طائفة السيخ

طائفة السيخ .. والقرآن ...

د. فاروق المناصير

كان رجلاً واسع الثراء ومن أكابر التجار في (الهند) ، يعمل في استيراد وبيع الأقمشة ما بين الهند وإنجلترا والصين وإيران .

كان من طائفة (السيخ) المشهورة في شبه القارة الهندية ، وعقيدتها خليط من الإسلام والنصرانية والهندوسية .

وقد رزقه الله بولدين جميلين وذكيين في عقد العشرينيات من القرن المنصرم ، أراد لهما أن يتعلما تعليماً خاصاً ومميزاً حتى يديرا تجارته الواسعة في هذه الأقطار السالفة الذكر وخاصة اللغتين الفارسية والإنجليزية عندما يكبران .

أما اللغة الإنجليزية فأمرها سهل وميسور، فهي لغة المستعمر الإجنبي البريطاني في الهند ، وسوف يتعلماها في المدارس الهندية . ولكن أين سيتعلمان اللغة الفارسية ؟ وهي وسيلتهما للمتاجرة والسفر إلى (إيران) التي كانت تسمى (فارس) .

قام بالبحث عن رجل ضليع باللغة الفارسية ، فنصحه أحد أصحابه بإرسالهما إلى المسلمين ، فهم خير من يتحدث بالفارسية في شبه القارة الهندية ، فالمسلمون يتحدثون بلغة القرآن ألا وهي (العربية) من أجل عقيدتهم ودينهم وتطبيق شعائرهم التعبدية التي لا تصح إلا (باللغة العربية) وخاصة (الصلاة) .

أما الفارسية فهي لغة الشعر والأدب والثقافة المنتشرة بين مسلمي الهند .

وهذا ما حدث بالفعل .. فقد أوصله بحثه وتقصيه إلى عالم مسلم ضليع باللغتين العربية والفارسية ، فكلّفه بتعليم ابنيه الفارسية حتى تكون لهما سنداً في تجارتهما مستقبلاً عندما يشبان عن الطوق ويكبران وتكون لهما تجارة مع الإيرانيين .

وهكذا .. أصبح الطفلان أو قُل الصبيان يذهبان كل يوم إلى منزل العالم المسلم الهندي ليتعلما اللغة الفارسية .

وكان الشيخ المسلم حريصاً أن يتعلما الفارسية وأن يتقناها بناءً على رغبة والدهما التاجر والوجيه السيخي .

ولكن العالم المسلم كان إضافة إلى تعليم الصبيين اللغة الفارسية .. كان يعلمهما عقائد الإسلام وشرائعه وأحكامه . واستمر على هذا المنوال سنوات عدة كان خلالها (المعلم والمربي والناصح) ، وأحبه الولدان غاية الحب حتى أصبح في نظرهما في مقام الأب .. فأبوهما مشغول عنهما ـ دائماً ـ في تجارته وسفراته البعيدة والطويلة ، أما هذا الشيخ المسلم فهو المصاحب لهما بشكل دائم في الليل والنهار وعلى مدار السنة ، وهو أرفق بهما من أبيهما وأمهما وقد تعلما منه احترام الوالدين والإحسان إلى الآخرين ، والرفق بالفقير والمسكين . وما هي إلا فترة قصيرة حتى أسلم (الصبيان) على يد شيخهما المسلم ، ولكنه طلب منهما إخفاء إسلامهما حتى يأتي اليوم الذي يُظهران فيه دينهما الجديد .

ومرت أيام وأيام وجاءت مناسبة الأعياد عند طائفة السيخ ، فذهبا مع أبيهما إلى المعبد لسماع موعظة الكاهن والاحتفال بالعيد مع السيخ وعندما بدأ الكاهن يلقي موعظته أمام الجمع من أتباع الطائفة انبرى له الولدان يردان عليه في كل كلمة وجملة وعبارة يذكرها في خطبته وموعظته هذه .

أصيب الأب بالذهول ، كما أصيب الكاهن بالحيرة والحرج ، فسألهما الكاهن من علمكما هذا الكلام ؟ فقالا :

ـ معلمنا المسلم (فلان) .

وهنا ضجّ السيخ وارتفعت أصواتهم غضباً وحنقاً على هذا الأب الذي أرسل ابنيه لعالم المسلمين وسيهما عنده دون أن يسألهما ماذا يدرسان وكيف يتعلمان وماذا يقول لهما العالم المسلم ؟!

