فن الرثاء في شعر الدكتور محمد إياد العكاري

clip_image002_d191b.jpg

يعرّف النقاد فن الرثاء في اللغة بقولهم: إنه الثناء على الميت سواء أكان شعراً أم نثراً .

أما تعريف (الرثاء) في الاصطلاح الأدبي: فهو فن شعري يقوم على البكاء والتفجع على الميت والحبيب الراحل عن دار الفناء، وتعداد سجاياه .

أغراض الرثاء :

تتعدّد أغراض الرثاء في الشعر العربيّ، فمنها ما هو مختصّ بالأقارب كالأخ والأخت والابن والأم والأب، وهناك ما هو مختصّ برثاء الزوجة، وقد كان هذا النوع في الجاهليّة غير منتشر؛ لأنه كان يعتبر نوعاً من الضعف عند الرجل، لكنه انتشر فيما بعد، وأصبح من أبلغ الشعر الذي قِيل في حقّ الزوجة، وأيضاً هناك رثاء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أبرز شعراء هذا النوع من الرثاء هو شاعر الرسول حسان بن ثابت، إذ قال أروع الكلام في حق الرسول صلى الله عليه وسلم عندما فُجع المسلمون بوفاته عليه الصلاة والسلام، بالإضافة إلى ما تمّ ذكره سابقاً يضاف رثاء فَقْد الأوطان والدول إلى أغراض الرثاء؛ لما له من شهرة واسعة في أشعار العرب؛ نظراً للأحوال السياسيّة والاجتماعيّة المتقلبة التي مرّ بها العرب عبر التاريخ، ومن أشهر الحوادث التي مرّ بها العرب فقدان الأندلس، والحوادث العظيمة التي حصلت لهم على يد المغول.

خصائص الرثاء :

يعتمد الرثاء على مشاعر صادقة وأحاسيس معبّرة، فلا يمكن للشاعر أن ينتج قصيدة رثائيّة جيّدة إن كان المرثي ليس له علاقة مباشرة معه، فيجب أن يكون كلام الشاعر نابعاً من القلب حتى ينتظم معه الكلام والوزن الشعريّ بشكل جميل يعطي للقصيدة رونقاً خاصّاً بها، كونها نُظمت لأجل رثاء شخص له علاقة مباشرة مع الشاعر، لهذا يتميّز الرثاء بالعديد من الخصائص والمميّزات ومنها:

نشر الشاعر لحزنه وشكواه إلى من يسمعه. يجب على الشاعر أن يلقي قصيدته بشكل تفاعليّ حتى يشعر به المتلقي، ويتفاعل معه، وتصل إليه القصيدة بكامل مضمونها العاطفيّ المُحزِن. ثناء الشاعر ومدح الميت وذكر خصاله الحميدة. يحمل الكثير من المشاعر الصادقة والمؤثّرة في النفس عند سماعها. عدم التصنّع في الشعر حتى لا تخرج القصيدة عن مغزاها الأساسيّ وهو رثاء الميت. تبدأ القصائد الرثائيّة غالباً بمخاطبة العين، وطلب البكاء منها على فراق الميت.

اتجاهات الرثاء :

يتعرّض الإنسان لمواقف صعبة خلال حياته سببها الموت، ولم يستطع إيجاد حل لها سوى ندب مصيبته وذكر الميت، ومع تعدّد أسباب الموت واختلاف الظروف والأشخاص تعدّدت اتجاهات الرثاء ويُذكر منها:

الرثاء السياسيّ: ظهر مع توسّع رقعة الدولة الإسلاميّة نتيجة لكثرة الحروب والقتلى.

رثاء الرجل زوجته: أول من نظم قصيدة رثى فيها زوجته هو جرير بن عطية عام 116 هجري، ويمتاز هذا الاتجاه من الرثاء بكثرة مشاعر الاشتياق والحنين والحسرة على فقد الرجل زوجته.

الرثاء لأجل فكاهة:

هو أن يكون القصد من الرثاء السخرية والفكاهة لا التحسّر والحزن على فقدان الميت.

