أساليب الشيخ علي الطنطاوي - دراسة تحليلية

clip_image001_c0d92.jpg

الأسلوب هو الطريق، يقال: سلكت أسلوب فلان في كذا أي: طريقته ومذهبه. والأسلوب: طريقة الكاتب في كتابته. والأسلوب: الفن. يقال: أخذنا في أساليب من القول أي: فنون متنوعة[1]. ولقد أدرك "علي" مبكرا أن الألفاظ للأدب هي بمثابة عناصر الغذاء أو حبات العقد، وأن لتخيرها وصوغها أثرًا كبيرًا في جودة الأسلوب وقوته.

ولقد بزغت في أدبيات كاتبنا مجموعة من الفنون، لعلَّ أهمها أنه أكثر من ضرب الأمثال، والتعبير بأفعلِ التفضيل، والاستفهامِ الاستنكاري. وكثيرا ما قرر، واستنبط، وعرَّض، وأوحى، وقد يَشرع في حوارات افتراضية، ويجلب الفكاهة، لذاتها أو ممزوجة بالسخرية، ويقابلُ، ويجانسُ، وفي حديثه التفاتٌ، وله خيالٌ رقيقٌ، ويأتي بتشبيهاتٍ طريفةٍ ومبتكرةٍ، وكلماتٍ هامسةٍ أحيانا، وجهوريةٍ أحيانا أخرى. ونادرا ما يُغرب - ربما عن قصد – وقد يصرح بما يريد، وقد يوجز ويشير دون تفصيل وبيان.

وفيما يلي بعضٌ من تفاصيل ما مضى: ضرب الأمثال

يعد ضرب الأمثال سبيلا إلى محاسن الكلام، وقد ذكره صاحب "أسرار البلاغة" ضمن ثلاثة أصول كبيرة يَستقي كلامُ الأديب منها جماله. يقول الجرجاني عن "التشبيه" و"التمثيل" و"الاستعارة": "هذه أصول كبيرة، كأن جل محاسن الكلام – إن لم نقل كلها – متفرعة عنها، وراجعة إليها، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني في متصرفاتها، وأقطار تحيط بها من جهاتها"[2].

 ولقد كثر في كلام أديبنا ضربُ الأمثال، متداخلا مع التشبيهات، الصريحة أو الضمنية، حتى صار ذلك ظاهرة عنده، يريد بها تقريب بعيد المعاني مع إضفاء الجمال وإمتاع القارئ؛ سواء أنشأ التمثيل من عنده إنشاءً، أو ذكر المثل مقتبسا من كلام الأولين.

 ومما أنشأه "علي" من عنده إنشاءً قوله:

"أنا حين أتحدث عن نفسي أتحدث عن كل نفس، وحين أصف شعور واحد وعواطفه أصف شعور الناس كلهم وعواطفهم، كصاحب التشريح لا يشق الصدور جميعا ليعرف مكان القلب وصفته، ولكنه يشق الصدر والصدرين، ثم يُقعِّد القاعدة ويؤصل الأصل، فلا يشذ عنه إنسان"[3]. وهكذا يوضح الطنطاوي معناه الأدبي بتجربة علمية ملموسة.

ومنه أيضا قوله:

"نحن نعرف قصة إنشاء كثير من المدن؛ واسط التي بناها الحجاج، وبغداد المنصور، وقاهرة المعز، مدن كثيرة صغيرة ولدت كما يولد كل حي ثم نمت وكبرت. ولكن هل عرفتم مدينة تولد في يوم واحد فإذا هي من كبريات المدن ثم تخلو بعد يوم واحد؟!".

ولأنه قصد بحديثه مكة المكرمة؛ فقد تورع عن التعبير بكلمة الموت التي تقتضيها كلمة الميلاد قبلها، واستعاض عن ذلك بقوله: "تخلو"، وهذا من حسن تخلصه في أسلوبه الأدبي.

ويستطرد فيقول:

"إن النهر يسير آلافا وآلافا من الأميال، فلا ينقطع سيره ولا تنضُب مياهه، ما دام من ورائه اليَنبوع يمده. وهذا ينبوع قوتنا نحن المسلمين. هذا هو الينبوع، ورده أجدادنا فصدروا عنه ملوك الأرض، وأئمة الهدى"[4]. وفي مَثله هذا خلاصة ما يدعو إليه.

وقوله:

"تصوروا رجلا أميا في قرية من قرى الصحراء الكبرى، الجاثمة وراء الرمال، كلف أن يبدل عادات قومه، وأن يغير عقائدهم، وأن يحملهم على دستور جديد، وأن يأخذهم بعد ذلك ليبلغوه الدولتين اللتين اقتسمتا الأرض: أميركا وروسيا، فلا تمضي عليه ثلاثون سنة حتى يقوم بذلك كله، ويغلب الدولتين الكبيرتين ويقيم للناس عالما جديدا في نظمه وأوضاعه ولسانه. هذا ما صنعه محمد"[5]. صلى الله عليه وسلم. وقد أوضح في مثله هذا البعيدَ بالقريب.

وقوله:

"ليس العالم كالكاتب، الكاتب هو الذي يخرج لك مكنون نفسه حتى تراه ظاهرا لعينك، ويصف لك المشهد الغائب عنك حتى تبصره أمامك، ويملك الفكرة فيتصرف بها تصرف المالك، حتى يدخلها ذهن الشاك أو المنكر أو المعارض كما يدخلها ذهن الموافق أو الخلي. هو الذي يملك عينا كعين المصورة (الكاميرا) تسجل كل جميل في الكون أو قبيح، وكل محبوب في النفس أو مكروه، تسجيلا يخلده ويبقيه، كما يسجل وقائع الناس وطباعهم وخلائقهم، ثم إن الكتابة كالطب صارت إخصاء، فلم يعد الطبيب يداوي الأمراض كلها في الأعضاء كلها، بل لم نعد نجد طبيبا داخليا (باطنيا) عاما، بل صار لكل عضو إخصائي – اختصاصي - ولكل مرض إخصائي. وكذلك الكتابة"[6]. وفي تفصيله هذا يُلبس المعنى الأدبي لباس التجارب العلمية.

وقوله:

"أرأيت الماء الذي ينزل من الأنبوب قطرة قطرة يملأ كأسك في ساعة، أما إن كان يخرج منه بقوة واندفاع فإن الكأس لا تمتلئ أبدا؛ لأن الماء ينبو عنها ويتطاير منها فلا يستقر منه شيء فيها"[7]. وهو يقرب هنا معنى التدرج في التغيير والتلقين، وعدم الاندفاع والتسرع فيه.

أما ما اقتبسه من أمثال الأولين، فمنه:

(1) (إذا دار العود فلا قعود)[8]. وهو مثل نجدي، ويعني أنه إذا أدير البخور على الجالسين فإن ذلك يعني أنهم يستعدون لإنهاء جلستهم، وذلك بتعشيق الثياب – العباءة والعمامة – بالطيب، ومن ثم القيام من المجلس.

(2) "لقد صرت شيخا كبيرا، وهل أجرؤ أن أنكر هذا وقد جاوزت الثمانين، فإن رأيتموني أعيد حديثا سبق أن حدثت به في هذه الذكريات أو في الرائي أو أحاديثي في الإذاعة فنبهوني يكن ذلك التنبيه فضلا منكم، واذكروا أن (العصا قُرعت لذي الحِلم)"[9]. وقد أحسن الطنطاوي توظيف هذا المثل في حديثه.

(3) "... إنه مثل موقفنا مع اليهود وغير اليهود. (أوسعته شتما وأودى بالإبل)"[10]. وقد وظف هذا المثل عند حديثه عن بعض مواقفه الاجتماعية العائلية، ولكنه حمَّل كلمته به معاني أوسع، وإن ذكره بمعناه. حيث رُوي: أوسعتهم سبا وأودوا بالإبل[11].

