأدبية أثناء دراستي في موسكو ، وادباء آخرون من سوريا والسودان وفلسطين ولبنان .

في تلك الفترة كان نجم  محمود درويش يسطع في المشرق كله، واسمه بات ماركة معروفة للشعر الراقي ، وأذكر تقييما لحسين مروة في جلسة تعارف بالمعهد الشيوعي عندما أعتبر محمود درويش الذي درس معنا بنفس المعهد ،  أبرز شاعر عربي معاصر على الاطلاق .. وحقا بات سحر درويش الثقافي والشعري محفزا لمئات الأقلام للحاق بركب الشهرة ، وتحول الحزب الشيوعي الى الحاضنة الثقافية والفكرية للأدباء المحليين . وتحولت صحافته الى منبر اعلامي وثقافي مركزي للأسماء الأدبية التي يتناولها العالم العربي بعاصفة من الحب والتمجيد ، بدون تمييز بين ما هو أدب حقيقي ، أو مجرد ترهات .

حقا بعض الأسماء ظلمت لأنها رفضت الانطواء تحت مظلة الحزب الشيوعي ونهجه السياسي والثقافي  ، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر  فوزي عبدالله ود. جمال قعوار ود.فهد أبو خضرة ود. حنا أبو حنا وآخرين . لا أقول هذا انتقادا للدور الثقافي للحزب الشيوعي ، انما للدلالة على مرحلة تاريخية ، كانت مهمة برأيي رغم الغبن الذي طال أسماء أدبية هامة في أدبنا المحلي ، وبالطبع ، صاحبنا المتشاطر اليوم على نبيل عودة ويريد امتحانه بالاملاء  ، ليس منهم اطلاقا ولم يكن من المشار اليهم من قريب او بعيد  ، لفقرة الأدبي  وسطحيته  الفكرية ، ولآ اريد ان أضيف أكثر حتى لا يظن أني أقصد التشهير به ، فهو لا يستحق حتى التشهير.

وقتها تنبه شاعرنا محمود درويش للخطر على تطور أدبنا المحلي فأطلق بافتتاحية لمجلة "الجديد" الشيوعية ،  التي كان يحررها ، وقبل مغادرته حيفا الى موسكو ثم للعالم الواسع ،  صرخته المدوية والمحذرة للعالم العربي المنهرق على كل كتاباتنا الجيدة منها والتافهة  : " أنقذونا من هذا الحب القاسي ".

ولكن صرخته لم توقف احلام اليقظة التي أودت بنهضتنا الثقافية المميزة في ظروفها ، وأفقدت ثقافتنا تأثيرها الاجتماعي والمساحة الواسعة التي كانت لتوزيع الكتاب المحلي ، وبدأ الوضع الثقافي بالتراجع والاندثار لدرجة غياب مجلة"الجديد" الممتازة  والمدرسة الفكرية والثقافية لعشرات الأدباء والسياسيين ، وغياب الأدب الجاد من صفحات  الجرائد ، وبدء شلال من النشر السطحي ، وغياب المحرر الثقافي من مجمل صحفنا ، لأن الثقافة أضحت تسالي ، والمقاييس الأدبية تحكمها الفوضى في النشر، وبدأنا نفقد حماسة القراءة لدى القارئ المحلي ، وأصبح توزيع الكتاب المحلي يعتمد على قدرة صاحبه على  العتالة وشحادة  ثمنه ( اكراما لوجه الله ) من المؤسسات والأفراد ، وأكاد أجزم ان الألف نسخة أو حتى الخمسمائة ، أو أقل ، التي يطبعها الكاتب  ، مهما كانت مكانته ، لا يقرأها أكثر كمن 50 شخصا وربما هذا الرقم مبالغ فيه.

ان عدد الادباء المحليين يتجاوز الألفين وربما أكثر بكثير  ، على الأقل من يدعون الأدب .. اذا لم توصل لهم كتابك كاهداء فلن يشتروه ، واذا لم تخجلهم وتكرههم فلن يشتروه ، ولا أتحدث عن الفارئ العادي .. ، ومع أول تنظيم جديد للمكتبة ، يجد الكتاب المحلي طريقة لسلة المهملات ، ولا اتحدث عن نظرية ، بل عن معرفة مؤكدة من زملاء وادباء جادين .. يعترفون ان ما يصدر بمعظمة لا يستحق جهد القراءة ، ولا يستحق ان يحفظ بمكتباتهم . وانهم باتوا لا يجرؤون على مطالعة كتاب محلي الا للذين يعرفونهم جيدا . الا صاحبنا "الاستمنائي" العظيم ، الذي يعيش أوهام الأدب ، وأوهاما ان القراء ينتظرون ابداعه ، وربما  ينتظر من يرشحه لجائزة نوبل الأدبية .

بالطبع سنرى كتابات نقدية تتناول "قصصه" أو " شعره ".. تحمل من المهزلة أكثر مما تحمل من الأدب الجاد والنقد الأدبي .وأكاد اجزم ان بعض نقادنا يكتفون بقراءة عناوين المواضيع ، وتكاد كتاباتهم تتشابه في افتتاحيتها ومدائحها .. ونهايتها .. فقط يغيرون اسم المنقود .

هل في ثقافتنا ادباء يستحقون هذه الصفة  ؟

أجل يوجد . لكنهم أقلية تبتعد عن الفوضى بألم وترقب ان يتغير الوضع .. وحتى اصداراتهم تواجه مشاكل في التوزيع وتعتمد على التوزيع الشخصي وشراء وزارة الثقافة لل 300 – 400 نسخة .

أما الأكثرية ، فهم ادباء لا يقرأون أدبنا المحلي ولا يعرفون ما يجري في ثقافتنا ، منقطعون فكريا وثقافيا عن محيطهم ، ربما لا يعرفون انهم ابناء لمجتمع عربي فلسطيني داخل اسرائيل ، يجهلون تاريخه الثقافي والسياسي الذي يفتخر المستمني انه مقاطع له  . ويجهلون ما يجري في حياته الثقافية ، ولا يشغلهم الا نشر نصوصهم ، التي لا يربطها بزمان ومكان حياتهم ومجتمعهم  شيئا .

قد أخطئ في الاملاء .. ولكني لا أخطئ في فهم تفاهة الشخص وما ينشره ، ولا أخطئ في استقامتي ، ولا أخطئ في شرفي الثقافي ، حين يخطيء المستمني في عقله وكلماته وثرثرته .