ألوان الرثاء :

يُعتبر الرثاء من التراث العربيّ الأصيل، ومن أكثر فنون الشعر صدقاً وعمقاً في التعببر، وغالباً ما تكون ألوان الرثاء مجتمعةً معاً لكن يغلب أحدها بشكل ظاهر فيُسمّى العمل الشعريّ به، ويمكن التعبير عن الرثاء بثلاثة ألوان وهي:

1-النُدب: وهو البكاء أثناء احتضار الميت، أو بعد وفاته.

2- التأبين: وهو ذكر الميت وتعداد خصاله الحميدة في جمع من الناس، ويُعدّ التأبين نوعاً من التكريم للميت.

3- العَزاء: هو التفكير في ما وراء الموت، والتأمل في الموت والحياة بشكل يصل إلى أعماق فلسفتهما.

وهناك عيوب تُضعف شعر الرثاء :

مما لا شك فيه أنّ لكل نوع من أنواع الشعر خصائص تميّزه وأمور تُضعفه، وبما أنّ الرثاء نوع من أنواع الشعر التي اختصّت بمدح الميت فلا بد من وجود عناصر تعطيه بعض العيوب التي من الممكن أن تُنقص من قيمة الشعر الرثائيّ في حق الميت، ويُذكر من عيوب هذا النوع الشعري: عدم ذكر الميت بشكل يوفي حقه، والتقصير في ذكر مناقبه وصفاته وخصاله الحميدة، والتصنّع في الشعر، وعدم الصّدق في كلام الشاعر، ونظم الرثاء فقط للمجاملة والنفاق.

وقد عدّد شاعرنا ( د. محمد إياد العكاري) الأساليب، ونوّع في شعر الرثاء حيث رثى والده ووالدته، وكان جُلّ الشخصيات التي رثاها من العلماء والدعاة والشهداء، حيث رثى الشهيد عبد الله عزام، والإمام أحمد ياسين، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والشيخ الداعية عبد الله علوان، والشاعر يوسف عبد اللطيف أبو سعد، والشيخ زهير شاويش، والشهيد الفلسطيني الشاب أحمد نصر جرار . ..

رثاء الوالد :

توفي والده الأستاذ صلاح الدين زاكي العكاري في ليلة الأربعاء 5 / 7 / 1424ه / الموافق 11 / 9 / 2002م في الشام، وحالت بين الشاعر وأبيه الظروف والحدود، ولم يتمكن من إلقاء نظرة الوداع عليه، فكتب قصيدة تحت عنوان: ( يا رحمة الله هبي فوقه سحباً):

أبتاه يا أنشودة بجناني       طيفاً تسامى في سنا الوجدانِ

صرحاً عظيماً بالمآثر يعتلي         فوقَ الثريّا رسمه بكياني

وبكلّ ذرّات الفؤاد وأضلعي    وبكلّ قان ماجَ في شرياني

أبتاه يا أبتاه قلبي مفعمٌ          حُبّاً عظيماً للذي ربّاني – أشواق الروح : 41 ، 42 .

وقد استخدم الشاعر أسلوب النداء ( أبتاه، يا أنشودة )، وهو أسلوب نداء للقريب مما يدل على قرب والده من قلبه وروحه، وقد كرّر الشاعر ( أبتاه، يا أبتاه، ثلاث مرات ) مما يؤكد على هذا المعنى، ويدل على إصرار على ذلك الحبّ الذي يغمر مشاعره، ويفيض على نفسه وقلبه وروحه .

وقد اختار الشاعر لقصيدته هذه البحر الكامل، ( وقد أحسن الخليل بتسميته كاملاً؛ لأنه يصلح لكل أنواع الشعر، وهو في الخبر أجود منه في الإنشاء، كما أنه أقرب إلى الشدّة منه إلى الرقة، وقد جاءت معلقة لبيد، وهمزية شوقي في رثاء عمر المختار عليه ).

وفي قصيدة أخرى للشاعر جاءت تحت عنوان: ( تألقت بسنا الحروف مشاعري ) يتذكر أباه بعد مرور فترة من الوقت على رحيله، وينظمها على البحر الكامل أيضاً، فلنستمع إليه، وهو يقول :

أترى التفكر في الحياة عثارُ ؟      يا ويلتاه إذا اختفت أقمارُ

وقد بدأ قصيدته بالتصريع بين ( عثار، أقمارُ ) على عادة القدماء؛ ليكسب النص موسيقا عذبة وإيقاعاً جميلاً لتشويق السامع والمتلقي .