(4) "حدثني جندي كان يقاتل في حرب 1948 أنه رأى في طرف البلد دارا ينبعث منها الرصاص على المقاتلين العرب، فاقتحمها عربي باسل فلم يلق إلا مجندة واحدة يهودية نفدت ذخيرتها، كانت تحمل رشاشا تطلق الرصاص منه، فلما لم يبق عندها رصاص، استعملت سلاح اليهود، وسامحوني إن خبرتكم بما وقع: إنها حلت حزام بنطالها فأسقطته، فنظر، فإذا ليس تحته شيء. والعرب تقول في أمثالها: (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها). أما اليهودية فتأكل من غير أن تجوع بكل عضو فيها"[12]. وقد ساق علي هذا المثل وأردفه بتعليق عبقري.

(5) "هذا السائق المنكر الذي يمشي بنا على غير هدى يدور دوران السانية، وقديما قالت في أمثالها العرب: (سير السواني سفر لا ينقطع)"[13]. وفي موضع ثان: "ألفت الوحدة حتى لم أعد أطيق الفرار منها، وضقت بها حتى لم أعد أطيقها، فأنا – ولا مؤاخذة على هذا المثال فإنما أتكلم عن نفسي – أنا كحمار السانية، التي يسمونها في مصر الساقية، يدور فيها مغمض العينين، فإذا أطلق منها وفك سراحه بقي يدور كما تعود الدوران"[14]. وفي موضع ثالث يقول: "مشينا إلى الآن أكثر من ألف وخمسمائة لكننا كحمار السانية، وقديما قالت العرب: (سير السواني سفر لا ينقطع)؛ لأنها تسير وتسير وهي في مكانها، تدور في حلقة مفرغة من حول بئر الماء، ونحن ندور حيث لا ظل ولا ماء"[15].

ومع توظيف الطنطاوي هذا المثل في جاذبية حديثه وثرائه، فقد أضاف إليه الظرف والطرافة؛ لما يلمسه قارئه من التبسط المحبوب الذي يلمس به بعض الأدباء – على قلتهم – أوتار القلوب.

(6) "تقول العرب في أمثالها: (شدة القرب حجاب). أدن كفك من عينيك تحجب عنك ما بين المشرق والمغرب، أي أن الكف على صغرها أخفت عنك الدنيا على سعتها"[16].

والغريب هنا أن الطنطاوي قد فسر هذا المثل تفسيرا ظاهريا جدا، فجاء مناقضا للمعنى الذي وضع المثل له؛ إذ إن المقصود بذلك أن قرب الشيء أكثر من اللازم يؤدي إلى عدم رؤيته، تماما كما لو كان بعيدا جدا، فالنتيجة واحدة في الحالتين، فشدة قرب اليد مثلا من العين تؤدي إلى حجب رؤية اليد، ناهيك برؤية ما سواها. ولعل هذه من المواضع النادرة التي خالف فيها الطنطاوي أعراف اللغة والمعاني.

(7) "إنك المعلم الأعظم ولكن أكثرنا من أغبياء التلاميذ الذين لا تنفعهم عظمة المعلمين، لقد طالما لدغنا من الجحر الواحد لا مرتين اثنتين، بل عشر مرات، ثم يعود أكثرنا، ويمدون أيديهم إليه... (شِنشِنةٌ أعرفها من أخزم) كما يقول المثل، ورجعة سم من القارورة الكبيرة التي شربناها كلها مرغمين، من أيدي قوم روسو ولامرتين، من الذين ثاروا ثورتهم الكبرى – زعموا – ليقروا في الأرض حقوق الإنسان"[17]. وتختلط في كلمته هذه خيوط الحسرة والسخرية من قومه ومن أعدائه على السواء.

وفي موضع آخر: "رسالة بذيئة يسبني مرسلها أشنع السب؛ لأني أكره – كما يقول – مصر. وهذه (شنشنة أعرفها من أخزم) فأنا متهم دائما بكراهة مصر من يوم كنت في العراق، وكان الخلاف بيني وبين المفتش المصري سنة 1936، أي من خمسين سنة، ولم ينفعني أني كنت يومئذ صديقا لسفير مصر في العراق الرجل الكبير الأستاذ عبد الرحمن عزام. أنا – ويحكم – أكره مصر ومن مصر أصلي؟ منها جاء جدي أبو أبي، لا جدي البعيد"[18]. وهنا يرتكز الطنطاوي في دفع التهم عن نفسه على مرتكزات التراث التي تستمد قوتها من الأقوال التي اتخذت حكما وصارت مثلا.

(8) "قالت العرب في أمثالها: (عدو عاقل خير من صديق جاهل). الفرنسيون أقاموا في الشام ربع قرن فما تعرضوا لعالم من العلماء، ولا لشيخ من المشايخ، ولكننا لما حكمنا اتخذنا مما صنع جهالنا وسفاؤنا حجة فحاولنا النيل من علمائنا ومن مشايخنا"[19]. وقد وظَّف هذا المثل في المقارنة بين أحوال البلاد تحت الاحتلال الأجنبي، وأحوالها بُعيد الاستقلال الشكلي المنقوص منه.

(9) "كما يقول الفصيح من أمثال العوام: (العين بصيرة واليد قصيرة)، تعرف الذي تريده ولكن لا تعرف طريق الوصول إليه"[20]. وقد وظف هذا المثل أثناء حديثه عن أحوال أمه حين تولت مسئولية رعاية أولادها بعد وفاة زوجها، ورقة حالها وصبرها على معيشتها.

(10) "كان هذا الأستاذ كجهيزة التي زعموا أنها دخلت نادي قومها، وهم يحاولون رأب الصدع بين فرعين منهم، قتل رجل من الفرع الأول رجلا من الفرع الثاني، يريدون أن يقبل أولياء القتيل الدية، وهم يأبون إلا القصاص، وكان أن استحكمت بينهم عقدة الخلاف، واشتد النزاع فقالت لهم: إن ولد المقتول قد انتقم لأبيه من القاتل. فقالوا: (قطعت جهيزة قول كل خطيب) وسارت مثلا باقيا إلى الآن. قلت للأستاذ: شكرا لك، لقد أرحتني من هذا التردد، وأوضحت لي طريقي"[21].

ومن النادر أن يذكر الطنطاوي قصة المثل الذي يسوقه في أحاديثه، ولكنه هنا أوردها في حديث له يتسم بالحيرة والتردد بين عديد من الأفكار التي كانت تزاحمه وهو لا يدري أيها يقدم وأيها يؤخر، فكان ذكر مناسبة المثل هنا جزءًا من التفكير الذي يستعين به على اختيار فكرة يقدمها، أكثر مما هو رغبة في ذكر هذه المناسبة لقرائه.

(11) "صنعوا ما صنعوا على تخوف أولا وحذر، والعرب تقول: (كاد المريب أن يقول خذوني)، فلما رأونا لا نبالي ولا نعترض ولا نغار على بناتنا، خلعوا العذار وأزاحوا الستار، وجاءوا جهارا من الباب"[22]. وقد ذكر هذا المثل في حديثه المثير حول خطط الغرب في إفساد أخلاقيات الشباب بالميوعة والانحلال، وعدم استنكار المجتمعات العربية لما يحدث.

(12) "هذا هو مثال الإنكليز والفرنسيين كما رأيناهم في الشام، وهما بعد ذلك كحماري العبادي – من سكان الحيرة – قيل له: أي حماريك أسوأ من صاحبه؟ قال: هذا وهذا.! أو كما يقول المثل اللبناني العامي: كما حنا كما حنين الله يلعن الاتنين[23]. وقد أحسن الطنطاوي توظيف هذين المثلين في حديثه عن المحتلين.

(13) "وفي حُنينٍ عيونٌ كانت تأنس عيوننا بصفاء مائها، وتسرح أفكارنا مع انطلاق سواقيها، عيون ولا كعيون الشام، مرعى ولا كالسعدان، وماء ولا كصداء"[24]. وقد ساق هذا المثل في حديثه عن الحجاز، والذي استدعى فيه حنينه إلى موطنه في الشام.

ورغم أن عليا قد غالب شوقه إلى الشام في مواضع كثيرة، فإنه اعترف أيضا أن الله تعالى أبدله موطنا خيرا من موطنه، وجيرانا خيرا من جيرانه الأول[25].

(14) "وذهبوا فحدثوا بالقصة إخوانهم وأهليهم، وزادوا في سردها، على عادة الناس في المبالغات، وملحوها وفلفلوها ووضعوا لها الحواشي والذيول، فكانت النتيجة أنني صرت بطلا، والحقيقة كما قال المثل: (مكره أخاك لا بطل)"[26].

