تهدئة.. وتهرئة

د. بلال كمال رشيد

[email protected]

مع الساعات الأُولى لهذه التهدئة سيظهر الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من ذاك الظلام ، سينْفضُ الجريحُ جُرْحَه على شِدة الألم ، سيفتقد من كان ينتظر مِن الأحياءِ أَحياءَهم من الشهداء ، وأحياءَهم من الأمكنة ، ستنظرُ تلك العيونُ من كلِّ طرف وهي تتفقد ما تبقى من أطراف ، ستسترجع الذاكرةُ من كانوا ومن رحلوا من موتٍ متوقعٍ إلى موتٍ مُحققٍ ، ستختفي بسمةٌ وراء دمعةٍ ، وتتأرجحُ تهنئةٌ مع حوقلةٍ وتعزيةٍ ، سيُصابرُ الجريحَ جريحٌ ، سينفصل الركامُ عن الغبار ، ويخرج أهلُ غزّة من الأجداثِ من باطن الأرض وعلى ظهرها لساعاتِ نَشْرٍ وحَشْرٍ، حُفاةً عُراةً، تسترهم عِزّةٌ وَكرامةٌ ،على أرضٍ تُغازلُ السماءَ إسراءً ومعراجاً ، يتبادلان الحُسنيين نوراً وهاجاً !!

 ستقوم غزّة على تهدئةٍ لِتشهد يومَ قيامةٍ أو بعضَ يومٍ منها ، سيخرج أهلُ غزّة من كلِّ بيتٍ ومدرسةٍ ومشفى كأهلِ كهفٍ ناموا على ذات اليمين وماتوا على ذات الشمال ، أقاموا حيث كانوا يُقيمون إذ جاءها الغزاةُ غُزاةً من عربٍ ومن عجمٍ ، وبأسلحةٍ خفافٍ وثقالٍ ، وبعداواتٍ شتى من مالٍ ومقامٍ ومقالٍ ، وبِصمتٍ عربيٍّ قتّالٍ ، فما رهبوا و لا هربوا ، أقاموا حيث كانوا ، ورابطوا وربطوا قلوبهم على شجاعةٍ وبسالةٍ في أن يكون لهم النصرُ دون العالمين أو القبر .

 هي التهدئةُ لأزيز رصاصٍ، ولا تهدئةَ فيها لزفيرِ نفوسٍ ، هي التهدئةُ لساعاتٍ لِلَمِّ شملِ الشهداء ، ولَمِّ الأطراف ، ولَمِّ الدموع على تلك الربوع ، هي تهدئةٌ لإخراج شهيدٍ من تحت حُفرةٍ ولدفنه في حفرةٍ أُخرى ، هي تهدئةٌ لقراءة فاتحةِ حياةٍ على خاتمةِ الحياة ، هي تهدئةٌ لِمسحِ آثار دمٍ هنا ، ودمعٍ هناك ، ولمسحِ آثار إيثار الموت على الحياة ، هي تهدئةٌ مبرمجةٌ لِتهجئةِ مفرداتِ ما تبقى من

حياة !!

 بل هي تهرئةٌ لحبلِ الوحدة العربية الذي استمسك به كلُّ العرب، وما مسك منهم أحداً ، وتفرقوا آحاداً ، هي تهرئةٌ لِعُرى الأخوة العربية التي انفصمتْ وانقسمتْ ورمتْ "يوسف" في بئرٍ؛ لِيكون له فقراً وقبراً ، هي تهرئةٌ للأُسرةِ العربيةِ التي نامتْ آمنةً على أَسرَّتها وهي تُراقبُ وتترقبُ ضربَ الرقاب في غزّة ، هي تهرئةٌ للأُسرة العربية حيث الأبُ طاعنٌ في السن ، مطعونٌ في الخَرَفِ ، والأُم أخدتها الدنيا أُماً وأُختاً وتاهتْ ما بين العُهْرِ والشرفِ ، والأخوةُ صاروا أعداءَ ألدّاءَ، وعُملاءَ نُبلاءَ ، بَانَ الهُراءُ ، واكتُشِف الاهتراءُ ، وستهترىء الأقنعة وتسقط ، وسيقول المريبُ : خدوني ، فبمن تشدُّ غزّة أزرها ؟؟!!

 هي غزّة لمْ تُغيرْ جِلْدها ولمْ يَتغيرْ جَلَدها ، وَلودةٌ وَدودةٌ ، قويةٌ بِرجالها ونسائها وأطفالها ، تستعصمُ بِحبل الله الذي لا ينفصمُ ، هي قاهرةُ الغُزاة ، وسيدةُ المدن والدول ،هي الصبرُ والخيرُ ، وسراجُ النصر ، ستعود كما عاد "يوسف" ، لن يُغيبها بئرٌ ولا فقرٌ ، لن يَعزلها سجنٌ ولا حِصارٌ ، لن يبيدها حرقٌ أو دمار ، ولن تُؤسر ولن تُؤمر ، قويةٌ بِمقاومةٍ لا تعرف الخنوع والانكسار ، ستعودُ - كما عاد يوسف - عزيزةً أَبيّةً ، سيظهرُ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ ، بعد الظُلمة والغمة ، ستكون لها الغَلبة، و يُولدُ الفجرُ والفَرَجُ والنصرُ المُبين، سَيَبين لِلكلِّ ذاك الخيطُ ، وسيقتنع المشككون بذاك الخط ، خط المقاومةِ المُمثِلِ الشرعيِّ والشعبيِّ الوحيد والفريد ، وهو أسرعُ خط لاسترداد حقٍ وتحقيق نصرٍ قريبٍ وأكيد.