بين التقويم والتقييم

لا أريد أيها السادة، في هذا المقام، أن أجعل من قضية التقويم موضع خصام. ولا أريد أن تكون هذه القضية، لمن لم يشتد عوده في العربية مطية، بل لا أريد أن يعلو على لغة الضاد، من هو لها بالمرصاد، يحسب أنه أوتي منها مسكة، وهي في حلقه المقروح شوكة.لا أريد هذا ولا ذاك، . ولكني واقف عند هذه الإشارة، (اللغة بنت الاستعمال) فموفيها حقها من العبارة، مراعيا في هذا الحق ما تقضيه البلاغة، وما عليه شروط الصياغة، من موافقة الكلام لمقتضى الحال، ومطابقة المجال للمقال.فأقول وبالله القائل والمقول، إن اللغة أي لغة تجد وجهتها ومجالها، فيما أوجده المتحدثون بها لها، من مساق تواصلي، وسياق تداولي، القصد منه إحياء هذه اللغة عن طريق إثرائها، وتعميمها بإجرائها على أجوائها، والصعود بها مرة إلى مواطن الكتابة، والانطلاق منها إلى آفاق الذرابة والخلابة، والنزول بها مرات إلى حتمية الكلام المعاد، في مجالات التواصل المعتاد.واللغة أيها السادة إما أن تكون غاية في ذاتها، تتملى نفسها، وتنظر في آياتها، وإما أن تكون وسيلة تؤدي الأغراض النثرية، بعيدا عما يبحر في الدائرة الشعرية، من حقائق لا يرقى إليها إلا أولو العلم، ولا تتأتى في الخضم العبقري إلا لذوي الفهم. بين أن تكون اللغة لغة شعرية وأن تكون لغة نثرية أو علمية، يزداد الثراء الكلامي قوة ومتانة، ويبهر بعطائه أهله وزمانه. وفي هذا المجال، أي مجال الكتابة والإرسال، يتأكد قانون العربية، وتزداد القدرة على الإنشائية. أما أن يخبط من لا علم له باللغة أسرارها، ولا بصر له بشؤونها وأخبارها، فيخلط حيث يجب أن يوضّح، ويُعمّي حيث يدعوه العقل إلى أن يصرّح، فتلك هي المشكلة التي لا يستعصي على العلم السخي فهمها، ولا يتأبى على الفهم الذكي علمها، وإن غابت عن كثير من الأفهام مكامنها، وانغلقت على ذوي النيات الحسنة خزائنها، وهي خزائن تحمل من التحري للغة الكثير، وما ينبئك عن الطوايا مثل خبير.

ونريد أيها السادة أن نبين التحريف الذي مس كلمة تقويم، وقد خلقت في المجال الاستعمالي في أحسن تقويم. فما جزاء من يحرف الكلم عن مواضعه، إلا أن يُرد إلى رشده، فيعود إلى مصادره ومراجعه. ولا مجال للاجتهاد مع وجود النص المبين، ولا داعي إلى الضلال وفينا المرشد المعين. وما النص والمرشد إلا ما بأيدينا من المعاجم الكبرى، وذرني أهجر ما في الساحة من معاجم صغرى، تتصرف في اللغة بالزيادة والنقصان، مرضاة لاستعمال فلان أو علان. وإن كان فلان أو علان مخطاء في الكلام، لا يعرف موضع السرج من موضع اللجام. ومما يدعو إلى العجب، أن العامة تنطق بلغة العرب، فتستعملها في كثير من شؤونها، وتحنو عليها في كثير من فنونها. ويخطئ الكتبة البلغاء، أو من يخيل إليهم أنهم بلغوا الجوزاء في الاستعمال العلمي أو الأدبي، فلا يصيبون المقتل في التعبير بالكلام العربي. من عجب أن ينطق العامة ب((يْقـَوَّم الدار)) وينطق الكتاب ب ((يقيم الآثار)). غير أن هذا العجب لا يلبث أن يزول، إذا عرفنا صلة الصواب بالمنقول والمعقول، وعقلنا صلة الخطأ بما هو منبوذ ومرذول. أروني ماذا فعل المجددون في اللغة حيث لا داعي إلى التجديد. وماذا صنعوا بأنفسهم ولأنفسهم في خضم الترديد. لقد قالوا بالتقييم لإظهار القيمة، وما دروا أن قيمة من قوْمة. نسوا حرف العلة، لعلة في صدورهم، من بعد أن أنساهم الشيطان أن يذكروه في أمورهم. فاختلطت عليهم السبيل، وغاب عنهم التعليل، ولم يعرفوا أن لا وجود في التقويم إلا لواو العلة، فعز عليهم أن يقولوا بالحق لإغراقهم في الزلة.وهي زلة تضيع الجهد فيما لا طائل فيه، وتنكر الحق وقد تحققت مراميه. أليس من العبث أن تخترع كلمة لا موجب لا ختراعها، لأن في العربية الفصحى، ما يدعو إلى اقتلاعها.؟ أليس من الضياع والتضييع، أن نبحث عن كلام لا يقوم في حلبة الصواب، ولم يتحدث به أحد من  ذوي الألباب؟. إن أفعال العقلاء تصان عن العبث، وإن كلام الحفظة لا يقع في الرفث. وما العبث إلا أن يقتلك السرى والإنضاء، في البحث عن كلمة خرقاء. والصحيح الصواب موجود، وحبله إليك ممدود. قالت العرب بالتقويم لتحقيق معنى الإصلاح وإظهار القيمة، والسياق أوالقرينة هو ما يسترشد به أهل الألسن القويمة، في مجال معرفة هذا المعنى أو ذاك، مما ينبغي أن يحيط به الإدراك. أما بعد أيها السادة فإن العربية لغة القرآن، فمن أحب العربية أحب القرآن، ومن أحب القرآن أحب العربية،. وإن من الأعمال التي تعصم صاحبها من الفتنة، فيدخل الجنة، حب العربية، والعمل على إتقانها، والرفع من أمرها وشانها. فإن كان لا بد أن يكتب أويبدع أو يشقق الكلام  فيها، فليأتمر بالقواعد والسنن المتحكمة في مناحيها. وصلى الله على محمد وعلى أبويه إبراهيم وإسماعيل وسائر النبيئين وسلم تسليما.

هذا حديث من الأحاديث التي ألقيتها على الناس من إذاعة وجدة في التسعينيات من القرن الماضي.

وسوم: العدد 792