وقد ساق الطنطاوي هذا المثل في حديثه عن بعض المغامرات التي اضطر إلى خوضها في بغداد حين كان معلما بها. ورغم أن هذا المثل قد اشتُهر في كتب الأدب واللغة برفع "أخوك"، كما هو عند الميداني في مجمع الأمثال، والأصفهاني في الأغاني، والزمخشري في "المستقصى في أمثال العرب"، وابن منظور في "لسان العرب"، فقد اشتهر في كتب النحو "أخاك" – كما قال ابن منظور – رغم ذلك، فقد أورده الطنطاوي كما في كتب النحو، وعلق عليه في الهامش فقال: "كذا حفظنا المثل، والصواب أخوك"[27].

(15) "كان معنا سيارة لها سائق بدوي، باقعة من البواقع"[28]. والباقعة: الرجل الداهية. ورجل باقِعةٌ ذو دَهْيٍ. ويقال: ما فلان إِلاَّ باقِعةٌ من البَواقِع سمي باقعة لحُلوله بِقاعَ الأَرض وكثرة تَنْقِيبه في البلاد ومعرفته بها، فشُبِّه الرجل البصير بالأُمور الكثيرُ البحث عنها المُجَرِّبُ لها به، والهاء دخلت في نعت الرجل للمبالغة في صفته، قالوا رجل داهيةٌ وعَلاَّمة ونسَّابة[29]. وقال الزمخشري: باقعة من البواقع: هو الطائر الذي يتجنب المشارع ويرد البقاع - وهي مستنقعات المياه - حذَرَ القناص، فشبه به الرجل الحذر الكيس. وقيل: هو الرجل المجرب الذي سلك البقاع ونقب في البلاد حتى تدرب وتبصر[30].

وقد أحسن الطنطاوي استدعاء وتوظيف هذا المثل للتدليل على طبيعة هذا السائق البدوي.

(16) "صارت حفيدتي تقول لها – لحماتي – كما جاء في المثل: (يا ستي كلمي ستك)، أي: يا جدتي اذهبي إلى جدتك"[31]. وساق الطنطاوي هذا المثل العامي في حديثه عن عائلته، وهو من المواضع القليلة التي يستشهد فيها بعامي غير فصيح.

بمن تأثر في ضرب أمثاله؟

يَذكر أديبنا أن معلمه - بل معلم الشام، حسب وصفه إياه - الفذ الأستاذ عيد السفرجلاني، الذي كان يدرسه في المدرسة التجارية، كان يكثر من ضرب الأمثال لهم حين كانوا طلابه، ويذكر من حكمته قوله: "كونوا مستقيمين ولكن استقامة الحورة - أي شجرة الحور - لا استقامة عمود الكهرباء. الحور تميل قليلا مع الريح وتبقى على استقامتها، أما العمود - وكان يومئذ من الخشب - فإنه يعاند حتى ينكسر"[32].

ويَذكر عنه أيضا أنه كان ينثر أقواله ونصائحه نثرا، "وربما مرت الكلمة فلم نلتفت إليها عندما كان ينطق بها ولكنها كانت تغرس في نفوسنا وتنزل إلى أعماقنا حتى إنني أذكر أكثرها إلى الآن كلما دعت إليها مناسبات المقام"[33].

وإذا كان للسفرجلاني الأثرُ الأكبر في ظاهرة انتشار ضرب الأمثال في أدبيات الطنطاوي، فإن ذلك لا يمنع من تأثره كذلك بخليط من الكتاب والمشايخ القدامى والمحدثين، من الذين أشار إليهم في غير موضع، في سياق تأثره العمومي بأساليب عديدة ومجتمعة[34].

الاقتباس

يعرف الاقتباس بأنه تضمين الكلام شيئًا من القرآن أو الحديث، وذلك على وجهٍ لا يكون فيهِ إشعارٌ بأنهُ مأْخوذٌ من أحدهما. وهو ضربان: أحدهما ما لم يُخرَج فيهِ المُقتبَس عن معناهُ الأصليّ، والثاني ما أُخرِج فيهِ عن معناهُ الأصليّ. ولا بأْس أن يقع في اللفظ المقتبس تغييرٌ يسيرٌ للضرورة. ويقرب من الاقتباس التلميحُ، غير أن الاقتباس يكون بجملة الألفاظ أو بأكثرها، والتلميح يكون بألفاظٍ يسيرة يُشَار بها إلى قصةٍ معلومةٍ أو بيتٍ مشهورٍ أو مَثَلٍ سائرٍ. والاقتباس لا يكون إلا من القرآن أو الحديث أو من قواعد بعض العلوم. والتلميح لا يُقيَّد بشيءٍ من ذلك، فيكون مما ذُكِر ومن غيرهِ مطلقًا[35].

ولقد اقتبس "علي" من القرآن والحديث، ولمَّح من الشعر والحكمة والمثل الفصيح والعامي، وقلما لمَّح من كلام غيره من سابقيه أو معاصريه. وكان أحيانا يأخذ الألفاظ ذاتها، وأخرى يأخذ المعنى ويعيد صياغته، وهو ما أطلق عليه ابن منظور في كلامه السابق "العَقْد". وقد أتى أديبنا بهذه "المقتبسات" - في الغالب - في سياق موفق، ولم يتكلفها تكلفا، ولا حشرها في غير مواضعها.

اقتباسه من القرآن الكريم:

من ذلك ما كتبه تعليقا على آثار بعض المعارك التي أثرت فيه حين كان صغيرا، وفي بلده حينئذ، يقول:

"ذلك لتعلموا أن حياة الإنسان لا تقاس بطول السنين بل بعرض الأحداث"[36]. وهو يقتبس هنا من قول الله تعالى: ﴿ جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾[37].

ومن ذلك أيضا قوله:

"هل أتاكم نبأ من في أطراف اليمن...". وهو مقتبس من قوله تعالى: ﴿ وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ﴾[38].

ومنه: "يؤذيني منه تهاونه بأمر دينه وكلامه عن شرب الخمر كأنه يتكلم عن شرب الشاي، وسواء لدي أشربها أم كان على طريقة الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون"[39]. وهو هنا يتحدث عن طريقة المازني وأسلوبه في الكتابة، ويقتبس من قول الله تعالى: ﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ. إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾[40].

ومما اقتبسه من أسلوب الآيات في التعبير قوله:

"أيها الشريف عدنان، لا تغتر، وقد ورثنا القصر وورثت القبر، وهدمنا ما بنيت وبنينا ما هدمت، وما هدمتَ - إذ هدمت - إلا مجدك في التاريخ، وأجرَك في الآخرة!". ويقصد الطنطاوي بالشريف عدنان هنا: أتاتورك. وقد اقتبس هنا أسلوب الآية القرآنية ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى ﴾، دون معناها[41].

ومما اقتبسه باللفظ القريب، والمعنى، قوله:

"الإنكليز الذين صكت وجوههم نعالُ المسلمين في بور سعيد"[42]. وقد اقتبس "علي" هنا من الآية الكريمة ﴿ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴾، لكنه تحول عن معنى الصك الوارد في الآية من كونه حركة خفيفة تضرب بها المرأة وجهها بيدها كما تفعل النساء عند الاستغراب والمفاجأة[43]، إلى ضرب موجع ورادع حين غيَّر أداة الصك وجعلها نعال المسلمين.

اقتباسه من الحديث الشريف: ومما اقتبسه من الحديث النبوي - بالمعنى - قوله:

"إن نساءنا خير نساء الأرض، وأوفاهن لزوج، وأحناهن على ولد، وأشرفهن نفسًا، وأطهرهن ذيلاً، وأكثرهن طاعةً وامتثالاً وقبولاً لكل نصح نافعٍ وتوجيهٍ سديد"[44]. وقد اقتبس الطنطاوي بعض معانيه هنا من الحديث الشريف: "خير نساء ركبن الإبل صوالح نساء قريش: أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده"[45].

