مُشوارٌ صَبَاحِيٌّ

د.فاطمة محمد العمر

د.فاطمة محمد العمر

[email protected]

فِي هَدْأَةِ الَّليلِ ..

فِي سُكُونِ الظَّلامِ ..

قَبلَ بُزُوغِ الفَجرِ ..

يَتَسَلَّلُ كَالأَشبَاحِ ..

يَمُرُّ بِسَرِيرِ طِفلِهِ الصَّغِيرِ ..

يَطبَعُ عَلَى جَبِينِهِ قُبلَةً حَارَّةً ..

يَسِيرُ مُتَرَدِّداً ..

الطُّرُقَاتُ لَم تَعُدْ آمِنَةً ..

رُبَّمَا تَكُونُ آخِرَ مَرَّةٍ يَرَاهُ فِيهَا ..

يَعودُ إِلَيهِ ..

تُراوِدُهُ نَفسُهُ أَلا يَذهَبَ ..

يَمسَحُ بَيدِهِ المُتْعَبَةِ عَلَى شَعرِهِ الأشقَرِ ..

تَنهِيدَةٌ حَارَّةٌ ..

دَمعَةٌ تُصارِعُ جُفُونَ العَينِ ..

يَسِيرُ مُتَثَاقِلاً ..

يَعُودُ مَرَّةً أُخرَى ..

يَتَأَمَّلُ مَلامِحَهُ المَلائِكِيَّةَ ..

تَمُرُّ بِذِهنِهِ صُورَةُ الطِّفلِ يَبْكِي بِالأَمسِ ..

لا يَستَطِيعُ أَنْ يَخذُلَهُ .. وَلا يُرِيدُ أَنْ يَخسَرَهُ ..

يَجُرُّ قَدَمَيهِ بِبُطْءٍ ..

يَسحَبُ نَفَساً عَمِيقاً ..

يُسَبِّحُ رَبَّهُ مُتَشَجِّعاً ..

يَفتَحُ بَابَ البَيتِ .. يَنفَتِحُ البَابُ المُقَابِلُ ..

يَبتَسِمُ لِجَارِهِ الصَّغِيرِ .. يُبَادِلُهُ الابتِسَامَةَ ..

يَسِيرَانِ مَعاً ..

يُخفِي فِي دَاخِلِهِ حُرْقَةً ..

يَحمَدُ اللهَ أَنَّ صَغِيرَهُ لَم يُضْطَّرَّ بَعدُ للخُرُوجِ بِنفِسِهِ كَهَذَا الصَّغِيرِ ..

يُحَاوِلُ أَنْ يُحَادِثَهُ فَيَشعُرَ بِالحُرُوفِ تَقِفُ فِي حَلْقِهِ ..

لا يَجِدُ كَلِمَاتٍ يَقُولُهَا فَيَمُدُّ يَدَهُ لِيُمْسِكَ بِيدِهِ الصَّغِيرَةِ ..

تَنَامُ الكَفُّ الصَّغِيرَةُ هَادِئِةً فِي يَدِهِ ..

يَبدَأُ الصَّغِيرُ فِي الثَّرْثَرَةِ: عَمُّو بِدِّي أَجِيب خَمسة ..

دُونَ أَنْ يَسأَلَهُ يَتَبَرَّعُ الصَّغِيرُ بِالتَّوضِيحِ: إِلنا وَلَبيت جِدِّي وَلَبيت خَالتي وَلَبيت رفيقي وَلَجيرانا اللي فُوق .. بَس مَا ني خَايف

رَعشَةٌ تَهُزُّ كَيانَهُ مَعَ كَلِمَةِ الخَوفِ ..

يَتَأَمَّلُ مَلامِحَهُ البَرِيئَةَ ..

آهٍ كَمْ يَكبُرُ الصَّغِيرُ حِينَ يَصغُرُ الكَبِيرُ!!

مَا تَزَالُ الكَلِمَاتُ الصَّغِيرَةُ تَتَلاحَقُ عَلَى شَفَتَيهِ: عَمُّو بِدنَا نِلعب طَابة المَسَا .. خَلِّي أُسَامَة يَلعب مَعنا .. مَا بِيصير لَه شي .. أَنا بَحمِيه ..

رَعشَةٌ أُخرَى مَعَ كَلِمَةِ الحِمَايَةِ ..

