العقل السياسي الايراني المعاصر (18)

د. عبد الستار الراوي

نقد نظرية الفقيه

الحاكمية الأبدية

في البدء أبهر الخميني العالم الإسلامي بشعاراته مبشرا جمهور المسلمين بالسلام والمؤاخاة والعدالة وتحرير فلسطين.. ولكن سرعان ما انقلب المبشر على عقبيه، ليستبدل غصن الزيتون بالسيف، ملوحا به في وجه جميع الدول والأمم، منذرا ومهددا.. فظهر الإمام المحارب. الذي قاد الثورة باتجاه الاستبداد والغلو والتطرف. فشعار الموت لأميركا والموت لكل حكام العرب والموت للاتحاد السوفييتي والموت لمخالفي ولاية الفقيه بقيت شعارات تلهب الساحة حماسا. وسرعان ما أظهرت الثورة العداء الصارخ للتيارات الوطنية والعلمانية والليبرالية، حتى أصبحت الوطنية والليبرالية سبة لا تقل عن سبة الماسونية والعمالة للصهيونية والإمبريالية وغيرها. ومورس القمع تجاه الذين اختلفوا معه، لم يستثن مرجعًا دينيًّا أو مثقفًا مدنيًّا كشريعتمداري وإبراهيم يزدي ومهدي بازرگان أقصوا جميعا وهمشوا، وأعدم قطب زاده وزير الخارجية في بداية الثورة بتهمة التآمر على الثورة، وتقرر إلغاء رمزية المناضل الوطني الدكتور محمد مصدق وأنزلت لوحات اسم الشارع الذي حمل اسمه في بداية الثورة ليغير إلى شارع ولي العصر، وكرس مفهوم ولاية الفقيه خارج إيران لتعني ولاية الإيرانيين على غير الإيرانيين، والتي تجسدت بروح سلطوية تجاه الأمة العربية والشعوب الإسلامية. وقد وصل الزهو الاستعراضي وتضخم الذات لدى الفقيه الإيراني حدًّا بالغًا من النرجسية الشخصية والقومية أوقع الكثيرين من مريديه وتلاميذه في غائلة الغرور المرضي، عندما أوهمهم بأنهم متميزون ومتفوقون كما لو كانوا شعب الله المختار، وكرس المرشد هذا المعنى في وصيته عندما خاطب الشعب الإيراني بأنه (أفضل من أصحاب رسول الله ، وأفضل من أصحاب علي بن أبي طالب). (1)

1 ـ خرج الخميني على ترتيبات الواقع عندما أعلن أن الولاية التي يسعى إليها ويعمل عليها، لم تعد ولاية خاصة أو (حسبية) ولا ينبغي أن تكون محدودة، وجزئية، مقيدة، وأن لا مكان لوعاظ السلاطين القائلين على مفارقة الدين للسياسة، ولم يعد بوسع العصر أن يتقبل الوظيفة التقليدية للفقهاء بقصرها على الأمور الحسبية من قبيل المرافعات وفصل الخصومات. الوقوفات التي لا متولي لها. حفظ أموال اليتامى والغائبين مع عدم وجود المتصدّي لحفظها.. ومثلما تمرد الفقيه الإيراني على الولاية الحسبية فإنه رفض النظرية القائلة بمحدودية دور الفقيه على شؤون الحكم، ونقض الصفة الإشرافية. (2) .

2 ـ وإذا كانت الغالبية من العلماء قد تمسكوا بالوظيفة الحسبية للفقيه، فإنهم أيضا أنكروا الولاية المطلقة بوصفها فكرة مبتدعة لم يقل بها علماء الإمامية لا المحدثون ولا القدماء، إذ إنهم خصوا الفقيه العادل الذي بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق بـ(الولاية الخاصة) فقط،  وقد استدلوا جميعًا بدليلين(3) :

الأول: عدم وجود دليل قطعي مستفاد من آثار (الأئمة المعصومين) ومروياتهم يدل على وجوب طاعة الفقيه طاعة مطلقة في دائرتي الأحكام الخاصة والعامة سواء بسواء.

الثاني: إن إثبات الولاية العامة للفقيه ينتهي لا محالة إلى التسوية بينه وبين (الإمام المعصوم)، وهذا ما لا تؤيده حجة من عقل أو نقل.

3 ـ  تجاهل الخميني  كل ماسيق من البينات في إبطال ونفي الولاية المطلقة، متجاوزا الأدلة النقلية والعقلية، ساخرا من أصحابها ، فكان  كل الذي أراده ورغب فيه ؛  قد أقدم عليه وقرره  وفق قناعته الذاتية،  ومن أجل أن يمضي  في مشروعه السياسي كان عليه أيضا أن ينتزع الولاية من متونها الفقهية ويحررها من دائرة المسائل العبادية العملية، ليضعها في حيز علم الكلام ووسائله الاعتقادية، ليجعل منها حجة  فأدخلها في أصول الدين لا من فروعه، وهذا يعني أنه لا يوجد أي فرق بين ولاية الإمام المعصوم وولاية الفقيه، بل إن الخميني يذهب إلى المطابقة بين ولاية الفقيه وولاية الإمام. بعبارة أخرى، فإن منح الفقيه حق الولاية العامة يؤدي منطقيًّا إلى رفع منزلته إلى مقام (الإمام المعصوم)، وهو ما ادعاه الخميني لنفسه بدعوى (استمرارية الإمامة والقيادة العامة في غيبة المهدي(  ـ

 4ـ  في كتابه “الحكومة الإسلامية” يمنح الخميني الولي الفقيه سلطة مطلقة بوصفه نائب الإمام القائم بأصول المعرفة الدينية والسياسية وتطبيقها، فهو الذي يتولى الزعامة الأولى والرئاسة الكبرى وهو المصدر للقيادة العليا الإسلامية. فالأمراء والقواد هم الممثلون لأوامر الفقيه الشاغل لمنصب الزعامة ورأس قمة وهو وحده  المخول من قبل الله في إجراء الحدود. (4) ـ

5 ـ والفقيه على النحو الوارد في كتاباته النظرية وفي قيادة التجربة السياسية- هو القائد الأوحد لعموم المسلمين، وهو مفوض من السماء ــــ المزود بسلطات إلهية مطلقة لا حدود تتوقف عندها، أعطيت إليه بإعتباره نائبا للإمام الغائب  .