تلميحه من الشعر:

ومما لمح به من الشعر معبرا عن صبره على أذى ناقديه:

"عرف الناس من أحاديثي في الإذاعة أو الرائي أني أقرأ أشنع السب لي وأنا هادئ لا تتحرك من الغضب شعرة في جسدي؛ لأني لكثرة ما كتب عني: تعودت مس الضر حتى ألفته"[46]. وقد أحسن هنا في اختيار تلميحه إذ اختصر عليه الكلام وأوضح ما يريده من البيان.

تلميحه من الأمثال:

ومما لمح به من أمثال العرب قوله:

"يا موسوليني إنا لا نشمت، وما الشماتة سجيةً فينا، ولكنا ندل على مكان العبرة فيك حين نلت جزاءك. لقد أوكت يداك ونفخ فوك، فغرقت، فالحمد لله الذي أنقذ الأرض منك، وأقر بك عيون من ظلمت، وأرانا فيك هذا اليوم الأسود"[47]. وتلميحه هنا إلى المثل المشهور "يداك أوكتا وفوك نفخ". وهو يُضرب لمن يجني على نفسه[48].

ومما لمح فيه بمعنى المثل قوله:

"اخترنا الأخ العالم الأديب إبراهيم سرسيق، فسمع مني ونقل عني، وكتب حلقتين أحسن فيهما وأجمل، ولكن لا يحك جسمَك مثلُ ظفرك، فكان من فضله علي أن أعاد بعض نشاطي إلي فبدأت أكتب"[49]. وقد اشتهر المثل بقولهم: ما حك جلدك مثل ظفرك[50]. ويبدو حسن تخلص الطنطاوي – الأسلوبي – في الجملة الأخيرة واضحا، حين قال: "فكان من فضله عليَّ أن أعاد بعض نشاطي إليَّ..."، وهو من فطنة أديبنا في حسن التعبير عن مواقفه مع بعض الشخصيات دون إحراجهم، وهي ظاهرة في أسلوب الطنطاوي، وخاصة عند ذكره بعض مواقفه مع شخصيات محترمة ومرموقة، حتى وإن حدث في هذه المواقف شيء من الإحراج بينهما.

ومما لمح به بألفاظ المثل كما هي قوله:

"الإنكليز في الطيش كالفرنسيين، وإذا هما كحماري العبادي في المثل القديم، قيل له: أي حماريك شر؟ قال: هذا ثم هذا"[51]. والمثل يضرب في خلتين إحداهما شر من الأخرى، وقد أحسن الطنطاوي التلميح منه في مقام حديثه عن المحتلين.

وهكذا ينجح الطنطاوي في تطويع اقتباساته وتلميحاته، ويحسن توظيفها في خدمة ما يبغيه توصيله من معانٍ، ليجعل من أسلوبه معرضا رائقا وكثيفا في الوقت ذاته، يسر به قارئه حين يفيده كذلك.

لغة الفكاهة

خلط الطنطاوي ما بثه لقارئه بالظرف والفكاهة وخفة الظل، وذلك دفعا منه للملالة والرتابة، وتحببا لقرائه ومستمعيه، وتخفيفا من وقع بعض الموضوعات وكسرا لحدتها وآلامها إن وجدت، ومزجا لبعض الإشارات أو النصائح بشيء من المعاني الخفيفة والطريفة. وقد وردت الفكاهة عنده دون سخرية أحيانا، وأحيانا أخرى ممزوجةً بها.

ولم تخل طرف الطنطاوي من سخريته من نفسه بقصد بث الفكاهة لقرائه أو مستمعيه، ومن ذلك قوله عن عادته في الاستطراد في الحديث:

"أستطرد وأخرج عن الخط فإذا انتهى الاستطراد وقفت كما وقف حمار الشيخ في العقبة، فلا أذكر من أين خرجت ولا إلى أين أعود.!"، ثم يردف بقوله: "ولا تسألوني من هو هذا الشيخ؛ فإن المثل خلد ذكر الحمار ونسي اسم الشيخ ليعلمنا أن خلود الأسماء ليس الدليل على عظمة أصحابها"[52].

وأحيانا يمزج بين السخرية من نفسه ومن الآخرين، يقول:

"وأنا أذكر أن أول سيارة وصلت إلينا وصلت سنة 1916، وخرج الناس ينظرون إليها فلما رأوها تمشي وحدها لا يسحبها حصان قال قائل من العوام: إن الجن تسيرها! فتدافع ضعاف القلوب هاربين، وهربنا نحن الصغار معهم، وضاعت حقيبة كتبي، ونلت على ذلك جزائي!"[53]. وكانت سنه حينئذ أقلَّ من سبع سنوات، وقد حمَّل "علي" هنا كلمة "جزائي" أمانة الإيحاء بنوعية العقاب الذي استحيى من ذكره لقرائه!.

ويتفكه ساخرا بكلمة عامية فصيحة متداولة، إذ يقول:

"واختار (الأستاذ ظافر القاسمي) المطبعة الكاثوليكية في بيروت فأخرجت الكتاب إخراجا بلغ في فن الطباعة الغاية ولكن من تحت"[54]. وتأخذ كلمة "من تحت" معناها الساخر والفكاهي من سياق حديثه.

وأحيانا يطيل في تفاصيل بعض المواقف المضحكة، فيقول:

"وكان هؤلاء الأدلاء من البدو كلما أكلوا من طعامنا قالوا: أين هذا من (الحنينة)؟!. لا شيء أطيب ولا أمرأ من الحنينة!. فكنا أبدا نشتهي هذه الحنينة، وننتظر أن نذوقها، وهم يعدوننا ويمنوننا. فلما لبثنا هذا اليوم في الخور أرادوا أن يكرمونا وينسونا ألم التعب بلذة الأكل، فأعدوا لنا الحنينة. جاءوا بالدقيق فعجنوه بهذه الأيدي القذرة، ذات الأظافر السود، وصبوا عليه السمن النيئ ومزجوه به، ثم جاءوا بالعجوة فعجنوها معه، فكانت الأكلة من ثلاثة أجزاء متساوية: جزء من الدقيق، وجزء من السمن، وجزء من العجوة. وانضم إليها جزء مثل ذلك من الرمل الذي طار إليها، وجزء من الشعر الذي نزل من رءوسهم ومن لحاهم فيها. وكنا نريد أن نفطر الصبح، فقالوا: لا. بل تصبرون حتى تأكلوا الحنينة على الريق. فصبرنا وصبرنا حتى اقترب الظهر ولم تنته الحنينة. ثم جاءت، فأقبلوا عليها بأيديهم يكبكبون ويرمون في حلوقهم، وجئت لآكل فلم أستطع، فجاءوني بملعقة لم تغسل من خمسة أشهر ويومين، عليها أربعة وثلاثون غراما من الأوساخ، فحاولت أن آكل بها فلم أقدر، فأخذت بين إصبعي شيئا من هذه (الآفة) التي اسمها الحنينة، وأغمضت عيني ووضعتها في فمي، فغثت نفسي فقمت فلفظتها بعيدا"[55]. وتظهر براعة الأديب هنا في مقدرته على الحفاظ على خفة الظل في مداد قلمه تماما كما هي في طيات صوته.

ومما ساقه في السخرية المضحكة من بعض ما لم يقدر على استيعابه قوله:

"وجدت في الرياضيات مصيبة تهون معها المصائب، هي الجذر التكعيبي. ولقد مرضت بعد ذلك حتى أشرفت على الموت، وغرقت في بحر بيروت وأنا لا أحسن السباحة حتى عاينت الهلاك، وذقت السجن مدة يسيرة في حاشرة، ولكني لم أجد أشد ولا أصعب من الجذر التكعيبي..!". ولا يترك "علي" هذا المقام حتى يربطه بآخر يشبهه إذ يقول: "وليس أصعب منه إلا حل رموز اللوحات التي وضعتها أمانة العاصمة في شوارع مكة لتدل الناس على الطرق، فلم أقدر أنا ولا وجدت مَن قدر على حلها، حتى أخي شيخ أساتذة الرياضيات! شرق (أ)، (ب) شمال، ق.ل.م جنوب غرب! ما معنى هذا؟ ولمن وضعت اللوحات؟! ما دام لا يفهمها الناس؟"[56]. وإن كنت أظن أن بهذه الإيماءة الأخيرة جزءا من المبالغة عنده.

