وما علّمَناهُ الشعر

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

لم يكن القرآن الكريم شعراً ، والشعراء يعرفون ذلك ، ولم يكن نثراً بالمعنى الذي يفهمه الأدباء الناثرون .

 وقد حكم بهذا الأعداءُ قبل الأصدقاء ، والمشركون قبل المؤمنين .

 فهذا النضر بن الحارث يصف الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول : يا معشر قريش ، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعدُ ، قد كان فيكم محمد غلاماً حَدَثاً ، أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثاً ، وأعظمكم أمانة . . . إلى أن يقول . . وقلتم : شاعر ، لا والله ما هو بشاعر ، قد رأينا الشعر ، وسمعنا أصنافه كلها هَزَجَه ، ورَجَزَه (1) . . .

 وهذا الوليد بن المغيرة حين سمع القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ يداول الأمر مع المشركين فيقولون . . . . نقول : شاعر . فيردّ عليهم الوليد : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزَه ، وهزَجه ، وقريضه ، ومقبوضه ، ومبسوطه ، فما هو بالشعر ، ثم يقول قولته المشهورة : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعَذقُ (2) وإن فرعه لجَناةٌ (3) وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرف أنه باطل .

 أما عتبة بن ربيعة فقد أرسله وجهاء قريش ليفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر دينه ، فجاءه ، وعرض عليه السيادة والمال الوفير ، والنساء الجميلات ، والملك العريض ، والطبَّ يداوونه زعماً منهم أن رِئِيّاً من الجنَّ يأتيه ، والرسول صلى الله عليه وسلم يستمع حتى إذا انتهى قال : (( أفَرَغتَ يا أبا الوليد ؟ )) قال : نعم . قال : (( فاسمع مني )) . . وقرأ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صدراً من سورة (( فصّلتْ )) وعتبة ينصت مأخوذاً من بلاغة القرآن ، فلما قام إلى قومه قال بعضهم لبعض : نحلف بالله ، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي ؟!! أني سمعت قولاً ، والله ما سمعت بمثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة . يا معشر قريش ؛ أطيعوني واجعلوها لي ، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكوننَّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم (4) .

 قَلْبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم موصول بالله وقراءته تنبع بجلالها وجمالها وحسن ترتيلها من هذا القلب العظيم بهذا القول الجليل ، وعتبة ذوّاقة ، أديب ، أريب . . قادته فطرته إلى أن هذا القرآن الذي سمعه ليس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحكمَ بما حكم ، وأبدى رأيه وانسحب . .

 والقرآن الكريم يؤكد هذا ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) ) (5) ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ (69) ) (6) .

 وقد كان صلى الله عليه وسلم ، وهو أفصح الناس وأعظمهم بلاغة يطرب للشعر ويعرف له مكانته وتأثيره في نفوس العرب ، فقد روى النسائي (7) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة الشاعر يمشي بين يديه وهو يقول :

خلّوا بني الكفارِ عن سبيله                         اليوم نضربكم على تنزيلهِ

ضرباً يُزيل الهام عن مقيله                        ويُذهل الخليلَ عن خليلهِ

 فقال له عمر رضي الله عنه : يا ابن رواحةَ ، بين يَدَيْ رسول الله ، وفي حرم الله تقول شعراً ؟!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( خلِّ عنه يا عمر ، فلهي أسرع فيهم من نفح النبل )) . . . إذاً فالرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أن الشعر يفعل في العرب أشدَّ ما تفعله السيوف (8) وأنكأ .

 وروى جندب بن سفيان البجلي قال (9) :

 أصاب حجرٌ إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَدَمِيَتْ فقال ( متمثلاً بالبيت المشهور ) :

هل أنتِ إلا إصبع دَميتِ                  وفي سبيل الله ما لقيتِ (10)

 وقول ُ الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين حين انفض عنه المسلمون لما فوجئوا بكمين هوازن مشهورٌ . .

أنا النبيُّ لا كذبْ                           أنا ابن عبدالمطّلب (11)

 وعن عائشة رضي الله عنها ، قيل لها : هل كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان يتمثل بشعر ابن رواحة ، ويتمثل بقوله : ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّدِ (12) .

 وعن أبي هريرة مرفوعاً :

 (( أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل )) (13) .

 وقد كان صلى الله عليه وسلم يضع لحسان بن ثابت رضي الله عنه منبراً في المسجد قائماً يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدافع عن الإسلام ويهجو الكفار ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول له : اهجم وروح القدُس معك .

 وقد قال له الرسول الكريم مرة : (( كيف تهجوهم (14) وأنا منهم ؟ )) قال : أسلُّكَ منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين ، فقال له صلى الله عليه وسلم : " استعن بأبي بكر فإنه نسّابة ( عليم الأنساب )" .

               

(1) مختصر سيرة ابن هشام دار النفائس ص 53 .

(2) العَذَق : النخلة .

(3)span> الجَنَاةُ : ما يُجنى ، أي هو مثمر طيب .

(4) مختصر سيرة ابن هشام دار النفائس ص46 .

(5) سورة الحاقة : الآية 41 .

(6) سورة يس : الآية 69 .

(7) في الجامع .

(8) يقول أحد الشعراء :

&n جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جَرَح اللسانُ

(9) متفق عليه .

(10) البيت للوليد بن الوليد بن مغيرة .

(11) رواه البخاري في باب المغازي .

(12) هذا البيت لطرفة بن العبد أحد شعراء المعلقات وهو

 ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاُ ويأتيك بالأخبار من لم تزوّدِ

 والحديث رواه الترمذي في سننه .span>

(13) البيت هو :

 ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل

(14) كيف تهجو قريشاً .