واحسرتاه إذا الأبوة مُدّدتْ       والبيتُ يُبصرُ صرحه ينهارُ

وافقدتاه إذا تحطّم ركنه        والعينُ قرّتْ ..وانطفت أنوارُ

أبتاه يا علماً أشمّ مجاهداً      في ذي الحياة، وللمسار منارُ

فالأب الرحيم هو الركن الركين في البيت المسلم، ولا سيما إذا كان ذلك الأب علماً أشمّاً، ومجاهداً لا يشق له غبار .

ويخبر الشاعر محمد إياد العكاري أخاه بأن دموعه لم تجفّ على الوالد الراحل بعد مضي 9 أشهر، وهذا يدل على مدى تعلقه بأبيه، فيقول:

أأخي دمعي لم يجفّ لفقده     هيّجت ذكرى، والعيون تثارُ

والقلبُ يلهجُ بالدعاء لذكره     والبرُّ وصــــــــــــــــــــــلٌ بيننا وعمارُ – أشواق الروح: 49 .

رثاء الوالدة :

وكتب الشاعر محمد إياد العكاري عدة قصائد عن أمه، وفي واحدة منها كتبها، وهي على سرير المرض، يقول فيها:

أمّاه يا بدر الصفاء الساري           أماه يا شمس الهنا ونهاري

وقد استخدم الشاعر التشبيه البليغ ليؤكد على مدى التطابق بين المشبه ( الأم) والمشبه به ( البدر ، وشمس )، ثم يتابع فيقول :

أماه يا صرح السعادة للورى        وجنان ودّ برعمتْ أزهاري

أماه يا بحر العطاء وأنهرا         للخير تروي بالصلاح مساري

أماه يا لحنا تعالى شدوه             ونشيدَ حبّ هاج بالأوتار

أماه يا أندى النداء بخافقي     أفق الكمال علا فضاء مداري

وقد كرر الشاعر كلمة ( أماه ) ست مرات، فهو يؤكد على حبه لها، فهي جزء من روحه، ويستخدم هاء السكت ليدل على مشاعر الحزن والأسى التي تهيمن على نفسه ، ويتابع الشاعر رثاءه، فيقول :

ماذا أحدث عن فيوض حنانها      منها تلاقي الجودَ بالقنطارِ

ماذا أقولُ عن الشقاوة والضنا     والجهد ليل نهار نحو صغارِ ؟

فلو كان حنان الأم نهراً لأغرق العالم، ويبيّن عظمة الأم ودورها في حياة الأبناء وأهميتها، فيقول:

فالأم أجملُ نسمة ٍفي دنيتي       بشذا الأقاحي عطّرتْ أغواري

والأم أجمل بسمة ٍ من ثغرها       تزهو الحياة، وتعتلي أقماري

والأم ينبوع الصفاء موشحاً    بسنا الربيع الطلق في آذار ِ

والأم مهدٌ للبطولة والفدا       كم أنجبتْ فينا من الأحرار ؟ - أشواق الروح: ص 35، 36.

وتكرار لفظة الأم المحببة يدل على عظمتها وأهميتها ودورها في تربية الأبناء .

وفي قصيدة أخرى جاءت تحت عنوان : ( روحي بقربك ) يقول :

من لي كمثلك في الدنا شهدا ؟      أو لي هنالك كوثراً وردا ؟

ثم يتابع، فيقول:

أماه قدرك لا حدودَ له       أماه يا ذاك السنا المهدى

من لي كمثلك جنة وهُدى ؟   جلّ المقامُ يُسابق المجدا

أماه رفقاً فالفؤادُ شجى       مالي ألاقي منكمُ الصدّا

فمودتي كالصرح ملء دمي    ولك المشاعر تنثرُ الوردا – أشواق الروح: ص 17 .

رثاء الشهيد عبد الله عزام :

وصل إلى سمع الشاعر نبأ كان وقعه كالصاعقة ألا وهو استشهاد الشيخ عبد الله عزام بحادث غادر أليم، فسارعَ على الفور، فكتب قصيدة تحت عنوان: ( شهيد الراية ) يقول فيها:

أي أمر منه القلوب تفطر ْ!     أي جرحٍ له الكيان تفجرْ ..!