ويسوق طرفة استقاها – فيما يبدو – من موقف رآه، فيقول:

"ولقد ضايق الأولاد المضيفة مرة، يَعدون بين رجليها، يكادون يُسقطون طباقها وكؤوسها – يقصد مضيفة الطائرة – فقالت لهم: يا أولاد اقعدوا أو اطلعوا إلعبوا (برا)!"[57].

لقد نجح "علي" بروح الظرف والفكاهة التي عبَّق بها كتاباته وأحاديثه أن يصل إلى قلوب العامة والخاصة، وأن يقول كل ما يريد دون أن يستثير في المتلقي نوازع الرفض والمخالفة.

كما أنه وظَّف فكاهته أحيانا في إطار السخرية من أوضاع يعترض عليها في الحياة، ومن ذلك قوله:

"من طريف ما وقع لي أنني مررت في إحدى قدماتي بغداد - لما كنت مدرسا فيها – بمخفر الرطبة، فوقفت سيارة فيها إحدى هؤلاء البنات، فلما جاء الموظف يدون اسمها ونعتها، وجد في الجواز أن مهنتها (أرتيست)، ومعنى الكلمة الحرفي: فنانة. فما عرف كيف يقرؤها، فسأل زميلا له أكبر منه، عراقيا عربيا أصيلا، كيف يكتب الكلمة، فقال له: اكتب (قحبة!)"[58].

إن كلمة "عراقيا عربيا أصيلا"، توحي بأن هذا الرجل قد أعطى خلاصة رأي الكاتب ورأي المجتمع في هذه الأعمال المستهجنة.

ويحكي "علي" عن زيارته للقائم مقام، مازجا حديثه بالسخرية والفكاهة، فيقول: "فاستقبلني مرحبا وقال (يعني القائم مقام) إنه كان يسمع بي ويقرأ مقالاتي ويتابع أخباري، وكان عليَّ أن أصدقه، أو أن أظهر أني مصدقه، ووجدت الموظفين يجلسون حوله كأن على رؤوسهم الطير، فلا يتحركون خشية أن تطير، أما أنا فلم يكن على رأسي إلا طربوشي، ووجدتهم يعظمون فيه الكرسي، لا ينظرون إليه، وإنما أنا أرى الرجل وأكلمه، وأعطيه قدر ما يعطيني"[59].

وفي صوره وخواطره، يكتب الطنطاوي عما يمكن تسميته بسلسلة الأعرابي، ومنها: "أعرابي في سينما"، و"أعرابي في حمام"، و"الأعرابي والشعر"، وقد شحنها بإشارات تحمل من السخرية والضحك والإيحاءات الكثير، وجمع فيها بين أطراف الزمان والمكان، وتوغل بها إلى دواخل النفوس وآفاق الشعور لدى قطاعات من المجتمع.

من ذلك ما ذكره في حلقة "أعرابي في حمام"، إذ يقول:

"ودخلوا بي دمشق فما راعني والله يا ابن أخي إلا سيارة كبيرة كسيارتكم هذه، لكنها أهول وأضخم، لها نوافذ وفيها غرف، وقد خطوا لها خطين من حديد فهي تمشي عليهما، فأدخلوني إليها، فخشيت والله وأبيت، فأقسموا لي وطمأنوني، فدخلت ويدي على خنجري إن رأيت من أحد شيئا أكرهه وجأتُه به، وعيني على النافذة إن رابني من السيارة أمر قفزت إلى الطريق. وجلست، فما راعنا إلا رجل بثياب عجيبة قد انشق إزاره شقاً منكراً، ثم التف على فخذيه فبدا كأنما هو بسراويل من غير إزار، وعمد إلى ردائه فصف في صدره مرايا صغيرة من النحاس، ما رأيت أعجب منها، فعلمت أنه مجنون وخفت أن يؤذينا، فوضعت كفي على قبضة الخنجر، فابتسم صاحبي وقال: هو الجابي. قلت: جابي ماذا، جبّ الله (...)!

قال: اسكت، إنه جابي (الترام) أعني هذه السيارة.

ثم مدّ يده بقرشين اثنين، أعطاه بها فتاتة ورق، فما رأيت والله صفقة أخسر منها، وعجبت من بلاهة هذا الرجل إذ يشتري بقرشين ورقتين لا تنفعان، وجلست لا أنبس، فلم تكن إلا هُنَيّة حتى جاء رجل كالأول له هيئة قَزدية[60]، إلا أنه أجمل ثياباً، وأحسن بزّة، فأخذ هذه الأوراق فمزقها، فثارت ثائرتي، قلت: هذا والله الذل، فقبح الله من يقيم على الذل والخسيفة، وقمت إليه فلببته وقلت له:

• يا ابن الصانعة، أتعمد إلى شيء اشتريناه بأموالنا، ودفعنا به قروشنا فتمزقه، لأمزقن عمرك..! وحسبت صاحبي سيدركه من الغصب لكرامته والدفاع عن حقه مثل ما أدركني فإذا هو يضحك ويضحك الناس ويعجبون من فعلي؛ لأن عمل هذا الرجل فيما زعموا، تمزيق أوراق الناس التي اشتروها بأموالهم".

وفي موقف آخر يكمل الطنطاوي المشهد، فيقول:

"قال لي صاحبي: هلم إلى الحمام. فقلت: وما الحمام يا ابن أخي؟

قال: تغتسل وتلقي عنك وعثاء السفر.

قلت: إن كان هذا هو الحمام، فما لي فيه من مأرب، حسبي هذا النهر أغطس فيه فأغتسل وأتنظف.

قال: هيهات.. إن الحمام لا يعدله شيء، أو ما سمعت أن الحمام نعيم الدنيا؟

قلت: لا والله ما سمعت. قال: إذن فاسمع ورِهْ.

وأخذني فأدخلني داراً قوراء في وسطها بركة عليها نوافير يتدفق منها الماء، فيذهب صعداً كأنه عمود من البلور ثم يتثنى ويتكسر ويهبط كأنه الألماس، له بريق يخطف الأبصار، صنعة ما حسبت أن يكون مثلها إلا في الجنان، وعلى أطراف الدار دكك كثيرة، مفروشة بالأسرة والمتكآت والزرابيّ كأنها خباء الأمير، فلم نكد نتوسطها حتى وثب إلينا أهلوها وثبة رجل واحد، يصيحون علينا صياحاً غريباً، فأدركت أنها مكيدة مدبرة، وأنهم يريدون اغتيالي، فانتضيت خنجري وقلت: والله لا يدنو مني أحد إلا قطعت رقبته، فأحجموا وعجبوا ورعبوا، وغضب صاحبي وظنني أمزح، ومال عليّ يعاتبني عتاباً شديداً. فقلت له: ويحك أو ما تراهم قد أحاطوا بنا؟ قال:

إنهم يرحبون بنا ويسلمون علينا. فسكت ودخلت. وعادوا إلى حركتهم يضحكون من هذا المزاح، ويدورون حولنا بقباقيبهم العالية، ويجيئون ويذهبون، وأنا لا أدري ما هم صانعون حتى قادونا إلى دكة من هذه الدكك، وجاءوا ينزعون ثيابنا فتحققت أنها المكيدة، وأنهم سيسلبونني خنجري حتى يهون عليهم قتلي، فقد عجزوا أن يقاتلوني وبيدي الخنجر، فأبيت وهممت بالخروج ولكن صاحبي ألحّ عليّ وأقسم لي، فأجبت واستسلمت وإن روحي لتزهق حزنا على أني ذللت هذا الذل حتى أسلمتهم سَلَبي يسلبونني وأنا حي. ولو كنت في البادية لأريتهم كيف يكون القتال.. حتى إذا تمّ أمر الله ولم يبق عليّ شيء، قلت: أما من مسلم؟ أما من عربي؟ أتكشف العورات في هذا البلد فلا يغار أحد، ولا يغضب إنسان؟

فهدّأ صاحبي من ثورتي وقال: أفتغتسل وأنت متزر؟ قلت: فكيف أتكشف بعد هذه الشيبة وتذهب عني في العرب فتكون فضيحتي إلى الأبد؟

قال: من أنبأك أنك ستتكشف؟ هلا انتظرت!

