الرسول قدوتنا ( 1 ) من بحث "رجُـل الْبـِرَّ"

إلى طلاب الدنيا والآخرة معًا ...

إلى الذين جعلهم الله تعالى مفاتيح للخير..

إلى الذين يحبون البركة في الرزق، والزيادة في العمر، والريادة في الدنيا، والسيادة في الآخرة..

إلى الذين يحبون أن يكونوا خيرَ الناس الذين قال فيهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :: " خير الناس أنفعهم للناس"..

مقدمة

كما أن المجتمعات بحاجة إلى رجل الطب لعلاج علل الأجساد، فهي بحاجة إلى رجل البر لينفُض الليلَ عن الكروب المخبوءة  .

إن رجل البر هو حلقة الوصل بين الفقير المنسي، والغني الساهي .

إن رجل البر هو الإنسان الوحيد الذي له الفضل على الغني وعلى الفقير على حد سواء، إذْ فتح للغني باب الخير، وأنقذ الفقير من الفقر والضير.

إن رجالات البر؛ يغرسهم الله بيده الكريمة فى الأرض، ويبعثهم كما يبعث المجدددين، فما أحوج المجتمع إلى من يفتح ما أغلق من أعمال الخير، وييسر ما أُعسر من مجالات البر وهؤلاء الذين نراهم في كل حي هم أحق الناس ببشارة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي يقول فيها ـ : " خير الناس أنفعهم للناس" ،

أخرجه الطبراني في الأوسط ، وحسنه الألباني انظر حديث رقم : 3289 في صحيح الجامع

 وقال "إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ ".

ابن ماجه، برقم 233 ، عن أنس، وحسنه الألباني

ترى الواحدَ منهم، تقيًا ورعًا، سمحًا سهلاً، مبدعًا مبتكرًا، مثقفًا لقنًا، حازمًا منضبطًا، عالي الهمة، متوالي الحشمة، مشكور السيرة، طاهر السريرة، يألف ويؤلف، يسمع ويُسمع، يتحرك في قضاء الحوائج، يرشد الضال، ويفك العاني، ويقرض المعسر، ويكفل اليتيم، ويطعم المسكين، ويسعى على الأرامل والمسنين، تراه مشاركًا في أنشطة الجمعية الخيرية الفلانية، ثم هو واعظًا بين الناس يدفعهم إلى الصدقة دفعًا، يتحرك بين رجال الأعمال، يوقظ ناءمهم، ويزجر فاجرهم، ويصلح فاسدهم ...ثم هو في عائلته مرشدًا ومصلحًا، أينما ترى عملاً خيريًا، تراه مشاركًا أو داعمًا أو مساهمًا .

أسأل الله تعالى أن يكثر من رجال البر !

سيد رجالات البر

" كَلا ! وَاللَّهِ، مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ".

البخاري، برقم 3

بهذه العبارات الكريمة تثَّبت أم المؤمنين خديجة قلب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما حدثها بشأن المَلك الذي نزل عليه بغار حراء، حيث قال لها معبرًا عن خشيته: "لقد خشيتُ على نفسي".

وكانت وسيلتها ـ رضي الله عنها ـ في التخفيف عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ذكرته بماضيه الخيري ونشاطه في عمل البر..

وهي توضح له بكل ثقة أن الله لن يخزيه لعِلةٍ وجيهة، هي أنه مواظب على جملة من الأعمال الخيرية.. فلن يخزي الله من وصل الرحم، وصدق الحديث، وحمل الكَل، وأكرم الضيف، وأعان على نوائب الدهر!

إنها تتحدث إلى زوجها كطبيبة نفوس، وكفيلسوفة فكر، وكعالمة في سنن الله ونواميسه في الخليقة..إنها بكلماتها تلك تسبق ما قاله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والآفات والهلكات..." .