وهذا التصريع بين ( تفطر ، تفجر ) يكسب النص جرساً موسيقيا قوياً :

أي خطبٍ دهى وأية جُلّى !      حاكها المجرمون فالله أكبرْ

أي غدرٍ نما ..وأي شرور ..!   يا لهول الأنباء كيف تُفسّرْ ؟؟

منبرٌ للجهاد راية عزٍّ            قد جلاها الزمان يوماً وأدبرْ

وبعد أن صوّر هول الخطب راح يعدّد صفات الشيخ الشهيد حيث يقول:

عالمٌ صابرٌ وشيخٌ جليلٌ            وخطيبٌ مفوّه وغضنفرْ

هامة للعلا ونفسٌ تسامت ْ         لم تلنِ للطغاة أو تتعثرْ

لم تهُن للعداة ذاك محالٌ      لم تدن للعلوج كسرى وقيصرْ

ثم راح يثني على أخلاق الشهيد، فيقول: إنه فارس شجاع، وبطل صنديد، وقمة في الإباء، ويصور مصرعه غيلة:

فارسٌ مقدامٌ وليثٌ غضوبٌ     فالصناديد عن شبيهٍ تندرْ

قمّة للإباء قلّ مثيلٌ               رفع الرمح عالياً وتصدرْ

فالميادين سوف تبكي عليه ..    قد سقاها دماءه وتعفّرْ

جندل الليث واستقرّ صريعاً      يالبشراه ..مجده يتسطرْ

غيلة قضى فكلّ سيمضي        إنما الفائزون أجمل منظرْ

ويفضح  الشاعر كذب الغادرين الذين زعموا موته، فقد نهانا الله أن نقول عن الشهداء بأنهم أموات بل هم أحياء عند ربهم يرزقون :

كذبَ الغادرون ليس بميتٍ     إنه الحيُّ والعدو سيخسرْ

قد جنى ما كان يسعى إليه    حقق الفوز وانتصاراً مؤزّرْ

لستُ أرثيه إنما نحن أولى      فسطور الشهيد نورٌ مشذّرْ

هو في ذمة الإله تسامى        وعلى راية الجهاد سنظفرْ – صدى الأعماق : 66 ، 67 .

وقد نشرتها مجلة المجتمع –العدد / 946 / -  الثلاثاء 21 / 5 / 1410ه / .

وقد استخدم الشاعر تفعيلات البحر الخفيف  ( الذي يصلح لجميع الأغراض، فكان طوع بنانه، فسخّره الشاعر لمثل هذه الأغراض الحماسية والجهادية، فكان بارعاً في اختيار الوزن والقافية، وتسربلت القصيدة بالجرس الموسيقي العذب الجميل وبالألفاظ الموحية المعبرة والصور الفنية المبتكرة والخيال المحلق، فراحت تميس بجمالها وسحر بيانها)  .

رثاء الإمام الشهيد أحمد ياسين :

وكتب الشاعر الإسلامي السوري ( د. محمد إياد العكاري ) قصيدة تحت عنوان: (عاجز خطوه تخطّى الثريا)، يقول فيها:

جدّد ِ العهد َ وامتط الإقداما           وامتشق للعلا عزيزاً حساما

يبدأ الشاعر قصيدته مصرعاً، وقد كرّر في مطلعها فعل الأمر ( جدد، وامتط، وامتشق ) لتناسب موضوع الحماس والثورة بعد استشهاد أحمد ياسين، ثم يواصل الشاعر، فيقول :

واركب المجد فالمطايا اشتياق                وارفع الهام َ للثريا مقاما

واسكب الطهر من طيوب ومسك ٍ    موكب النّور يستثير العظاما

وثغـــــــــورُ البلاد تدعـــــــــو بنيها             موقف ٌ يجعل القعود حراما

حُرمات ُ الإسلام غصناً ونهباً       بثرى المسجد السّليب الحِمامى

عاجز ٌ ألهب َ الجموع وأحيا               سيرة المجـــــد رافعاً أعلاما

أشعل الهديَ والفداء مناراً            حمل المِشعل َ الوضيء وساما

ولواءُ الإسلام جلاّه هدياً                 جعل الحقَّ مطلباً ومراما

وحداه كرام ُ قومي حماساً             أيّ هذا الإباء أضحى هياما

يا لهذي الوجوه نورٌ تهادى          عصبة ُ الحقّ كالشموس ضراما

فتية ٌ زيّنت بلادي عقوداً               واعتلت قبّة َ الفِداء ِ سناما

ويناجي الشهيد الحي أحمد ياسين، الذي تفجر جسده الطاهر ورداً ونسريناً، وفاح دمه الزكي عطراً وريحاناً، فيقول :