فانتظرت وسكت فإذا غلام من أغلمة الحمام، يأخذ بيده إزارا فيحجبني به حتى أنزع أزراري وأتزر به، فحمدت الله على النجاة، وكان صاحبي قد تعرى فأخذ بيدي وأدخلني إلى باطن الحمام، فإذا غرف وسطها غرف، وساحات تفضي إلى ساحات، ومداخل ومخارج ملتفّة متلوية، يضل فيها الخرّيت، وهي مظلمة كأنها قبر قد انعقدت فوقها قباب وعقود، فيها قوارير من زجاج تضيء كأنها النجوم اللوامع، في السماء الداجية، وفي باطن الحمام أناس عري جالسون إلى قدور من الصخر فيها ماء، فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، وقلت هذه والله دار الشياطين، وجعلت ألتمس آية الكرسي فلا أذكر منها شيئاً، فأيقنت أنها ستركبني الشياطين لما نسيت من آية الكرسي، وجعلت أبكي على شيبتي أن يختم لها هذه الخاتمة..."[61].

ويستطيع قارئ الطنطاوي هنا أن يكتشف هذه الطريقة الأدبية التي حبَّذ الكاتب إحياءها، حين استعار شخصية "الأعرابي" ثم أنطقها في مواقف شتى بما يجيش في خواطره ويعتمل في داخله من آراء حول الحياة العامة من حوله، وتطوراتها المتلاحقة.

لقد استطاع أديبنا أن يوجه نقده غير المباشر على لسان هذا الأعرابي لبعض الظواهر المجتمعية والأخلاقية حين نجح في أن يخلع عليه شخصية الراوية "الحارث بن همام البصري"، الذي أنطقه الحريري - في مقاماته الشهيرة - بكل ما أراد نقده، فيما يتصل بالحياة الاجتماعية والسياسية حينئذ.

لقد أودع الطنطاوي كلماته هذه معاني مزدوجة وعمقا تاريخيا. وها هو يصرح في ذكرياته بأن هذه القصص التي كتبها هنا "متخيلة"، إلا أن بعض الباحثين قد ظن أن ما ورد فيها حقائق، واستشهد بها في بعض بحوثه. يقول عن ذلك: "كتبت مرة قصصا متخيلة عن أعرابي صحبنا في رحلة الحجاز، منها: (أعرابي في الحمام)، و(أعرابي في سينما)، و(الأعرابي ونقد الشعر)... قلت في الأخيرة منها: إن قبيلة على حدود اليمن اسمها السوالم لا تزال تنطق الفصحى، لم يدخل ألسنتها اللحن ولا بلغتها العجمة، وكان ذلك خيالا مني، فأخذ ذلك الأستاذ (...) فوضعه في بحث له عن الفصحى وعن اللحن، ونشر خلاصة منه في مجلة مجمع اللغة العربية"[62].

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الطنطاوي لا يذكر ذلك على سبيل السخرية من الباحث الذي نقل عنه، وإنما من أجل التنبيه على حقيقة ما كتبه، لئلا تستقر في الأبحاث والأذهان أن هذه حقائق، وما هي كذلك.

كما أن هذا النقل من النصوص "المتخيلة" لأديبنا ليس هو الأوحد، ولقد ذكر الطنطاوي في ذلك مواقف أخرى، وكان حديثه من أجل التنبيه على أن ما نُقل عنه على أنه حقيقة إنما هو من وحي قلمه.

فعن ذلك يقول: "لي كتاب اسمه (قصص من التاريخ)، آخذ فيها أسطرا معدودة، أو حادثة محدودة، فأُعمل فيها خيالي، وأجيل فيها قلمي، حتى أجعل منها قصة... من هذه القصص ما ذكره المؤرخون من أن امرأة من دمشق رأت انقسام المسلمين وتقاعسهم عن قتال الصليبيين، وأرادت المشاركة في الجهاد، فعملت ما تقدر عليه: قصت ضفائرها، وبعثت بها إلى سبط ابن الجوزي (أي ابن ابنته) خطيب الجامع الأموي في دمشق، ليكون منها قيدا لفرس من خيول المجاهدين. ويقول المؤرخون: إنه خطب خطبة عظيمة ألهبت الدماء في العروق، وأسالت الدموع من العيون، وأثارت الحماسة وأيقظت الهمم، فلما كتبت القصة على طريقتي، ألفت أنا خطبة قلت إنها التي ألقاها على الناس. وحسب الناس أن هذه هي الخطبة الحقيقية، حتى أن خطيب المسجد الحرام الرجل الصالح الشيخ عبد الله الخياط نقل فقرات منها في خطبة الجمعة على أنها خطبة سبط ابن الجوزي"[63].

ولعل ما يذكره الطنطاوي هنا يعد اعتذارا للحقيقة العلمية والمراجع التاريخية، وهو من طبعه – كما ذكر ذلك عن نفسه - لا يحب أن ينسب إليه ما ليس من عمله، تماما كما لا يحب أن يسرق مجهوده العلمي دون الإشارة إلى ما بذله فيه.

ولأنه كان يخشى ما حدث بالفعل، فقد حرص على أن يكتب في هامش قصصه التي استوحاها من التاريخ (أصل هذه القصة سطران في كتاب كذا).

إلا أن الدكتور "محمد رجب البيومي" يعتبر هذه الجملة صادمة للقارئ، ويرى أنه لا مبرر لذكرها، يقول عن ذلك: "كنت آخذ على الطنطاوي أنه يكتب القصة في خمس عشرة صفحة ممتازة حقا بتصويرها وتعبيرها ومغزاها، ثم يقول في الهامش: (أصل هذه القصة سطران في كتاب كذا) فلم هذا التعليق؟! إنه يصدم القارئ بعد أن يعيش في جو القصة الرهيب، والناقد الأدبي يعرف سلفا أن القصة مستوحاة من سطر أو سطرين حينئذ، فلماذا نصدم القارئ العادي بهذا التعليق؟"[64].

ولعل بعض ما ذكره الطنطاوي عن هذه النقول من قبل باحثين وخطباء، لبعض نصوصه وقصصه وخطبه المتخيلة يبرر له ضرورة ذكر هذه الجملة في هامشه، حرصا منه على رواية التاريخ وأمانة النقل التي نادى بها، وقدَّمها على ما دونها، وخشية منه كذلك أن يُحمد بما لا يفعل.

أما مأخذ الدكتور البيومي في ذلك فهو في محل أدبي معتبر، ولكن إذا حصلت المزاحمة بين إثبات رواية التاريخ وعزوها إلى مصدرها، وبين تقديم القصة الأدبية الرائقة بإهمال عزوها لمصدرها التاريخي؛ فإن الأَولى هو تقديم ذكر الرواية وعزوها لمصدرها[65].

وأخيرا، تتبدى للباحث هنا نتيجة بينة، وهي أن مقدرة الطنطاوي الأدبية قد أثبتت – من خلال هذه المواقف – أنه حين يضرب في عمق التاريخ ويتمكن من نواصي الكلم فإن حدود الفصل بين كلماته التي كتبها في القرن الرابع عشر الهجري، وبين ما كُتب قبل قرون مديدة، لا تكاد تتبين لنفر من الباحثين. وهذه شهادة أخرى لأصالة قلمه وجزالة صياغته.

الاستطراد

يعرف "علي الجرجاني" الاستطراد بقوله: هو "سوق الكلام على وجه يلزم منه كلام آخر وهو غير مقصود بالذات بل بالعرَض"[66]. ويقول المناوي: الاستطراد هو "ذكر الشيء في غير موضعه"[67]. أما القزويني فيقول: الاستطراد هو "الانتقال من معنى إلى معنى آخر متصل به لم يقصد بذكر الأول التوصل إلى ذكر الثاني"[68]. ويقال: يُكْثِرُ فلان مِنَ الاسْتِطْرادِ في كِتاباتِهِ أي: يَنْتَقِلُ مِنْ حَديثٍ رَئِيسٍ أَو رَئيسِيٍّ إلى آخَرَ ثانَوِيٍّ لِـتَفْسِيرِ آرائِهِ وَدَعْمِها بِبُرْهانٍ. واسْتَطْرَدَ في الكلام: انتقل من موضوع إلى آخر[69]. ومن الواضح أن الاختلاف في هذه التعريفات إنما هو في ألفاظها دون معناها.

