حُلُمُ السِّبَاحةِ

د.فاطمة محمد العمر

د.فاطمة محمد العمر

[email protected]

عُيونُهُ مَفتوحةٌ علَى آخرِها .. يتَطلَّعُ فِي الأولادِ المُتقافِزينَ فِي بِركةِ المَاءِ ..

يَرجُو أُمَّهُ أَن تَسمحَ لَه بالَّلعبِ مَعهُم ..

تَضمُّهُ إلَى صَدرِها فِي حَنانٍ ..

تَهمسُ لَه بِودٍّ: وَالله بَخاف عَليك ..

بَعقلِهِ الصَّغيرِ يُحاولُ أَن يَتلمَّسَ لهَا العُذرَ ..

إنَّه وَحيدُها ..

أَنجبَت البَنات لأُسرةٍ ترَى فِي الإِناثِ ضَعفاً وفِي الذُّكورِ قُوَّةً ..

بِنتٌ بعدَ بِنتٍ وَهي تتحمَّلُ هَمساتِ مَن حولَها ..

فِي الحَملِ بعدَ البنتِ السَّادسَةِ نالَ اليأسُ مِنها كلَّ مَنال ..

لَم تَعد تَرغبُ بِمعرفَةِ نَوعِ الجَنين ..

وَضعتْهُ وَأغمضَت عَينَيهَا ..

سَمِعت الزَّغارِيدَ .. وَصَيحاتِ الفَرحِ ..

وَغَابت عَن الوَعِي ..

بِالكادِ أَنقذُوهَا ..

ضمَّتهُ إلَى صَدرِها غَيرَ مُصدِّقةٍ ..

أَخيراً .. تَضمُّ محمداً إلَى صدرِها ..

يُحبُّ المَاءَ ..

تَشدُّهُ قطَراتُها المُنسَابةُ ..

يَشتهِي السِّباحةَ كَما كُل رِفاقِهِ ..

يَرجُوهَا ..

يَتوسَّلُ إِليهَا ..

تَضمُّهُ إليهَا فِي كلِّ مرةٍ وَتهمسُ لهُ: مَا عندِي غِيرك .. لا تَخوِّفنِي عَليك ..

فِي المَدرسةِ يَتفوَّقُ لإِرضَائِها ..

يُشارِكُ فِي كلِّ أَنشطةِ المَدرسَةِ وَرَحلاتِها ..

إلا السِّباحَة ..

لا تُريدُ لهُ أنْ يَقتربَ مِن المَاءِ ..

ربَّما عندَها عُقدةٌ مِن المَاءِ ..

دَرجاتُهُ العَاليةُ تَقفزُ بهِ إلَى المَراتبِ الأُولَى ..

تَزهُو بِهِ ..

كلُّ ذَلك لا يَشفعُ عِندَها لتسمحَ لهُ بِالاقتِرابِ مِن المَاءِ ..

يُحاولُ أنْ يُقنِعَها أنَّ السِّباحةَ عِلمٌ وَفنٌّ يُمكنُ إتقانُهُ ..

لَم يَعد حُضنُها يتَّسعُ لَه ..

تَلفُّ يدَها حولَ كَتفَيهِ العَريضَتينِ وَتهمسُ لهُ: مَا بيوقَع إِلا الشَّاطر ..

دَعاهُ رِفاقُهُ مرةً لِرحلةٍ بَحريَّةٍ ..

رَافقَهم .. وَرافقَتهُ عُيونُها ..

شَجَّعوهُ علَى النُّزولِ إلَى البَحرِ .. رَفضَ ..

- أُمك مُو شَايفتَك ..

- بَس أنَا شَايفهَا ..

اكتَفَى بِالجلوسِ علَى الشَّاطئِ وَمُراقبَةِ رِفاقِهِ ..

سَخرُوا مِنهُ .. تَندَّرُوا عَليهِ ..

لَم يَتزحزَحْ ..

- وَعدتُها .. ولَن أَخذلَهَا ..

ونَاجَى نفسَه: إلَى متَى سَتظلُّ خائفةً عليَّ ؟!!

سَأطلبُ هَديةَ تخرُّجِي فِي العامِ القَادمِ السَّماحَ لِي بالسِّباحَةِ ..

خَوفُها علَيه يَزدادُ ..

- ابنِي بِرضَا الله علَيك .. لا توقع حَالَك بالمَشاكل ..

- بِدك منِّي أَتفرَّج مِتل النِّسوان!!

خَجلَت مِن كلمتِهِ ..

أَغمضَت عَينيها: يَحمِيك الرَّحمنُ يَا ولَدي ..

الاضطرَابَاتُ فِي كُلِّ مَكانٍ ..

لَم يَعدْ أحدٌ آمِناً ..

لَكنَّهُ التزمَ غايةَ الحَذرِ مِن أَجلِ عُيونِ أُمِّهِ ..

اكتَفَى بِالاستفادَةِ مِن دِراستِهِ فَنَذَرَ نفسَه لإسعَافِ النَّاسِ ..

