الكَرامَةُ والبُورصَةُ الدولِيِّةُ

د. حامد بن أحمد الرفاعي

قَالَ ليَّ زميلٌ جَامِعيٌّ:إنَّ قَولَكَ أنَّ الدينَ عَامِلٌ مُؤثرُ في الأداءِ السِياسِيِّ الرَاشِدِ..يَضرُ بالدينِ وَقُدْسِيَّتِهِ..فَالسياسةُ تَقُومُ على المُخَادَعَةِ وَالمُرَاوَغَةِ والكَذِبِ..مِمِّا يَنبّغي أن نُنَزِّهَ الدينَ عَنْها..وَألاَّ ندَعْهُ يَتَدَّنْسُ بِرِجْسِها..قلتُ:أنا أفهمُ السيَاسَةَ عَلَى نَحْوٍ مُخْتَلفٍ..السيَاسَةُ أمرٌ جَلِيلٌ تُساسُ بها شُؤونَ البلادِ والعبادِ..بِمَا يُصلِحُ أمرَهُم وَيَصُونُ كرَامَتَهم وَيُحقِقُ مَصَالِحَهُم..أمَّا وَصْفُكَ السِيَاسَةِ بِأنْها رِجْسٌ وَفَسادٌ..فهذا إطلاقٌ خطيرٌ وَظالمٌ..بِكُلِّ تأكيدٍ السياسَاتُ ليسَت سَواءً..فَمِنْها عَادِلٌ وَمِنْها ظَالِمٌ..وَمِنْها ما هوُ بينَهُما..قَالَ:لا.. ليست السياسةُ على الإطلاق رجساً وفساداً..قلتُ:إذاً هُنَاكَ حَالاتٌ سياسيةٌ قابلةٌ للانسِجَامِ مع سُمو الدينِ وقيمهِ العادلةِ..؟ قالَ:بِكُلِّ تأكيدٍ..قُلتُ:هلْ يُمكِنُنَا القولُ:أن العَدْلَ السيَاسيِّ والعَدْلَ الدينيِّ يُقرِّران مَعَاً النَهجَ الرّاشِدَ لِمَسيرَةِ المُجتَمَعَاتِ..؟قالَ:أوافِقُكَ تَمَاماً..قلتُ:ألا ترى أنِّ الأُمَمَ بِحَاجَةٍ إلى مِثلِ هَذه المُصَالَحَةِ والتَكامُلِ..؟قالَ:إنْ أمكنَ هَذا فَسَيكُونُ هُناكَ تَحولٌ إيجَابيٌّ في حَياةِ النَّاٍسِ..قلتُ:الآنَ أستطيعُ القولَ مَعَكَ أنَّ الفسَادَ في غَالِبِ نُظُمِ السيَاساتِ القائمةِ في العالمِ اليومَ..إنّْمَا هو بسَبَبِ المُخادعةَ والمُراوغةَ والكَذبَ..حَقاً إنَّ مُخادعةَ الشُعوبِ..والتلاعبَ بِقُدْسِيِّةِ حَيَاتِهِم..واستباحةَ سفكِ دِمائِهم..واستِخدَامَ كرَمَتَهم سِلعَةً رَخِيصةً في بُورصَةِ اللِعبَةِ الدوليِّةِ وَتوازُنَاتِهَا لهو الفساد الأكبرُ في الأرضِ..وَبَعدُ..فَهلْ يَبقى مَعَ هَذا العَبثِ والإجرامِ السيَاسيِّ مَكَانٌ للتَحدُّثِ عَنْ حُقوقِ الإنْسَانِ وَكرَامةِ الإنْسَانِ وَحُريِّةِ الإنْسَانِ ..؟وَهلْ يَصِحُ دِيانةً وَخُلقاً في كُلِّ شرَائعِ السماءِ والثقافاتِ والأعرافِ..؟أن يُذبحِ شعبٌ بكامِلِهِ..وَأن يُدمَّرَ بَلدٌ وَتُمَزِّقَ أشلاءُ أبنائِهِ..ويُشرِّدَ أهلُهُ وَتُسْتَهَانُ كرامَتُهُم وإنسانيَّتُهُم..بِأبْشَعِ صُورِ الوَحْشِيِّةِ والكرَاهِيةِ والعُدوانيِّةِ..ليكُونَ ذلِكَ ثمناً لِصفقاتِ سيَاسيِّةٍ قذرة جائرةٍ..تُحقِقُ مكاسب إقليميِّةٍ وَدوليِّةٍ ظَالِمةٍ مُدَمِّرةٍ..أليسَ هذا كُلُّهُ مِمَّا يَجري اليَومَ في سُوريَّةَ..؟أليسَ هذا كُلُّهُ مِمَّا تُرتَكَبُ جرائمُهُ بِحقِ شَعوب بلدان متعددة في العالم..؟أليسَ هذا وَمَا هو أعظمُ وأشنعُ مِمَّا يُقتَرَفُ بِدمٍ سَمِجٍ باردٍ بِحقِ أعظَمِ مَعَاقلِ الحضارةِ الإسلاميِّةِ الراشدةِ..؟الحضارةُ الإنْسَانيَّةُ التي قدِّمَت للبشريِّةِ:أرّوعَ وارّفعَ قِيَمِ وَوسائلِ وَمَهاراتِ الارتقاءِ والتَقدُّمِ الحضاريِّ..أمْ هو الوفاءُ عَلَى طَرِيقَةِ وَنَهْجِ نِظَامٍ عَالَميٍّ أصَمٍّ أبْكَمٍّ أعمى..؟أجل تبت سياسةٌ وتبت ممارسات ساسةٌ يتخذون من كرامة الإنسان سلعة رخيصة في بورصة موافقات سياسية ظالمة مدمرة.

وسوم: العدد 624