أَجْملُ الميْتاتِ

إلى الرجل الكبير الفقيد أحمد بنعزوز

(عبد الكريم، الشيخ، وما شابه)

محمد الهجابي

[email protected]

لملَِم القناعَ والقفّاز،

ثمّ اتخذَ لكَ ركناً في أقصى الرّكح،

واتكئ على العكّاز.

وزّع بصركَ على كلّ الجبهات،

استقرئ الخارطةَ،

واصغ لصليل المشاهد في الزّوايا منكَ،

لعلّها تصدي بشجون،

حتّى إذا أمّنْتَ السّينوغرافيا،

وصادقتَ على آخر المتمّمات،

وشحنْتَ الآلةَ منْ أنفاسكَ،

حدّ ما فضُل لديك منَ الجُرعات،

ما لا يوجعُ الحضورَ،

ما يُضحكُ فحسبُ،

أَسدِل الستارةَ دفعةً واحدةً،

وأَطفئ عيْنَ الشّمس،

وانثر نُجيْماتٍ في البُهرة الفسيحة،

كما لو تلقي بحروف الأسماءْ

 التي حَملْتَ على مدار العمر،

فوق أسطر الماءْ،

كيما تغرق بأوزارها إلى

أسفل الينابيع،

أو كما لو ترمي بهَبارَتكَ منْ على الكتفيْن.

لا توجز الحكايةَ،  

وكسّر العكّازَ على فخذِكَ شطريْن،

لا أَكثرَ،

ثمّ امرقْ منَ البابِ الخلْف،

وانزل درج السُلّم،

في حذَرٍ،

كما قطّ الكواليس،

نحوَ الدرْب الجانب، المعْتمِ، حذاءَ البحر،

حيثُ أصغرُ حانةٍ في الحيّ،

واشربْ درّاقةَ أَجْملِ الميْتات،

تلك التي تأتيكَ وأنتَ في أوجّ النشوة،

فوق شرشفِ مومس الحي،

وأنتَ تدنسُ بقدمك

حرمةَ الفواجع في ليلةٍ غماء،

بعد المنتصف بقليلْ،

أو تفضي بسرّ أثقلَ على خاطركَ لسنين،

في مقصورة قطارٍ عابر،

لرفيقة طريق غريبة،

فاتنة،

واتركْها تواصل،

ثمّ اهبطْ منه بمفردكَ عند أوّل محطة،

واختف بين النازلين.

كأسٌ أولى، تعقُبها كؤوسٌ،

وهذا اللّيل طويلْ.

أيّ الستارتيْن تسدل:

ستارة الركح أمْ ستارة الأنين؟

لا تَعْقل،

كيفَ تَعْقل؟

وأنتَ لمْ تبارحْ ظلّكَ،

لمْ تنزلِ السلّمَ،

لمْ تجالس طاولات حانة الصيادين،

وإنّما تشبّحتَ فوق الخشب،

وقد أفرغْت السائلَ في الجوف

إلى آخرِ قطرة،

كأنّما تستعيدُ مشاهدَ الحكاية منْ خواتمها،

يومَ تهيّأتَ، ذاتَ فجرٍ، لهذا السفرِ المديد.

لا الخارطةُ اتسعت لوقع مداسك،

ولا الدواخلُ أورقت طفاوةَ ياسمين.

ومنكَ اللسانُ كان يستضئ،

لكمْ عطّل منك منْ وَكْد،

لكمْ خَبِرَ فيك من تخرّصات،

لكمْ شقّ عليه أن يربضَ بين الفكيْن

منْ غير إفكٍ رجيم،

لكمْ عظُمَ عليه أنْ يرى مجدكَ في مجدِ جمجمةٍ أثخنتها السباسبُ بعزيفٍ موغل.

خسئ ذاك اللسانُ بما غنمْ

في جحيم الهالكين،

بين رابحٍ في إدبار،

وخاسرٍ في إقبال،

مثل الديكة، إذ بالاقتتال تنعمْ.

لسانُكَ، يا صاح، كباقي ألسنة الأنام،

كالمشارط تجري جريَها بتلذّذٍ أرعنٍ،

بين جراح لا تنفكّ تنزف.

كمْ يبدو الوقتُ الساعةَ ضيقاً،

كيْ تلجَ مخدعَ مومس الحيّ من جديد،

وتتفيّأَ بدغلِ الضفتيْن،

منْ لفْح الهجيرِ،

وتتخلّص من توجّسات اليد التي تيبّست.

هلْ منْ ضوءٍ ما يزال يأتي من كوى المكانْ؟

باردةٌ يدُكَ هذه كيْ تهيلَ  على الجسدِ السّاجي

فائضاً منْ عنفوانِ عطشها المزْمن.

هلْ لكَ منَ المساحات ما يكفي لترتجلَ نشيدَك فوق قباب الأنثى

مثلما كنتَ من قبلُ تفعل؟

وأنا أراكَ، وقد غادرتَ الرّكح، تنزل السلّم، في ذلك المساءْ،

كمنْ فارق الحيّ والبحر والحانة الصغيرة،

ولمْ يعدْ منْ جدوى للقفّاز أو القناع أو العكّاز.

تعالَ معي نرصدُ منَ السابلة منْ  يُنشئُ لكَ نبضاً خارجَ رمْسِك،

فتَسْلَم من النسيانْ.

تعالَ معي، يا صاح،

نقْتسِمُ نخبَ هذه الكأس الأخيرة،

تعالَ معي نصيحُ ملءَ الفضاءْ:

بئسَ جحودَ هذا الزمانْ.