المجاز بين القُمُّص وابن الوردي!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 318

في رؤيةٍ من هذه المقالات، تحت عنوان «القُمُّص وباولو كويللو!»، رأينا أحد القَمامصة المشلوحين، متشنِّجًا، في يوم المرأة العالمي- وهو يثير العَجَاج في وجه الإسلام. عجاجًا استنشقه من أسلافه في التراث، ويستنشقه عنه مَن يتلوه، ثمَّ مَن يتبعهما بحرب دِينيَّة. مستشهدًا بالآية القرآنيَّة: )نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ...(، [سورة البقرة: 223]، في معرض الطعن في مكانة المرأة المدَّعاة في الإسلام. وهو يصيح: كيف تُجعل النساء مجرد حَرْثٍ للرِّجال، فهنَّ كالأرض التي تُداس وتُحرث وتُبذر وتُستغلّ؟!  وقد ناقشنا هذا في ذلك المقال. ومثل توقف المنتقدين عند مسألة «الحرث» توقفُهم عند مسألة «المكر»؛ مدندنين حول الآية: ﴿ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّـهُ، واللَّـهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ﴾، [سورة الأنفال: 30]. عندئذٍ يَنُطُّ القُمُّص من مقعده عِدَّة مرَّات:

ــ «بُصْ شوف إله المسلمين، يقول عن نفسه: إنه ماكر!» 

وماذا يقال لمثل هذا، إلَّا أن يقال:

ــ أيها الجاهل، ألم تسمع عن شيءٍ اسمه «أسلوبٌ أدبيٌّ»، أو «بلاغة»؟! فضلًا عن أمرٍ يُسمَّى «المجاز المرسَل»؟! بالتأكيد أنك لم تسمع، لكنك تحكم على ظاهرٍ من القول. وإلَّا لعلمتَ أنه لم يأت في «القرآن الكريم» القول، مثلًا: «إن الله ماكرٌ، أو مكَّار»، كما جاء في تلك الآيات التي تشير إلى صفات الله، كقوله: ﴿إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، ونحوها من الآيات، وإنَّما جاء الوصف بالمكر في سياق التعبير المجازي.  وأمثلة هذا كثيرة في العربيَّة وفي غير العربيَّة.  أولم يقل الشاعر الجاهلي (عمرو بن كلثوم)، في معلَّقته:

أَلا لا يَجهَلَنْ أَحَدٌ عَلَينا ** فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا؟

وقوله «فنجهل فوق جهل الجاهلين» إنَّما هو مجازٌ مرسَل، لعلاقة السببيَّة بين الفعل وردِّ الفعل؛ فالجهل الأوَّل في البيت حقيقيٌّ والآخَر مجازي. وقد جاء في «القرآن» أيضًا: ﴿وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾. [الشورى: 40].  مع أن الجزاء ليس بسيِّئة.  وجاء: ﴿فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ، فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ، واتَّقُوا اللَّـه﴾، [البقرة: 194]. فسمَّى ردَّ الاعتداء اعتداءً، مع أنه ليس باعتداءٍ على الحقيقة. وقال: ﴿إِن تَسْخَرُوا مِنَّا، فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُون﴾، [هود: 38].  وعليه قول (أبي تمَّام):

لا تَسقِني ماءَ المُلامِ فَإِنَّني ** صَبٌّ قَدِ اِستَعذَبتُ ماءَ بُكائي

قالوا: اقتَرحْ شيئًا نُجِدْ لك طَبخَهُ ** قُلتُ: اطبُخوا لي جُبَّةً وقَميصا

أفكان الرجل مجنونًا ليقترح عليهم أن «يَطبُخوا له جُبَّةً وقَميصا»؟!  كلَّا، بيدَ أن من لا يعرف البلاغة- التي تعتمد فنون المجاز لا الحقيقة، واللغة الوظيفيَّة لا اللغة المعجميَّة، والتصوير والتخييل والبديع، لا نَقْل الواقع كما هو مع وضع الألفاظ في مواضعها الأصليَّة- سيَعُدُّ أساليبها كَذِبًا، أو جنونًا. سيعُدُّ آية، مثل قوله تعالى: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا، إِلَّا سَلَامًا﴾، أو ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ولَا تَأْثِيمًا، إِلَّا قِيلًا سَلَامًا﴾، متضمِّنةً ضربًا من التناقض. متسائلًا: كيف يقال: إن السلام هو من اللغو أو التأثيم؟ ومثل هذا المعترض لا يفقه شيئًا من البلاغة البتة، دع عنك أن يكون قد سمع بما اصطلح عليه في البلاغة العربيَّة بـ«تأكيد المدح بما يشبه الذمّ».  فإذا هي تنقلب حسنات الأساليب في ذهنه إلى سيئات، وتستحيل فنون البلاغة إلى هلوسات كهلوسات المساطيل!

...

ربَّ مَــسْطُـــوْلٍ تــولَّــعْــــنــا بِـــهِ ** قــالَ مــا أنتـمْ وما هــذا الــوَلَـعْ؟

يفعـلُ القنبسُ بي ما يشتهي ** في يدي كانَ وفي رأسِي طَلَعْ!