يَا لَلطُّفُولَةِ الَّتِي تَعَمْلَقَتْ فِي أَيَّامٍ لِتَهْزَأَ بِرُجُولَةِ السِّنِينَ!!

صَوتٌ هَادِرٌ يَشُقُّ عَنَانَ الصَّمتِ ..

يَشُدُّ عَلَى اليَدِ الصَّغِيرَةِ بِعُنفٍ وَعَينَاهُ تَتَلَفَّتَانِ فِي قَلَقٍ ..

الصَّغِيرُ يُتَابِعُ حَدِيثَهُ كَأَنَّهُ لَم يَسمَعْ شَيئاً: عَمُّو .. مَا تِحمل هَمّ .. شُوي وَبِتروح ..

رَعشَةٌ أَقوَى مَعَ كَلِمَةِ الهَمِّ ..

مَا أَصعَبَ أَنْ تُغَادِرَ زَمَنَكَ لِتَعِيشَ الهَمَّ قَبلَ الأَوَانِ!!

تَتَسَارَعُ خُطُوَاتُهُ .. وَالصَّغِيرُ إِلَى جِوَارِهِ يَكَادُ يَعدُو ..

عِندَمَا وَصَلا إِلَى مَقْصَدِهِمَا لَم تُفَاجِئُهُ جُمُوعُ المُنتَظِرِينَ ..

لَكِنَّهُ عَاتَبَ نَفسَهُ سِرّاً عَلَى تَأَخُّرِهَا ..

دَفَعَ الصَّغِيرَ أَمَامَهُ .. صَاحَ الصَّوتُ الصَّغِيرُ بِشَهَامَةٍ: لا .. عَمُّو .. خَلِّيك قَبلي ..

رَبَّتَ كَتِفَيهِ بِحَنَانٍ .. وَوَقَفَ وَرَاءَهُ ..

الصَّفُّ طَوِيلٌ .. وَقَد يَستَمِرُّ الانتِظَارُ لِسَاعَاتٍ لَكِن لا طَاقَةَ لَهُ عَلَى تَبَادُلِ الأَحَادِيثِ وَلَو لِلتَّخفِيفِ مِن طُولِ الوَقتِ المُمِلِّ ..

النَّبَرَاتُ الطُّفُولِيَّةُ لَم تَهْدَأْ ..

الأَصوَاتُ تَعلُو وَتَنخَفِضُ مِن حَولِهِ وَهوَ سَارِحٌ يُفَكِّرُ ..

تَمَلمَلَ فِي وَقْفَتِهِ بِاستِيَاءٍ وَاضِحٍ ..

صَوتٌ مِن خَلفِهِ: طَوِّل بَالَك .. لِسَّه القصَّة بِأَوَّلها ..

التَفَتَ إِلَى الخَلفِ .. ابتَسَمَ وَجهُ شَيخٍ مُسِنٍّ ..

بَادَلَهُ ابتِسَامَةٌ مُتْعَبَةٌ ..

الصَّوتُ المُسِنُّ يُدَاعِبُهُ: إِجَانَا التَّعَب ضِعفين بِآخِر العُمر ..

جَامَلَهُ: إِلكُم طُولة العُمر يَا عَمّ!!

عَادَ الصَّوتُ يُثَرْثِرُ .. لَم يَستَطِعْ التَّرْكِيزَ مَعهُ ..

مَرَّ وَقتٌ طَوِيلٌ ..

بَدَأَ الهَدَفُ يَقتَرِبُ ..

الحَمَاسَةُ مَلأَت الصَّغِيرَ عِندَمَا استَلَمَ مُرَادَهُ ..

ابتَسَمَ لَه سَائِلاً: أَخَذْتَ كُلَّ مَا تُرِيدُ ؟؟

صَوتٌ هَادِرٌ مَنَعَهُ مِنْ سَمَاعِ الرَّدِّ ..

لَحظَاتٌ ..

مَلأَت السَّمَاءَ بِحَجْمِهَا الهَائِلِ ..

فِي ثَوَانٍ ..

وَجَدَ نَفسَهُ مَرْمِياً عَلَى الأَرضِ ..

هَبَّ مُسرِعاً .. فَارْتَطَمَتْ عَينَاهُ بِيَدٍ صَغِيرةٍ تَشُدُّ عَلَى رَغِيفِ خُبْزٍ يَنْزِفُ دَماً.