أيها الشيخ ُ والمقام ُ جليل ٌ        بورك َ السّعيُ والمقام ُ ختاما

بورك الجِدُّ والبيان ُ فريد ٌ           خضّبته الأنفاس بوحاً تسامى

وشهيدنا لم يمتْ، ولن يموت بل هو حيٌّ يرزق في حواصل طيرٍ خضرٍ :

مات كلاّ ما مات َ ..فاز وربّي      فجّروا جسمه القعيد خزامى

لتطيب َ البلادُ والمِسك يسري         سابق الركب يا هناه إماما

وحياةُ الشهيد ِ كانت بقتل ٍ         كوكبٌ شدَّ للفضاء اقتحاما

لم يبالِ بما يخطّط مـــــــكراً              روّض النفس للمعالي مقاما

حسبوا قتله نهايةَ فصل ٍ          من سنا روحه السبيل ُ استقاما- ومقال التاريخ الله أكبر : 63 ، 64 .

ظن الطغاة أن موته سوف يُميت روحَ الجهاد والصمود، ولكنهم خابوا؛ لأن دمه الطاهر أنارَ طريق الجهاد والنضال؛ ولأن ذكراه مازالت قائمة فينا .

شهيد المحراب :

قضى الإمام أحمد ياسين ليلة استشهاده قياماً في المحراب، وأفشى سراً لأولاده بأنه سيذهب شهيداً:

أشرقت شمسه بعيدَ صلاة ٍ         وسرى النور كي يشقَّ الظلاما

مقعدٌ أعجز َ العدوّ وأوهى         دولة َ الظلم كي يشق الظلاما

عاجز خطوه تخطّى الثريا               وإلى مقعد ِ الشـــــــهيد قياما

لقد أشعلت دماه جذوة الحق في فلسطين:

ضمّخ القدس من دماه وروّى          جذوة الحقّ طالباً مستهاما

خطّ من عجزه البيان عجيباً      وصحيحُ الأبدان كيف تعامى ؟

ثلّة ٌ سارعت لجنّات ِ عدن ٍ        للرضا سعيها وألقتْ حطاما

واشترت وامتطتْ جوادَ التحدّي   في سبيل الرحمن هامتْ غراما

واستخدم الشاعر تفعيلات البحر الخفيف الذي يصلح لجميع الأغراض، فكان طوع بنانه، فسخّره الشاعر لمثل هذه الأغراض الحماسية والجهادية، فكان بارعاً اختيار الألفاظ الجزلة القوية ( ضمّخ ، روّى، خطّ، وامتطت، مقعد، تخطّى ..) كما أحسن في اختيار الوزن والقافية وحرف الروي مستخدماً ألف الإطلاق، وتسربلت القصيدة بالجرس الموسيقي العذب الجميل، وبالألفاظ الموحية المعبرة، والتراكيب المتينة، .

رثاء الشيخ عبد الله علوان:

وكتب الشاعر ( أبو أنس محمد إياد الصلاحي) قصيدة يرثي فيها العلامة عبد الله ناصح علوان، فيقول في مستهلها :

أبكي  وما  أسفي  على  الأبدان      أبكي  على  الفكر  الذي  أنداني

أبكي على الروح التي أروت لنا          مهج   القلوب   بحكمة   وبيان

أبكي   على  علم  أنار  دروبنا          بالعلم  والإخلاص  والإحسان

ولأول مرة نرى الشاعر يبكي في الرثاء بل يؤكد ذلك، ويصرّ عليه، فيكرر كلمة (أبكي) أربع مرات، وكيف لا يبكي على ذلك العالم العلَم الذي أقضَّ مضاجع الطغاة :

علمًا  بفكر  قد  أقض  مضاجعًا        للظالمين     بغربة     الأوطان

أعلى   بعزم   شرعة  وشريعة           أثرى    بهدي   سائر   البلدان

فاللطف  في  طبعٍ  وكل  حديثه      سكب   ومن  در  الكلام  جمان

والأنس  في  جمع  يفيض بإلفه          فيجود   في   علم   وفي  تبيان

والهمة    الشماء   كانت   دائمًا      سمة    له   يعلو   بكل   مكان

إنه لطيف الطبع والحديث وطيب المعشر، يألف ويؤلف، ويمتلك الهمّة القعساء، ولكن طواغيت الأرض وقفوا في وجهه وصوبوا نيرانهم ضده :

لكن   طاغية   وجندًا   للخنا            وقفوا  وفي  رصد  وللإيمان..!