ويلحظ قارئ الطنطاوي أن ظاهرة "الاستطراد" حاضرة في كتاباته، أيا كان الموضوع الذي يكتب فيه، بل إنه يعترف بذلك، ويعتذر أحيانا عنها، ولكنه يقول بأن ذلك لا مفر له منه. ومما قاله في ذلك:

"... لقد خرجت عن الخط، ولكن لا كما يخرج القطار عن القضبان، فينهار ويسبب الهلاك والدمار، ولكن كما يميل المسافر إلى الواحة فيها الظل والماء، فيجد فيها الراحة والري. فعفوكم إن جرتني المناسبة إلى سرد قصة ليست من صلب الموضوع، ولكن أرجو أن يكون من سردها متعة أو منفعة. أعود إلى موضوعي..."[70].

ويحكي مجاهد ديرانية عن سلسلة "أعلام التاريخ" أن بعض هذه الكتيبات تجاوز حدود الترجمة الشخصية، حتى إنه ليحيط - على صغره - بموضوع واسع في فقرات معدودات. فكتاب "أحمد بن عرفان الشهيد" مثلا يعرِّف بشخصية نادرة في تاريخ الهند، ويكاد، مع ذلك، يلم بتاريخ الإسلام في الهند أو بطرف كبير منه في لمحات سريعة، بدءًا بدخول الإسلام إلى الهند وانتشاره فيها، وانتهاءً بحركة الجهاد التي قادها أحمد بن عرفان ضد السيخ والإنكليز.

كذلك كتاب "القاضي شُريك" يُعرِّف بالقضاء وفنونه وأصوله ومنزلته في الإسلام. وكتاب "الإمام النووي" يُلم بكثير من مصادر الفقه الشافعي وكتبه؛ كالمنهاج والروضة والمهذب، وشرحه "المجموع"، ويعرف ببعض كتب الحديث كالأذكار ورياض الصالحين، والأربعون النووية، وشرح النووي على صحيح مسلم[71].

بمن تأثر في الاستطراد؟

يرد الطنطاوي تأثره في هذا الاستطراد إلى كتب الأدب العربي القديم، يقول عن ذلك:

"... وعيب آخر عندي، هو عيب كتب الأدب العربي القديم، ومن نشأ عليها وألفها، هو الاستطراد، والخروج عن الموضوع. هذا كتاب الحيوان للجاحظ مثلا، أسأل من قرأه منكم: كم في أبوابه مما يدل عليه عنوانه؟ هل التزم فيه علم الحيوان (أي علم الحياة) أم ذهب به الاستطراد يمينا وشمالا، فتكلم في كل شيء؟ هذا هو أسلوب كتبنا الأدبية فلا تلوموني – وقد نشأت عليها – أن أسلك سبيلها"[72].

وقارئ الطنطاوي مع ما يلحظه من هذا الاستطراد يعلم أن "عليا" قد أحسن توظيفه في كثير من سياقات أحاديثه وموضوعاته، فدعم بها ما يريد ويرغب في تعميقه لدى قرائه ومستمعيه. يقول في حديثه عن بعض شيوخه:

"كانت حلقات الدروس في الأموي كثيرة، في علوم مختلفة، منها ما هو لطلبة العلم، ومنها ما هو مواعظ للعامة، ولكن درس الشيخ صالح كان يمتاز منها جميعا، بأنه كان موعظة، وكان أدبا، وكان تاريخا، وما أكثر ما حفظت فيه من أحاديث صحيحة، ومقطوعات من الشعر بارعة، وأخبار من التاريخ نادرة، وكان يلقي ذلك بلهجة تونسية، فصيحة المبنى، جامعة المعنى، كثيرة الأسجاع، تأتي معه عفوا بلا تكلف، لا يكتفي بأن يتكلم ونحن نسمع بل كان يسأل ويطلب الجواب، فيكون لنا من درسه – فوق ما نتلقى من العلم والأدب – تدريب على الخطابة، وتمرين على الكلام. وهذا فن عني به العرب قديما حين كان من خطبائهم من يدرب على ذلك الشباب، وعني به الأميركان حديثا، إذ يفتحون مدارس يتعلم فيها تلاميذهم – وجلهم من الكبار – فن مخاطبة الجماهير. ثم كنت تلميذه في المدرسة، وكنت أتلقى عنه فوق ذلك درسا خاصا، أمرني أبي به، وطلبه منه، وكان صديقه"[73].

وهذه لفتة طريفة من الطنطاوي، حيث نوه إلى مكانة الخطابة وأهميتها، وهو يقصد هنا من لفظة الخطابة فن التخاطب بأركانه وآدابه. وهي أيضا من استطراداته المفيدة في سياقات أحاديثه.

وإذا كان الاستطراد في جانب من جوانبه يعطي انطباعا سلبيا لدى بعض المتلقين، فإنه في جوانبه الأخرى يرسم صورة أكثر وضوحا لدخيلة الأديب، ومدى موسوعيته الثقافية. ولعل مما يدل على ذلك قوله:

"... انصرف الناس وبقيت حيران لا أنصرف، و(حيران) ممنوع من الصرف إذا كنتم لا تزالون تذكرون ما درستم من قواعد اللغة العربية. هنا، وعند شدة الضيق يأتي الفرج، جاء الفرج من البحرين، والنسبة إليها عند العرب (بحراني) ولكنهم – ولست أدري – لماذا لا يحبون أن يدعى أحدهم بها. وباب النسب عند العرب أكثره سماعي، فإن نسبوا إلى المدينة المنورة بنور الإسلام قالوا: مدني. فإن وجدتم بين المحدثين من اسمه المديني فهي نسبة إلى مدينة المنصور، أي إلى بغداد أول ما بناها، فإن قالوا: المدائني، فالنسبة فيها إلى مدائن كسرى. وكان رجلا عربيا كريما، تاجرا من البحرين..."[74].

حسن الربط والابتكار في الخطاب

قد تبدو أشياء على أنها متباعدة ولا صلة بينها، حتى يربط بينها كاتب أديب فيُبرز ما بينها في صورة عجيبة ومثيرة، وهذا ما فعله "علي" في كثير من المواضع التي كشف ربطه فيها بين العديد من الأشياء عن حضور بديهته وسعة ثقافته وطوع بيانه.

ولقد قدم خطابه مبتكرا في أسلوبه، لا نمطيا مملا، فهذه خطبة جمعة يقول فيها:

"افتحوا أي كتاب من كتب الفقه تروا فيه باب العبادات؛ وهذا وحده الدين في عرف الأوربيين، وباب المعاملات؛ وهذا هو القانون المدني، وباب العقوبات؛ وهذا هو القانون الجزائي، وباب المناكحات؛ وهو قانون الأحوال الشخصية، وأحكام الإمارة والبيعة؛ وهو الدستور، أي القانون الأساسي، وباب الجهاد؛ وهو القانون الدولي"[75].

ويذكر عبدالله بن المبارك بأنه "المليونير الزاهد، والفقيه المحارب العابد"[76].

وفي تصوير شفاف رائق تملؤه الحركة والألوان يقول:

"هنا ولدت دولة الإسلام، الدولة التي كانت يوما مؤلفة من أربعة فقط: القائد ومعه رجل وامرأة وصبي. أبو بكر وخديجة وعلي. ثلاثة يمثلون البشر جميعا: الرجال والنساء والأولاد، ثم صاروا أربعين، فكان منهم العرب، ومنهم الفرس يمثلهم سلمان، والروم يمثلهم صهيب، والحبشة يمثلهم بلال، وكان منهم بيض وسمر وسود... ثم صار الأربعون ثلاثمائة فانتصروا في بدر، ثم صاروا عشرة آلاف ففتحوا مكة، فلما صاروا مائة ألف مشوا يفتحون العالم"[77]. إنه مشهد متكامل ونحت تصويري بديع، بل تصوير حي تملؤه الحركة والأصوات والألوان، ويسمع منه صهيل الخيول وجلجلة الجيوش وتكبير الجنود، حتى وإن لم يذكر فيه كل ذلك.