ثمَّ قال:

ــ بل هو يعلم، لكنه اللفُّ والدوران. بدليل أنه يلجأ إلى القول بالمجاز، والمجاز البعيد جِدًّا، حينما يَنْزَنِق أمام أسئلةٍ حول القول بأن المسيح ابن الله، مثلًا. أو لِمَ لعنَ (يسوع)- كما وردَ في «الإنجيل»- الشجرةَ غير المثمرة في غير أوان الإثمار؟ أو في مسألة سيف المسيح؟ أو قول المسيح للذين رفضوه: «إيتوا بهم، واذبحوهم قُدَّامي»؟ أو نَهْي المسيح عن السَّلام على مخالفي تعاليمه- أو من يُسَمَّون الهراطقة- وأنْ لا يُقبَل دخولهم المنازل؟ فإذا صاحبك يتفتَّق دماغه عن ألوان بديعة من المجاز، وإذا هو يلجأ إلى خيالٍ سوريالي، كما تسمُّونه في عصركم، أو قل إلى خيالٍ صوفيٍّ- بحسب المصطلح الإسلامي- للتنصُّل من تلك النصوص الشبيهة بنظائر من النصوص يقذفها في وجوه المسلمين، أو حتى لتَناقُضها مع العقل المجرَّد. وهكذا فإنه إذا تعلَّق الأمر بنصوص إسلاميَّة، ذهب إلى أن معانيها حرفيَّة الدلالة، حقيقيَّة لا طائف فيها من مجاز، وما ينبغي أن يُلتفت فيها إلى تفسير، أو تخريج، أو تضعيف، أو تكذيب، أو تعارضٍ مع نصوص إسلاميَّة أخرى، بل لربما فضَّل أن يفهمها هو على هواه، وما أدراك ما هواه!  وأمَّا إذا تعلَّق الأمر بنصوص شبيهة في أسفاره المقدَّسة، فحدِّث ولا حرج! ما أوسع فضاءات الخيال، وأرحب سماوات التأويل! والتأويل حيلة المضطر، في كثير من الحالات. هنا تسمع جهاز المجاز وقد بدأ يشتغل بكامل طاقاته، وترى الخيال وقد انبلجَ على مصراعيه. وهنا تُمسي المعاني لديه مجازيَّةً بلاغيَّة، فإنْ لم يُسعفه المجاز، ذهب إلى أنها إنَّما تتعلَّق بيوم الدينونة، أو أن لها تخريجاتها الغنوصيَّة الجاهزة الأخرى، التي تُخرِجها ممَّا لا ينبغي أن يُرَى فيها، كالشعرة من العجين! وذلك هو الغَرض، إذن، والنفاق الاعتقادي. غير أنه إذا اجتمع الجهل بالغَرَض العدائي، «فأقم على صاحبهما مأتمًا وعويلًا»! ولك أن تتفرَّج على الأعاجيب المسلِّية ممَّا يقول! وللدارس منكم أن يتخذه نموذجًا بشريًّا رائعًا لتحليل الكيفيَّة التي يتأتَّى بها للتقنية العقديَّة تحويل الإنسانَ إلى حرباء، تتلوَّن بحسب الشيء الذي تضع يدها عليه! وهذا هو بيت القصيد، لا الشاعر القُمُّص نفسه.

- أهلًا بأبي حفص!  كيف سمعت كلامي، وأنت في (حَلَب)، تحت دويِّ الحرب المسعورة، وبيني وبينك قرون وقرون؟

طالتْ حياتي في سِوَى طائلٍ ** حتى رأيتُ القردَ قاضي القضاةْ!

لكني وددتُ، إنصافًا، أن ألفتك إلى شيءٍ مهمٍّ، حتى لا تحمِّل صاحبك فوق ما يحتمل. الحق أن من المسلمين أيضًا من قال بمثل ذلك الهراء الذي قيل عن «مكر الله»، فذهب إلى احتمال أن مكر الله على الحقيقة؛ وأن الله يستدرج بالنِّعَم لما يُعِدُّه من النقم! وتالله ما قدروا الله حقَّ قدره، وإنما تصوَّروه كحاكمٍ بأمره من البشر، في تلك العصور الظلاميَّة القديمة، أيَّام كان الحاكم ربًّا يُعبَد. جعلوا الله كأحد طُغاتهم من الأباطرة، القياصرة أو الأكاسرة، أو حتى الغساسنة أو المناذرة، من المحرِّقين، الذين كان لمنذرهم بن ماء سمائهم يومان: يوم نعيم، ويوم بؤس. كما أن من المتعصِّبين مَن أنكر المجاز في اللغة بالكُلِّيَّة، لا لشيء من العِلْم بطبائع اللغات والبلاغات، ولكن خصومةً لمن سَمَّوهم بـ(المعطِّلة)، الذين يتأوَّلون صفات الله الواردة في «القرآن»، كاليد، والعَين. فهم لكي يتخلَّصوا من تفسير (المعتزلة)، ومن لَفَّ لفَّهم: اليدَ بالقُدرة، والعَينَ بالرعاية، ونفي حقيقة مثل هذه الصفات عن الله- توقِّيًا منهم لتشبيهه بخلقه- قال بعضهم بنفي المجاز في «القرآن». ولم يكتفوا بذلك، بل ربما قالوا بنفيه في اللغة جُملةً. ولو اقتضى الأمر نفي اللغة نفسها، فلا مانع لديهم، لردِّ المعتزلة والمؤوِّلة على أعقابهم.

- «وليخسأ الخاسئون»! وبذا أصبحت البلاغة العربيَّة في مهبِّ المعطِّلة والمشبِّهة؟ 

- نعم. وكأن المجاز خاصٌّ باللغة العربيَّة! وكأنه اختراعٌ عربي، إذا نفيناه في العربيَّة، فقد نفيناه من اللغات البشرية كافَّة! في حين أن المجاز قائم في لغات البشر جميعًا، لا لغة من دونه. ولم يقل بنفيه عاقل، في ما نعلم، وكم ثمَّة من غير العقلاء ممَّن لا نعلم، على كلِّ حال! لم يقل به إلَّا أولئك النفر المتنطِّعون، ومَن تبعهم بتنطُّعٍ إلى يوم الدِّين.

وسوم: العدد 786