أخرجه الحاكم، عن أنس، وصححه الألباني، انظر حديث رقم : 3795 في صحيح الجامع

هذا القلب الكبير الذي يحمل كُل هذا الخير للناس لا يخزيه الله، لن يصل الحُزن إلى قلبه، ولن يصل الخوف من الناس إلى وجدانه، بل ستنعم حياته، وينعم قلبه، ويزهو ويفرح، وينجلي غبار الضنك عن رأسه.

"كلا"..

لن يحزن قلبك، ما دام يحمل الخير للناس..

"أبشر"..

سيندمل الجرح، ويزول الوجع، وستمضي في طريق الحياة بهذا القلب الخيّر، يفيض منه النور إلى البشر، وتسرج به قلوبًا غلفًا، وعيونًا عميا، وآذانًا صما.

"فوالله لا يخزيك الله أبدا"..

لست أنت بالوجه الذي يرده الله، ولست ولست أنت بالعبد الذي يتخلى عنه ربه، فأنت عبد أكرمت عباده، أشبعت جوعتهم، وأذهبت ظمأتهم، وكسوت عورتهم، ومسحت على رأس اليتيم، فكنت الأب، وعفوت عمن أساء إليك فكنت الأم:

وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أب  **  هذان في الدنيا هما الرحماء

المصلحون أصابعٌ جمعت يداً ** هي أنت ، بل أنت اليدُ البيضاءُ

لا يخزيك.. ولن يخزيك الله أبدًا.. فأنعم بحياتك!

"إنك لتصل الرحم"

فمن قطعك وصلته، تغني القريب الفقير، وتقوّي القريب الضعيف، أنت سند أهلك، ووتد أقاربك، لم يسمعوا منك إلا كل خير، ولم يروا منك إلا كل صلاح.. أنت لكبيرهم ابن، ولصغيرهم أب، ولصاحبهم أخ.

"تصدق الحديث"

لا تكذب أبدًا، لا تغش أبدًا، لا تزور شهادة، ولا تدلس مقالة، لم يُعهد عليك كذبة واحدة في حياتك، ولم تتلطخ لحظة واحدة في براثن الكذب.

"تحمل الكَل"

وهو العاجز، لا تُعينه فحسب، بل تحمله! ولا تحمله فقط، بل تحمله وحاجته! لا ينزل عنك إلا وقد قضيت مسألته، ورحمت ذلته، وأسعدت قلبه.

"تقري الضيف"

ما أكرم الناس إذا نزلوا بدارك! وما أعظمهم إذا حلوا بحضرتك! أوقدت القدور، وجهزت النمارق، وقضيت الحاجات، فإن بات الضيف بدارك بات آمنًا عزيزًا، وإن انصرف؛ فمُكرم مسرور.

"تعين على نوائب الدهر"

فمصائب الأيام كثيرة، وجراح الواقع كبيرة، فيأتيك طالب العون فتعينه على نائبته، ويأتيك المكروب فتعينه على كربته.. أنت الظَهر للبائسين، فأنت لجراحهم طبيب، وأنت ليتيمهم أب.

والصدّيق كذلك!

و"أبو بكر" تلميذه العظيم! يسير على شرعته، ويمارس صنعته، ويُبتلى، فيخرج مهاجرًا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ (برك الغماد) لقيه "ابن الدغنة" وهو سيد (القارة) فقال: "أين تريد يا أبا بكر؟" فقال أبو بكر: "أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي".

فقال ابن الدغنة: "فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج، ولا يُخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فأرجع فاعبد ربك ببلدك..

فأصحاب هذه الصنائع الخيرية، ما كان الله ليخزيهم، وما كان ليكلهم إلى بعيد كافر، أو إلى قريب ظالم، هم أحق بالتمكين، وأولى بسعادة الدنيا والآخرة، وكان حقًّا على الله أن يسخر لهم أمثال "ابن الدغنة".. ينصرهم ويؤازرهم، حتى ينعم صناع الخير في ظلال الله.

فاصنع خيرًا.. يسعد قلبك، ولا يخزيك الله.

وسوم: العدد 698