وقفوا   يرون   مشاعلاً  لهداية         فيسددوا   حمماً  من  النيران..!

وليقذفوا   ظلماً  و  حقداً  للألى       بقذائف   الغدر  المرير..بجاني

فيذيقه     سماً    زعافاً    قاتلاً      يبقى  يلاقي  الويل  منه  يعاني

فيذوب   محموم   الفؤاد  مكابداً      يمضي   الشهيد  معطرًا  لجنان

فالشاعر هنا يعدد صفات الشيخ الراحل، فيذكر منها: الحكمة والبيان والفصاحة والعلم والإخلاص والإحسان، وفضح الطواغيت، وقول الحق أمام سلطان جائر، ويتابع الشاعر تعداد تلك الصفات، فيقول :

أتراهم   كسبوا  العراك  بجولة           بل  إنهم  في  أخسر  الخسران

وقفوا  يسدون  الدروب  لشمسنا      عبثاً  وهل يعدى على الأكوان

خسئوا  مما  عرفوا حقيقة أمرنا        فالجرح   يلهب   شعلة   بكيان

ويؤجج  المهج  القلوب  ينيرها          تعلي    لواء   الحق   بالإيمان

والله    ناصر    دينه   وجنوده       والله     يمهل    للطغاة    لآن

لهدية    أهدى   سأبقى   ذاكراً      أدعو   له  في  السر  والإعلان

إن الله سوف ينصر جنوده مهما طال الزمان، ويرجو الشاعر في ختام قصيدته أن يلتقي بالأحبة في جنان الخلد:

أرجو    لقاءً    بالإخاء   بديننا        في   روضة  وبظلها  النديان

وإلى  الشهادة  والجنان  وخلدها          وإلى  النعيم  وجنة الرضوان

ويستخدم الشاعر من جديد البحر الكامل الذي يتناسب مع غرض القصيدة . ويحسن الشاعر في اختيار حرف الروي ( النون المكسورة ) لتلائم حزنه وانكسار نفسه وأنّة الألم في وجدانه .

رثاء الشهيد القائد د. عبد العزيز الرنتيسي :

لم يكتب الشاعر محمد إياد العكاري قصيدة رثاء عن الشهيد،  بل كتب مقالة عن أسد فلسطين د. عبد العزيز الرنتيسي الذي اغتيل من قبل الطائرات الصهيونية بتاريخ 17 / 4 / 2004م، في غزة هاشم ، فنال شرف الشهادة، وقد نشر تلك المقالة في جريدة اليوم السعودية في 18 / 4 / 2004م، ولا نملك تفسيراً لذلك، وها هو يتناول الموضوع تحت عنوان: ( ربح البيع) فيقول: ( وكلمة حق أقول: إني كلما استعمت إلى الدكتور عبد العزيز الرنتيسي ونبراته عبر الفضائيات كلما أكبرت هذا الرجل، وزادت مكانته عندي، لأنك ترى فيه ليثاً هصوراً، ومتحدثاً بارعاً، يتكلم بحجة، ويتحدث بمنطق، ويخطب مالكاً عقول سامعيه، تلمح بريق العزة في عينيه، وتلقى نظرات التحدي في بؤبؤيه، وفي منطقه العزيمة والتصميم، وفي خطواته الكرامة والإباء، مجسداً بمقابلاته وشعره، ونبراته ونثره قوله تعالى في كتابه الكريم : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) آل عمران .

لقد كان بتصريحاته وبياناته أقوى من مدافع الجيوش العربية، ومن كلماته تتطاير قذائف الحق شرراً على أعدائه، ونوراً على إخوانه كأنه يحمل مشعلاً مضيئاً ينير الدرب في الزمن الصعب )- ومقال التاريخ الله أكبر :  69 ، 70 .