عَاهَدَ نفسَهُ علَى الإِنصَافِ فَأسعَفَ الجَرحَى مِن الطَّرفِين ..

لَم يَرهقْ نفسَه بِالتَّفكيرِ وَلا حاوَل أَن يُوجدَ الحُلولَ ..

انغَمسَ فِي حَلِّ مَا يَستطِيعُ حلَّهُ ..

لمَّا أُلقِي القَبضُ عَليهِ كانَ مُندهِشاً ..

كُلُّ ذنبِهِ أنَّهُ أَسعفَ أُناساً علَى وَشكِ المَوتِ ..

تعمَّدَ الابتِعادَ عَن كلِّ مَا يُثيرُ شُبهةً حولَهُ ..

لَيسَ مِن بابِ الجُبنِ وَلكنْ مِن خَوفِهِ علَى أُمِّهِ ..

لَم يُشاركْ إِلا بِالإِسعافِ .. فَقط ..

لَكنَّ الكَائنَاتِ الَّتِي تُحقِّقُ مَعهُ لا تَفهمُ لُغةَ البشَرِ ..

آثارُ السِّياطِ علَى جَسدِهِ لَم تُوجعْهُ .. وَلكن أَوجعَهُ اللامَنطِق الَّذي يَتعامَلونَ بِهِ ..

لَسعاتُ الكَهربَاءِ فِي الأَماكِنِ الحَسَّاسةِ لَم تُحرقْهُ .. وَلكِن أَحرقَهُ الظُّلمُ الَّلامَعقول ..

وَبعدَ أَن أَفرغُوا كلَّ حقدِهِم وَبُغضِهِم فِي بَقايَا خَلايَاهُ الحيَّة .. رَبطُوا يَديهِ ..

سَارُوا بِهِ معَ عَددٍ آخَرَ مِن الشَّبابِ أَمثالِهِ ..

لِلحظَاتٍ استَروحَ نَسائِمَ نَديَّةً ..

أينَ يَذهبُونَ بِهم فِي هَدأةِ الَّليلِ ؟!!

إلَى أينَ يَنقلُونَهم يَا تُرى ؟؟

وَجهُ أمِّهِ يَملأُ صَفحاتِ خَيالهِ ..

لا يَستطيعُ أَن يَعتذِرَ لهَا ..

نأَى بنفسِهِ عَن كُل مَا يُمكنُ أنْ يُوقعَهُ فِي المَشاكِلِ .. لَكنَّهُم لا يَفهمُونَ ..

تَمتَماتُ رِفاقِه مِن حولِه: سَيعدِمُوننَا .. سيَقتلُوننَا .. سَيمثِّلُونَ بنَا ..

لا يَأَبَهُ لِشيءٍ ..

عِندمَا أَمرُوهُم بِالتوقُّفِ تلفَّتَ بِعَينيهِ فِي المَكانِ ..

لمَاذا هُنا ؟؟ مَاذا سَيصنَعُونَ ؟؟

عَقلُهُ عَاجزٌ عَن الفَهمِ ..

سَمعَ أَصواتَ الرَّصاصِ مُتَلاحقةً ..

هَل كانَ ما سمعه اشتِباكٌ قَريبٌ ؟؟ لا .. لا .. فَبعضُ رِفاقِهِ يَتساقَطُونَ ..

قَبلَ أَن يَفهمَ شعرَ بِأجسادِ مَن يَتساقَطُونَ تَدفعُهُ مَعهُم ..

هَل ماتَ ؟؟

مِن أينَ تأتِي هذِهِ القَطراتُ مِن المَاء الَّتي تَغسلُ وجهَهُ ؟

لا بُدَّ أنَّه مَاتَ ..

بِحركةٍ لا إِرادِيَّةٍ حَاولَ أَن يَمسحَ المَاءَ عَن وَجهِهِ ..

تَذكَّرَ أنَّهُ مُقيَّدٌ ..

إِذاّ .. هُو لَم يَمُتْ بَعد ..

وَهي لَم تَسمحْ لَه أَن يَتعلَّمَ السِّباحَةَ ..

مَاذا حَدثَ إِذاً ..

هَاهُو حُلُمهُ يَتحقَّقُ أَخيراً!!

إنَّهُ يَسبحُ فِي المَاءِ ..

لَكِن .. مَاذا سَتقُولُ أمُّهُ عندَما تَعرِفُ أنَّه خَالفَ وَصِيَّتَها وَارتَمَى فِي المَاءِ ؟

أَلم تُحذِّرْهُ مِن السِّباحَةِ وَأَمرتْهُ أَلا يَقترِبَ مِن المَاءِ!!

كَم كَانت تَخشَى عَلَيهِ مِن المَاءِ!!

لَقد ظَنَّت أَنَّها إِن مَنعتْهُ مِن تعلُّمِ السِّباحَةِ سَتحمِيهِ مِن المَاءِ ..

المَاء .. المَاء .. المَاء ..

يَا نَهرَ الدِّمَاءِ!!.