ذكريات مع الأديب السوري فاضل السباعي

العنوان:

لم أُسعَد بالإقامة في أميـركا أبداً فعدت إلى دمشق رغم بعض التخويفات 

في بيت فاضل السباعي.. ذكرياتٌ مورقة ويومياتٌ متـدفقة!

رقيق كماء النافورة التي تتوسّط حديقة بيته العتيق،

روحُهُ مورقةٌ كشجرة النارنج التي حدثنا عنها بحبّ،

ذاكرته، وهو في الثامنة والثمانين، أثارت غيرتنا، وكذلك همّته على متابعة كتابة مشاهداته ومذكراته القديمة وتلك «الأيام والليالي» التي كوّنت شخصيته كقاصٍّ وروائي غزير الإنتاج..

والأكثر إدهاشاً هو دقّته وحسن ترتيبه وتنظيمه لتفاصيل يومياته، وشكل تعامله مع الكتب التي ملأت الخزائن والرفوف والممرات والكنبة الوحيدة في مكتبه، وحتى السقيفة وكل الطاولات التي رقدت عليها أوراقه كمن في مشغلٍ سحريٍّ لإنتاج الحكايات!.

هكذا بدا الكاتب فاضل السباعي، في زيارتنا له، أنا وزميلاي الصحفي بديع صنيج، والمصوّر طارق الحسنية، إذ لكثافة ما رأيناه احترنا من أين وكيف تكون بداية حديثنا معه..

أَنفتتحُ اللقاءَ بتحريضه على استرجاع ذكرياتٍ حميمة بعد هذا العمر المديد والمئات من التجارب الحياتية؟ أم نسأله عن أفكاره وهواجسه كروائي وقاصّ نَحَتَ في صخر الحياة فأبدع العشرات من الكتب والتُحَف؟، أم نتركه يسترسل، كما يشاء، عن ولعه باللغة والثقافة والتاريخ وهموم الناس الذين جسّدهم في كتاباته بصدق الباحث، وهمّة المؤرّخ، وشغف الحكّاء، وقوة المناضل!؟.

أحرِّضه بدايةً بما قيل عن لغته «المنمّقة المترفة»، فيبتسم، ويطلب أن أزيده من الأسئلة التي أثارت عنده حماسةً للمتابعة والدخول ِ في لعبة محاورةٍ حميمةٍ كانت أقرب إلى المُسارّة، إذ يقول حين أذكِّره بمكان طفولته الأولى «حيّ وراء الجامع وسوق المدينة» في حلب: منذ 12 سنة كتبت الفصل الأول من طفولتي بعنوان «زقاق الزهراوي» وهو الزقاق الذي عشت فيه من ذاك الحي الكبير، كتبت ثلاثين صفحة نشرتها في مجلة «المعرفة» السورية، وقد أحدث ذلك ردّة فعل جميلة عند القراء، لأن الناس يحبّون أن يستمعوا إلى قصص عن طفولة الآخرين، بل يحبّون أن يستمعوا إلى طفولتهم أيضاً مجسّدةً في حكايات الآخرين المشابهة، وهذا ما يشجعني على المتابعة في استعادة تلك التفاصيل القديمة.

الشمسُ الحنون التي كانت رحيمةً بنا في ذاك اليوم الشتوي البارد والجافّ، بدأت تلملم خيوط ذهبها وتدفعنا لندخل إلى عالمه السحريّ؛ طاولته التي تبعثرت عليها أوراقه ونظّارته وبعض «فواتير الكهرباء والماء والهاتف» كتذكيرٍ له، ربما، بأن الحياة معجونةٌ من الخيال والواقع معاً.

دخلنا نتبع خطواته المتمهّلة كمن يقودنا إلى مغارة «علي بابا»، بينما «البورتريهات» التي رسمتْها ابنتاهُ (سهير وخلود) الفنانتان التشكيليتان، ترمقنا بعيونٍ مفتوحة فيها أنسٌ ومحبّة، لكنها عيونٌ ووجوه أقلّ معاناةً وحزناً من عيون ذاك الولد في لوحة لؤي كيالي المعلّقة بعناية إلى جوار صورتين لابنتيه، وكأنّ روح حَلَب، وشجنها، وعراقتها، وموسيقاها، ورائحة غارها وبيلونها تتصاعدُ من اللوحة وتغمر المكان الذي عاد إليه السباعي عودة السنونو المهاجر رغم تخويفات أصدقائه له من بعض المضايقات:

«لم أُرِدْ أبداً أن أقيم في أميركا، ذهبت إلى هناك لأنني بقيت وحيداً في البيت، كلُّ ذرّيتي سافروا، لذلك خافت أسرتي عليّ إن بقيت وحدي، فهيّؤوا لي أسباب السفر، لكنني لم أُسعَد هناك أبداً.. اشتقتُ للنافورة وصوتها، اشتقتُ أن أضعَ كأساً لتمتلئ بمائها.. إنه أطيب ماء في العالم.. وللحقيقة لم يكن الشوق وحده ما دفعني لأعود.. لقد أصدرت حتى الآن خمسة وثلاثين كتاباً بطبعات ثالثة ورابعة، بعضها تُرجم إلى لغات عالمية، وبقي لديّ هنا في مجلدات الأرشيف ما يقارب عشرة كتب قيد الطباعة، لكنها متناثرة، وعليّ أن أوضّبها وأنسّقها بنفسي، وأن أعدّها للنشر.. لن يقوم بهذا العمل أحدٌ غيري، فلا أحد يعرف ماذا لدي هنا، ابنتاي تعملان في الفن التشكيلي وليستا مهتمتين كثيراً بعالم الأدب، أما أنا ففي عمر الثامنة والثمانين وما زلت قادراً على الوقوف على قدميّ، ولدي ذاكرة تعمل بشكل جيد.. لذلك فالشوق للوطن والرغبة في متابعة كتاباتي هما مَا دفعاني للعودة.. ومؤخراً، قمت بعمل أعدّه مهمّاً جداً وهو أنني نشرتُ في مجلة «المعرفة» جزءاً من دراسة عن الكاتب «أديب النحوي»، المظلوم لجهة قلّة الدراسات عنه، المبدع الكبير في الواقعية السحرية، وخاصة في عمله الذي أبهرني «حكايا للحزن»، [راغبا في أن أنشر] الجزء الآخر في «الموقف الأدبي» التي يصدرها اتحاد الكتاب العرب، وما فعلته حقيقة هو نوع من استكمال لما كنّا نفعله أيام الثمانينيات في الاتحاد، إذ بدأنا فكرة تكريم المبدعين وهم على قيد الحياة؛ بدلاً من الانتظار لما بعد موتهم واستذكار محاسنهم. لم يكن يومها ما نقوم به «تكريماً» بالمعنى الحقيقي، لكننا وضعناه تحت عنوان «قراءة في أدب فلان..»، وبدأنا نشاطنا، أنا واثنان من زملائي فقط، بقراءة في أدب الكاتب العزيز وليد معماري».

البردُ الذي بدأ يتسلّل إلى عظامنا، دفعنا لنصنع كأس شاي من ماء الفيجة الذي يروي سكان شارع نوري باشا حيث يسكن السباعي، ومع الدفء وحلاوة السكّر وسعادتنا بوجودنا معه، سألته عن: كيف يستقبل فكرة الموت؟، أجابني من دون تردّد:

«أنا لا أخاف الموت. أتوقّعه في كل لحظة؛ لكنني لا أخافه… الشيء الوحيد الذي يرعبني هو أن أصاب بالزهايمر، أن أفقدَ قدرتي على الكتابة بسبب «تهتّكِ الشبكيّة» في عينيّ، وما يؤلمني أكثر هو أنْ لا أحد مهتماً من  أحفادي أو أولادي بإكمال مسيرتي».

عدنا إلى الجريدة، تلاحقني أطياف شخصٍ متعدّد كشخصياته القصصية والروائية، متأنّقٌ في تعامله مع الكتاب كأنه على موعدٍ مع فتاة، بل مخلصٌ في جعل الكتب كائناتٍ تتنفّس. عدنا على أمل أن يجيبني قريباً على ما تبقّى من أسئلتي، التي طلب أن أمهله في الردّ عليها، لأنه يَعُدّ أجوبته اعترافات تستحقّ أن يكتبها بعناية وإخلاص.

تنويه: يمكنكم مشاهدة مقطع الفيديو المتضمن تفاصيل الزيارة على مواقع صحيفة «تشرين» وعلى تشرين أون لاين واليوتوب والفيس بوك والتلغرام.

جواد ديوب

وسوم: العدد 697