المكتبة العامة

المكتبة العامة

مروان سالم

[email protected]

حدّثتني النفس الرغيبة ذات يوم أن أزور المكتبة العامة ، فأطّوّف ساعةً في مجالي العلم وواحة الفكر ورياض الأدب. أرِدُ تلك المشارب الزلال، وأستروح تحت أغصانها الظلال، وأنعَم في سروحها الفينانة من لغب الدنيا وسغب العيش وكدر الحياة،ثم لأصل الرحم الواشجة بيني وبين المعرفة بسبب من القراءة والمطالعة والدرس. قطعت صلاتي بالعالم الخارجي وارتفعت عن دنيا الناس ومشاغل القلب وشواغل العيش، وأخذت عنان دابتي نسير الهوينى نحو المكتبة، سير العاشق المتوجد على لقاء فتاته، أو العابد المتحنّث على أداء صلاته، وكلما مررنا بركب في الطريق أمسكت عنان دابتي الجموح وطفقنا نسأل عن موقع هذا الصرح الشامخ والمعلم الفكري الحر. وقد تمثّل في الخاطر المكدود أن علم الناس بها واطّلاعهم عليها جارٍ على كل لسان متمثّلُ في كل ذهن ! ولكن و ا أسفاه..أصابتني الدهشة وعقدت لساني الحيرة حينما وقفت على جهل العامة بها ونفي المعرفة عنها، فذهبت أعتسف الطريق اعتسافاً حتى هداني الله لها بعد لأيٍ، وهيأ الوصول إليها بعد عناء. تلمّست لدابتي مكاناً قصياً، أنختها في كنفه وأرحتها في ظلاله، ثم ترجّلت نحو المكتبة وئيد الخطى مرسل النفس مرهف الحس، وبينا أنا في سيري الوئيد وحلمي الوليد إذ وثب المبنى إلى الطرف الكليل .. فماذا رأيت ؟! أعواد نخرة من داثر الحديد رُكِّبت فيه نوافذ بالية ما تكاد تفتح، وأبواب صادئة ما تنفك مشرعة ، وقد فُرِشَ في فنائها حديقةٌ شاحبة اللون ذاوية الوجه ذابلة الأديم، لا يعرف الماء إليها حيلة ولا يهتدي إليها سبيلاً.

دلفت من بابها الصادئ، أتلفّت تلفت المريب وأتلمَّسُ تلمس الأعشى، لعل البصر العبران يقع على صلب عكف على درس أو وقف في بهو أو شخص من بعيد. ثم زحفت قليلاً إلى الباحة، فإذا برجلين يتناجيان على أريكة، ويتهامسان في سكون، فبينا هما كذلك إذ أبصرا الواغل في الحمى والزائر المرتاب، فهتف أحدهما بالحائر الدهش ، فجفلت من هتافه جفول الظبي الآمن في المرعى الخصيب، والعاشق الزائر من لحظ الرقيب، فلمّا سكنت بلابل النفس وهدأت نوازع الخوف وآنس كل منا في الآخر السلم والسلام والطمأنينة والأمان، سألتهما عن قيم المكتبة، فأومأ أحدهما إلى باب من الأبواب فعلمت أن صاحبي هناك.. فانتظرت هنيهة، ثم خرج إلي شاب مكتنز اللحم مفاض البطن مطهّم الوجه قصير الأخدعين، في ربيع العمر، ربعة في الطول وربعة في القصر، يترقرق ماء البشر في وجهه فسلم في بشاشة وحيّا في وداعة وصافح بلطف، فعرّف كل منا اسمه إلى الآخر، ثم أخذنا بأطراف الحديث وتشاجن بيننا الكلام حتى أدّى إلى الحديث عن أحوال المكتبة الزرية وأوضاعها المتردية، فقال صاحبي وأفاض في القول ولام وأغلظ في الملام..وكان من مطارحات الحديث وتساقط الكلام أن عَتَبَ على وزارة الثقافة قلة احتفالها بالمكتبة وضعف اكتراثها بها، فالموقع لا يغري الزائر والمبنى لا يبهج الناظر، أما الموقع فيكفي أن تسأل أهلَ هذه المدينة البائسة عنه، فقلَّ من طرق سمعه مكتبة عامة بها؛ بَلْه موقِعَها، وأما المبنى فيغني وصفي له زيارةٌ من قارئي عجلى إليه، لترى بعيني نفسك بداءة البناء وبذاءة الفِناء وركاكة التصميم.

عزّيت صديقي بكلام لا أكاد أعزّي به نفسي، وقد بدا لي من حديثه أن أمسك عن بعض الكلام وعرّض عن بعضٍ وأرسل الباقي، فودّعته وفي صدرنا هم وبين شفاهنا كلام وعلى وجهنا حسرة .   

 يا لَلَّه ولهذه الأمة...ماذا حاق بنا من الغير وعاقنا عن السير فألحّ بنا العثار حتى نبت القافلة عن الركب وكبا الفارس في الجدد وحار المركب في البحر وسقط القائد في المعركة، أليست أمتنا أمة القلم الذي تنزل به الوحي، ونبينا خاتم الرسل الذي أوتي جوامع الكلم؟! وا حسرتاه على أمة زهدت في تراثها حتى جعلته في الرفوف زينة في البهو أو سلعة في السوق أو فريضة لوارث! أعقمت أرحام العلم وجفت ينابيع القلم وغاضت موارد الفكر، فغدا الدرس هما والبحث كدّا والعلم عبئا ؟!

أفيقوا بني قومي...فقد غبّرت الأمم في وجوهنا وخطا الركب من فوقنا وقذف بنا التيار في الطريق، فما من يوم يتنفس صبحه تنفس الوليد ويشرق في الكون إشراق الأمل إلا حمل في برده أثارة من علم أو بشارة من كشف أو قبساً من حقيقة، وأمتنا لا تزال تتعلل بالأماني الكواذب من الأوهام وتعقد الألوية الغوادر في الأحلام.

 إن رقي الدول وتقدم الأمم وحضارة الشعوب وقفٌ على من جاذب برد المجد بالغلب وقهر سورة الألم بالعزم ودافع شدة البلاء بالصبر.

فهل بني قومي إلى مردٍّ من سبيل! وهل إلى هبّة من عزيمة! فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

أفيقوا أفيقوا قبل أن يُحْفَر الثرى                      ويُصْبح من لم يجنِ ذنباً كذي الذنب