روما بعيون شرقية.. مرآة تحتفل بالمبدعين

إلى روما، لا تصطحب معك سوى مرآة. الكلّ يلقاك بابتسامة، حتى الأشجار المرصوصة في الشوارع التاريخية، أو تلك الموزعة كما الطواحين.

روما مدينة موغلة في القرية!.. في الحكمة والفلسفة والشعر، وفي التراث الهائل من الفكر السياسي المحتشد في آثارها المنحوتة العارمة، يحضر يوليوس قيصر دون إذن، والعاشق أنطونيو، وكليوبترا التي لم تزل تتجرّع سمّ الخلود.

كثيرة هي الأشياء التي تذكرك بغاليليو غاليلي (Galileo Galilei)، لا سيما لدى دخولك جامعة غريغوريانا العريقة (Pontificia Università Gregoriana)التي تأسست في العام 1551م، والتي درّس فيها الفيلسوف فرانسيسكو سواريز (Francisco Suárez)، واللاهوتي الكبير روبيرتو بيلرمينو (Roberto Belarmino) صاحب الموسوعة اللاهوتية الضخمة «مجادلات العقيدة المسيحية ضد هراطقة العصر». وعلى بعد أمتار، تدخل جامعة توما الإكويني، حيث عبق الفلسفة باللاهوت المستمر.

وعلى بعد مئات الأمتار، لم يزل موسيليني يطل من الشرفة في ميدان جيزو الذي تحوّل ميدان فينيسيا، لكن هذه المرة يطل من شرفة الذاكرة السوداء عند أرباب الحرية.

ويحضر في روما آخر العظماء من شعراء إيطاليا. أوجينيو مونتالي (Eugenio Montale) الذي صوّر في أبياته عظام حبار ossi de sepia، والفرص le ocasioni، القلق الذي أصاب جيل العصر الذي كان يرى أن الحروب تهدّد وجوده، والشيوعية تزيد مخاوفه، والفاشية والنازية تسلبان حريته.

وتحضر الدهشة في الرسم مع أستاذ الحركة الكلاسيكية الأولى في عصر النهضة رفائيلو سانزيو (Raffaello Sanzio) في لوحة غالاتي، الشخصية الميثولوجية الإغريقية، وهي تبتهج بالنصر (1511م. ڤيلا فارنيسيني، روما)، ولوحة مدرسة أثينا (جصية جدارية 1509م.) التي تزين إحدى غرف الفاتيكان.

ولشعراء الشرق مع تماثيل روما حكاية أخرى، تبدأ من حديقة ڤيلا بورغيزيه (Villa Borghese) التي أسسها الكاردينال شيبيونيه بورغيزيه في بداية القرن السابع عشر، والمكرّسة الآن لرواد الأدب العالمي في قلب روما، حيث تمثال الشاعر العربي الكبير أحمد شوقي، إلى جانب تماثيل لشعراء وأدباء كبار، أمثال شاعر روسيا العظيم ألكسندر بوشكين، وأحد آباء الأدب الروسي نيقولاي غوغول. كما يستوقفك تمثال الشاعر الإيراني ـ الآذري نظامي كنجوي، والشاعر الإيراني الكبير أبو القاسم الفردوسي، صاحب ملحمة رستم وسهراب.

ومن شدة ما تفاجئك روما بماضيها العريق الماثل أمام ناظريك، لا تستطيع أن تلحق بها، فهي كمن يكتبك ويمحوك في لحظة شعور عميق، حتى يثبت في وجودك الخاص.

وعلى مقربة من مدخل الفاتيكان، يحضر الأكـثر ثباتاً: تمثال جوردانو برونو (Giordano Bruno)، الراهب الفيلسوف الخمسيني (1548 ـ 1600م) الذي أعدمته الكنيسة الكاثوليكية حرقاً وهو حيّ، ولم يتراجع عن أفكاره التنويرية في «لا نهائية الكون». وفي اللحظة ذاتها، يحضر إلى الذهن شيخ الإشراق السهروردي. أي حضور هذا..؟! حقاً، النهايات تخلد أصحابها.

جوردانو برونو أكثر حياة اليوم في روما، وروما أكثر حياة فيه، هكذا أوحى إليّ الصديق الصاحب الدكتور محمد المزوغي.

المزوغي هزّ وعيي أكثر من مرة، ونبّهني مرات لصيرورة الفلسفة وسيرورتها، لا سيما في متعة البحث عن وفي فورفريوس (مالك) الصوري الذي توفي في روما (305 م.).

كان المزوغي، أستاذ الفلسفة في المعهد البابوي، جميلاً، مهموماً بالعلم والبحث، منكباً عليه لدرجة أنك لم تعد تميز بينه كشخص وبين ما يطرح، لشدة ما يعيش شغف الفكرة حتى في مُزاحه المشوّق.

نعم، اختلفنا حول قضايا جوهرية، لكنني استفدتُ منه أكثر من اختلافي معه.

لثلاثة أيام، كانت روما جد مبتسمة، وكذلك لوريتا، الطبيبة المناضلة حتى آخر حبة تراب من فلسطين ومن زيتونها، ومن هوائها الذي تتنفسه حتى وهي في روما.. لوريتا التي كانت أجمل وأصدق وأصفى من بركة «فونتانا دي تريڤي».. روما جد محظوظة اليوم بلوريتا وأمثالها، أكثر من حظها في «فونتانا دي تريڤي».

لكنني كنتُ أكثر حظاً بجردانو برونو الذي وعدته بالعودة، وأن أكتب عنه مقارنة بشيخ الإشراق في قريب الأيام.

روما صديقة جميلة وديعة، حاضرة فن وحب، ومرآة ما برحتْ تحتفل بالمبدعين، لذا تركتُ مرآتي هناك.

وسوم: العدد 659