عندها قرر الأب والكاهن الذهاب إلى الشيخ المسلم ليؤدباه على إفساده لهذين الصبيين الصغيرين . ولكن الشيخ المسلم بدأ يناقش الكاهن في ديانته وعقيدته ويُفند كل أقواله أمام الأب وأمام الولدين .

واستمر الحوار والنقاش ساعات طوال ، كان (كاهن السيخ) عاجزاً عن الرد على عالم المسلمين .

رجع الأب مع والديه إلى منزله وهو في حالة ذهول مما سمعه من الشيخ ولم ينم تلك الليلة فقد كان غارقاً في التفكير في كلام عالم المسلمين وعندها عزم على أن يتخذ قراراً مصيراً له ولأسرته .. (لقد قرر أن يُسلم) .

فلما طلع الصباح ذهب إلى بيت الشيخ المسلم ، ويا للمفاجأة غير المتوقعة ، لقد وجد كاهن السيخ قد سبقه إلى منزل عالم المسلمين وقد أشهر إسلامه على يد الشيخ الفقيه .

نعم ، لفد أسلم الكاهن كما أسلم الأب وزوجته ايضاً ، بل أسلم بعد ذلك عدد كبير من طائفة السيخ على يد هذا العالم المخلص والذكي .

وكبر الولدان وبدءا يعملان في التجارة مع أبيهما .. وقد منّ الله عليهما بحفظ القرآن الكريم . ثم مات الأب وورثا منه ثروة طائلة وواسعة .حينها فكرا في أن يخدما الإسلام بشيء يفيد المسلمين في الهند.

فهداهما التفكير إلى إنشاء (مراكز لتحفيظ القرآن) ، وهكذا تم لهما إقامة مئات المراكز الإسلامية لتحفيظ القرآن الكريم في عموم ربوع الهند والباكستان ، ثم في أواسط الأربعينيات أو الخمسينيات ذهب الابن الكبير للحج إلى بيت الله الحرام ، وهناك في مكة بدأ يسأل عن مراكز لتحفيظ القرآن الكريم ، فلم يجد ـ أو هكذا بدا له ـ مراكز وحلقات لتحفيظ القرآن الكريم إلا في الحرم المكي . فقرر أن يقيم مراكز لتحفيظ في أحياء مكة وأن يدفع مكافأة أو جائزة لكل من يحفظ كتاب الله ، قدرها (ألف ريال سعودي) وهو مبلغ كبير بمقاييس ذلك الزمان . وتقاطر الناس يحفظون كتاب رب العالمين ، إما رغبة في الحصول على الأجر، أو رغبة في الجائزة المالية .

وبارك الله لهذين الشابين في التجارة ووسّع عليهما في الرزق والعطاء والفيض الرباني .

ثم سافر أحد الأخوين إلى دولة الكويت للتجارة في النصف الثاني من الستينيات ، هناك عرض تجربته وتجربة أخيه على جمعية الإصلاح الاجتماعي في مسألة إنشاء مراكز لتحفيظ القرآن ، وعرض عليهم مدّ هذه المراكز بمناهج التدريس الموجودة عنده في الهند ، وتمّ له ما أراد ، وانتشرت مراكز تحفيظ القرآن في دولة (الكويت) .

وبعدها انتقل نفس هذا المشروع إلى (مملكة البحرين) في النصف الثاني من السبعينيات على يد (جمعية الإصلاح) البحرينية .

وكنت من أوائل من درس في هذه المراكز الطبية والتي خرجت الآلاف من الشباب البحريني الحافظ لكتاب الله تعالى ـ من الذكور والإناث ـ .

ثم انتقل المشروع إلى دولة الإمارات العربية وإلى دولة قطر وإلى سلطنة عمان .

وأجر كل هذه المراكز يذهب ـ إن شاء الله ـ إلى هذين الشابين السخيين وقبلها إلى ميزان حسنات الشيخ المسلم الهندي الذي كان سبباً في هدايتهما إلى الإسلام .

إنها قصة غريبة وعجيبة .. أليس كذلك ؟ ولكنها قصة صادقة وحقيقية .

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال : " لأن يهدي الله بك امرءاً خير لك من الدنيا وما فيها ".