رثاء الشيخ زهير شاويش:

كتب الشاعر محمد إياد العكاري بكل مشاعره الفياضة قصيدة عن فضيلة الشيخ المجاهد زهير شاويش بمناسبة تكريمه بمركز الدعوة لتعليم القرآن، وهي تصلح أن تكون رثاء له، يقول فيها:

هاتها أنجماً كعقد تشذر            واجمع ِ الدرَ من سنيه لينثرْ

واقطفِ الزهرَ من معارفَ شتى     هاجَ في روضها الجمال وأثمرْ

وانهل النبلَ والسماحة طُرّاً           شيم المرء في الحياة تسطّرْ

فإذا الوجه بالطلاقة بشرٌ            وإذا اللطفُ والدعابة مخبرْ

ومحيّاه بالمودة بدرٌ                     وسجاياه والمروءة كوثرْ

يالها قصةٌ تألّق فخراً              شعَّ من سفرها الضياء ونوّرْ

إن الشيخ زهير شاويش طلق المحيّا، لطيف المعشر، مرح الأسلوب، كريم ودود، ثم أشاد بجهاده في فلسطين عام 1948م، وغيرها :

نصف قرن ٍ من الجهاد توالى       ما توانى في دعوة أو تأخر

في ربوع الفيحاء قام دفاعاً       عن ثرى أرضه يصولُ ويزأرْ

وجهاد اليهود بالروح جلّى         بحمى قدسنا تراه غضنفرْ

معلم من معالم الحقّ وفّى         حارساً يحفظ التراث المطهرْ

في حمى السنة الشريفة ليثٌ         ومن المنهل الرويّ تعطّرْ

وعلى شرعة الإله تربى              دعوة الحق يا سناها تؤزّرْ – قصيدة بعثها الشاعر بتاريخ 14 / 10 / 2018م .

والقصيدة من البحر الخفيف الذي يتناسب مع جميع الأغراض، ويجعل النص الشعري يقترب من السرد النثري .

رثاء الأديب يوسف عبد اللطيف أبو سعد :

وصل نبأ نعي الشاعر الأديب الأستاذ يوسف عبد اللطيف أبو سعد صاحب القلب الكبير والأدب الجمّ والشعر المتدفق، فكتب في رثائه قصيدة بتاريخ 2 / 5 / 1419ه، تحت عنوان: (وداعاً شاعر هجر):

أأرثيك ؟ لا والله ما كنتُ مزمعا     وفكرت يوماً أن أكون مودّعا

تصدّع قلبي مذْ تناهى لمسمعي          نعي يُدوّي بالهفوف مروّعا

إلى أن وصل إلى ندب الشاعر الراحل، فراح يعدّد صفاته، ويثني على أخلاقه، فيقول:

مضى صاحبُ الفنّ الجميل وريشة        تصوغ بألوان اليراع روائعا

بكيتك يا بحراً من الحسّ مرهفاً           نفيس اللآلي بحتريّا مُصرّعا

بكيتك خلاًّ صادقَ الودّ صافياً              بكاكَ جناني ألمعيّا تربّعا

بكتك عيون الشعر وانسابَ دمعها   فمن للقوافي الآن يُثري مُدافعا ؟ – عزف الحنين : 76، 77 .

وقد بكى الشاعر للمرة الثانية على صديقه الخل الوفي يوسف عبد اللطيف أبو سعد، ويكرر الشاعر (بكيتك ثلاث مرات ) مؤكداً حزنه عليه .

ويستخدم الشاعر البحر الطويل وهو بحرٌ خضمّ يستوعبُ ما لا يستوعبُ غيره من المعاني، ويتسع للفخر والحماسة والمدح، كما يتسع للتشابيه والاستعارات وسرد الحوادث ووصف الأحوال، ولهذا نصيبه عند المتقدمين والمتأخرين أوفر من سائر البحور....