يضيف السيد الخميني: “(فتوهّم أن صلاحيات النبي في الحكم كانت أكثر من صلاحيات الفقيه هو توهم خاطىء وباطل. نعم إن فضائل الرسول بالطبع هي أكثر من فضائل جميع البشر، لكن كثرة الفضائل المعنوية لا تزيد في صلاحيات الحكم، فالصلاحيات نفسها التي كانت للرسول والأئمة في تعبئة الجيوش والولاة  والمحافظين واستلام الضرائب وصرفها في مصارف المسلمين قد أعطاها الله للحكومة المفترضة هذه الأيام، وهو لم يعين شخصًا بالخصوص وإنما أعطاه لعنوان العالم العادل أي للولي الفقيه) وبناء على اعتقاده هذا، فإن الخميني وجّه عام 1988 رسالة شديدة اللهجة إلى خامنئي (وكان رئيس للجمهورية حينها) يقول فيها: إن ولاية الفقيه كولاية الرسول (ص).. فالولي الفقيه بالنسبة للخميني معين من قبل الإمام المهدي الغائب لذلك لا يجوز الاعتراض على قراراته بناء على الحديث المنسوب للإمام جعفر الصادق الذي يقول (“إن الراد على الفقهاء كالراد علينا وكالراد على الله وهو على حد الشرك بالله”). (6) ومن هنا اعتبر رد الولاية أي عدم القبول بولاية الفقيه شرك بالله، كما تعتبر إطاعة القائد من أكبر التكاليف الإلهية. وأن أمر تعجيل عودة (الغائب) وتحقيق زمن الحضور- موقوف على مدى استعداد البشر لقبول هذه الولاية والالتزام بها والتعود عليها. ويترتب على تلك الأقوال الاعتقادية:

أ‌ــــ عصمة العقل السياسي القائد عن الوقوع في الخطيئة أو الخطأ، وأنه متعال عن الكبائر والصغائر.

ب‌ ‌ــــ من تمام الدين انقياد الأمة الكلي للفقيه والطاعة التامة لإرادته وأوامره. بمعنى عدم جواز مساءلته أو محاسبته، ومقامه الديني يجعل القانون ينقاد له وليس العكس.

ج ـــ آراؤه ومواقفه وكلامياته تعتبر معصومة، وهي من قبيل اليقينيات المؤكدة، ومن (الكليات) المتعالية على الشكوك والظنون.

د ــــ     الفقيه هو الحاكم الأوحد وهو المبتدأ والمنتهى ومن صلاحياته احتكار السلطة العليا في التشريع والفقه وفهم الأحكام بحيث يصبح الحاكم معصومًا عن الخطأ، لا أحد من الأمة يخطئه في أمر من الأمور، ولا يعترض عليه ولو كان مجلسًا للشورى.

ه ــــ الولاية الواحدية القاهرة عمقت لدى الخميني نزعته الغالية إلى حد الهرطقة والتجديف نحو زعمه بـ(أن الأنبياء، لم يكملوا رسالات السماء، ولم ينجحوا في إرساء قواعد العدالة في العالم وأن الشخص الذي سينجح في نشر العدل الكامل بين الناس هو المهدي المنتظر). (7) ويستوي مع غلوه قوله في بيان منزلة الأئمة: (فإن للإمام مقامًا محمودًا ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون (8) وقوله: (والأئمة الذين لا نتصور فيهم السهو أو الغفلة) (9).. و(من ضروريات مذهبنا، أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل). (10) و(أن تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن يجب تنفيذها واتباعها). (11)

المراجع

(1)_ الشيخ لطف اللّه الصافي الگلپايگاني. ضرورة وجود الحكومة أو ولاية الفقهاء في عصر الغيبة. الرسالة المختصرة للمرجع الديني قم. 2011.

(2)_ عباس نيكزاد. ترجمة كمال السيد. ولاية الفقيه بين الإطلاق والتقييد. مجلة المنهاج. العدد 16.

(3)_ توفيق المديني. محور الصراع في إيران: ولاية الأمة.. أم ولاية الفقيه؟! جريدة الوسط التونسية: 28 – 05 – 2008.

(4)_ الخميني. الحكومة الإسلامية ص57.

(5)_ وكتبت صحيفة “شما- (أنتم) الأسبوعية الإيرانية (16/11/2002).

(6)- الدكتورة فتحية الدالي. الدين والسياسة 2008.

 الدكتور عبدالغني عماد. نقد نظرية الإمامة وولاية الفقيه 2009.

(7)_ الخميني. مصدر سابق 45.

(8)- المصدر السابق 46.

(9)- المصدر السابق 86.

(10)- المصدر السابق 95.

(11)_ المصدر السابق 34.

د.عبد الستار الراوي                                    

مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية

وسوم: العدد 643