الشهيد أحمد نصر جرار :

وأخيراً ارتقى الشهيد الفلسطيني الشاب ابن الشهيد أحمد بن نصر جرار، بعد أن أبلى بلاء حسناً ضد الصهاينة، ورأى الناس جميعاً ثبات الأم المجاهدة، وصمودها، وقولها لكلمة الحق دون لفّ ودوران،  مما أدهش الشاعر د. محمد إياد العكاري، فكتب قصيدة تحت عنوان: ( هدية آب شهيد لابنه الشهيد )، يقول فيها:

ذكرى وأية ذكرى نصرُ جرّارُ              يا أيها المجد قمْ حييه والغـــــــــارُ

وإذا توج الشهيد بالمجد والغار فهي نهاية العزة والكرامة، ثم يسترسل الشاعر في وصفه فيقول:

سلكت درباً لأوج العزّ مركبه            وخضت حزْناً تجلّى فيه أحرارُ

وكنتَ معلم بذلٍ للهدى علمٌ                يسراك يمناك كلٌّ فيه بتّارُ

اهداؤك النور والعزمات بارقةٌ            والهدي والآي والقرآن تذكارُ

ضربت أروع أمثال لأمتنا             وكيف تُكتبُ بالأنفاس أسفارُ

ويشيد الشاعر بالأم المثالية التي كانت مصنعاً للأبطال، ومنجماً للرجال، وصدق من قال  ( وراء كل عظيم امرأة ) :

لله درّ نساء للعلا صُعُدا                بالعزّ تحيا ودرب الحقّ تختارُ

وللعقيدة شمسٌ والنعيم بها             وفي الليالي بدور الهدي أقمارُ

هذي فلسطين ثارت والدماء بها     مثل البراكين تغلي والحمى نارُ

فهو يثني عليها ، فهي شمسُ العقيدة ، وقمرٌ من أقمار الهدى إلى أن يقول:

وجنة الخلد لقيانا وغايتنا               ومركب الحق بالأبرار سيّارُ

وحسبُ أحمد أن القدس تحضنه   وخلف أحمد جيش النصر جرّارُ – بتاريخ 7 / 2 / 2018م .

وقد أحسن شاعرنا في اختيار البحر البسيط، (وهو يستوعبُ جميع الأغراض مثل الطويل، ولكنه يزيدُ عليه رقةً وجزالةً، ولهذا قلّ في شعر الجاهليين، وكثر في شعر المولّدين ومن بعدهم، وقد جرى معظم شعراء المديح النبويّ على ركوب هذا البحر، ورائدهم في ذلك كعب بن زهير في (بانت سعادُ) .

وأخيراً نقول :

إن الشاعر د. محمد إياد العكاري قد رثى أمه وأباه، كما رثى العالم عبد الله علوان، والشيخ زهير شاويش، ورثى الشهيد المجاهد عبد الله عزام، والإمام أحمد ياسين، والرنتيسي، وأشاد بالأديب يوسف عبد اللطيف بو سعد وبكى على رحيله فقد جمع بينهما نسب الأدب الذي هو بمقام الوالد.

إن الذين رثاهم كانوا من العلماء والمجاهدين والشهداء، مع أن الشاعر محمد إياد العكاري يميل إلى المثالية إلا أنه شخصية متزنة لا ترتفع بمثاليتها ذلك الارتفاع الذي يعزلها عن الواقع، وقد امتلك أدوات النجاح في ذلك الفن القريب من المشاعر والشجى والحزن، فالألم مدرسة القلوب، والشاعر د. محمد إياد العكاري إنسان مرهف الحس، رقيق الطبع، فياض المشاعر، وقد كان وفياً لدعوته محباً لإخوانه من أعلام الحركة الإسلامية وشهدائها الأبرار، يثني على من مات منهم، ويبكي على فراق الأحبة، وكان صادق العاطفة لا افتعال فيها ولا تصنع ..

وكان الشاعر محمد إياد العكاري محلقاً باللفظ والأسلوب، فالألفاظ فصيحة جزلة قوية موحية معبرة، وكان الأسلوب مشرق البيان، متين العبارات، فجمله قوية متماسكة يأخذ بعضها برقاب بعض، وأمّا صوره الفنية فهي واقعية، تقليدية، بعيدة عن التهويل، وكانت الموسيقا محافظة على عروض الخليل، يبدو فيها وحدة الوزن والبيت والقافية، وتتسربل قصائد الرثاء عند شاعرنا بالوحدة الموضوعية حيث يسيطر على النص مناخ نفسي واحد يمتاز بالحزن والأسى والمشاعر الإنسانية الوجدانية الشجية الفياضة .

وسوم: العدد 807