ويقول في موضع آخر:

"كان محمد يقضي الليالي وحيدا على فراش الصخر، في الغار الموحش على حين كان ملوك الأرض ينامون على الحرير والريش في القصور العامرة، وحولهم الخدم والأعوان، ولكن محمدا كان أعز في الغار وأكرم؛ لأنه كان يتطلع إلى السماء، وهم ينظرون إلى الأرض فلما اتصل بالسماء ابتلع الغار القصور"[78]. إنها فقرة أشبه بقصة قصيرة جدا، انتهت بانتصار الحق على الباطل.

التقرير والاستنباط

نادرا ما نجد الأديب الذي عركه السير في دروب الحياة، ومغالبة متاعبها على مدى عشرات السنين، حتى أمسى وقد صُقلت مواهبه ومَلأت الحكمة جوانحه، فإذا نطق لا ينطق عبثا، وإذا وجه لا يوجه إلا عن علم وتجربة. وما أيسر كتابة الذكريات سردا وتأريخا، ولكن الشيء الجميل والمتحف حقا هو أن ترصع هذه الذكريات بحكم ومآثر تورَّث على أنها درر لقارئها، فتختصر عليه كثيرا مما عالج صاحبها، وتؤدي به إلى استكمال الطريق من حيث انتهى السابقون.

وقد تناثرت في كتابات صاحبنا الكثير من الحقائق والتقارير والاستنباطات، ومنها:

1. "كل خباز يجر النار إلى قرصه، وكل راوٍ لقصةٍ يكبِّر دوره فيها، ويصغر أو يمحو دور غيره"[79]. وهذا ضمن حديثه عن منهج كتابة ذكرياته.

2. "دمشق أقدم المدن العامرة المسكونة في الدنيا"[80]. وذلك في حديثه عن ذكريات طفولته بدمشق.

 3. "الجامع الأموي أقدم المساجد الفخمة في ديار الإسلام حاشا الحرمين"[81]. وذلك في حديثه عن دمشق، وقد علق على ذلك قائلا: وإن كان التأنق في تفخيم المساجد وتزويقها وزخرفتها مما لا يستحسنه الإسلام.

 4. "بعض الحق أقرب إلى الباطل"[82]. ووضح ذلك بقوله: في المحكمة يُحلفون الشاهد بأن يقول الحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق؛ ذلك لأن بعض الحق أقرب إلى الباطل.

 5. "من قال لكم إن الفكر لا يشيخ فلا تصدقوه"[83]. وذلك في حديثه عن تأخره في كتابة ذكرياته.

 6. "كثيرا ما تكون المبالغة في وصف المنكر دعاية له"[84]. وذلك في تنبيهه لبعض الوعاظ في طرق التوجيه والإرشاد الخاطئة.

 7. "التبدل الآني ليس من سنن الله في هذا الوجود"[85]. وذلك في حديثه عن تقلبات الأحداث وتغير الدول في بلاد الشام، بدايات القرن التاسع عشر.

 8. "حياة الإنسان لا تقاس بطول السنين بل بعرض الأحداث"[86]. وذلك فيما كتبه تعليقا على آثار بعض المعارك التي أثرت فيه حين كان صغيرا، وفي بلده حينئذ.

 9. "الشهرة وبقاء الاسم ليسا دليل عظمة الرجال"[87]. وذلك حين ظن بعض الناس أن الرجل الذي بنى مدرسة "عنبر"، وسميت باسمه، عبقري وعظيم. وهو ليس كذلك، بحسب الطنطاوي.

 10."النضال بالمقال مثل القتال بالنصال والنبال"[88]. وهو يتحدث عن دوره في التخفيف من آلام الأمة والوقوف بجوار المستضعفين.

 11."لا يفاخر الأموات إلا الجبناء"[89]. وهو يتحدث عن القائد الفرنسي غورو حين دخل دمشق منتصرا ثم وقف على قبر صلاح الدين الأيوبي وقال: يا صلاح الدين.. لقد عدنا..!

 12."كل من بقي من بني إسرائيل اليوم هم من الذين كفروا؛ لأن القاضي الذي يحكم بقانون أبطل أو عدل، ويرفض التعديل الذي أمر به مَن وضع القانون، هذا القاضي ينزلونه من قوس المحكمة إلى قفص المتهمين"[90]. وهذا في حديثه عن تقسيم فلسطين وتوطين اليهود بها.

 13."الإيمان ولو كان بالجبت والطاغوت قوة لا تكاد تغلب، والمثل فيتنام. أمَا أتعبت بل أعجزت أقوى دول الأرض وهي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا يرجو قتيلها جنة، ولا يرقب ثوابا؟"[91]. وهذا في حديثه عن الثورة على الفرنسيين.

 14."الفارس الشريف يكف عن المبارزة إذا سقط السيف من يد خصمه فبقي بلا سلاح؛ لأن المسلح الذي ينازل أعزل لا يكون فارسا شريفا"[92]. في حديثه عن تنكر فرنسا لمبادئ ثورتها الأولى، حين غزت الشام ودخلت في حرب غير أخلاقية.

 15."البيان لا يَجمع ما لم يكن معه الإيمان؛ فقد كان العرب قبل الإسلام أهل فصاحة وبيان، وكان يجمعهم النسب واللسان، وما جعلهم أمة واحدة حتى نزل القرآن"[93]. وذلك في حديثه عن شعر الثورة في مكتب عنبر.

 16."الذي يتولى عملا إداريا له صلة قوية بالناس يكثر خصومه"[94]. وذلك في حديثه عن شفيق جبري الذي كان رئيس ديوان المعارف.

 17."الجُمل التي لها دوي كدوي صوت الطبل... فارغة مثله"[95]. وذلك في حديثه عما استفاده في مصر؛ حيث قوي قلمه وانتقل من أسلوبه الحماسي المحشو بالمبالغات إلى أسلوب أقرب إلى الرصانة.

 18."الفرحات الأولى لا تعاد؛ ترى الكعبة ألف مرة فلا تحس أمامها مثل الذي أحسسته في المرة الأولى، وتقرأ القصة مرات فلا تشعر بالمتعة التي شعرت بها عند القراءة الأولى، وتعاشر زوجتك سنوات وسنوات فلا تجد فيها كلها ليلة كالليلة الأولى"[96]. وذلك في حديثه عن فرحته بنشر مقالته الأولى في "المقتبس" عند الأستاذ أحمد كرد علي.

 ولو تتبع الباحث ذلك لوجده فيضا.

 السهولة الممتنعة والعامي الفصيح

أخذ أسلوب الطنطاوي من طبعه، فقد كان متبسطا في شئون حياته مع أنَفة واعتزاز، يجمع بينهما في تناسق لافت وعجيب، فلا يجره التبسط إلى شيء من الهوان، ولا تأخذه الأنفة والعزة إلى شيء من الكبر. وعن صفة أسلوبه يقول عصام العطار[97]:

"إذا أردت يا قارئي أن تعرف ما هو السهل الممتنع حقيقة لا وصفا فاقرأ علي الطنطاوي أو اسمعه، فأسلوبه هو السهل الممتنع في صورة من أندر صوره، في سهولته وسلاسته وسلامته وبلاغته وسحره وحلاوته ودقته المدهشة في التصوير والتعبير، وقدرته الفائقة على تيسير العسير، وتقريب البعيد، والوصول بالأفكار والمشاعر والحقائق والمعارف بطريقة بسيطة مفهومة محكمة محببة، إلى الكبير والصغير، والمرأة والرجل، والمتعلم والعامي، من مختلف طبقات الناس"[98].

ومثالا على ذلك، يذيع الطنطاوي حديثه عن ظاهرة تربوية مهمة، فيقول:

"كان من المناظر المألوفة كل صباح، منظر الولد العَصيان، وأهله يجرونه، والمارة وأولاد الطريق يعاونونهم عليه، وهو يتمسك بكل شيء يجده، ويلتبط بالأرض، ويتمرغ بالوحل، وبكاؤه يقرِّح عينيه، وصياحه يجرِّح حنجرته، والضربات تنزل على رأسه، يساق كأنه مجرم عات، يرى نفسه مظلوما ويرى الناس كلهم عليه حتى أبويه".

وبهذه الجملة القصيرة يلخص الطنطاوي شعور كل – أو معظم – الأطفال، حين يتمردون على أوامر أهليهم، ويتعرضون جراء ذلك للعقاب المادي أو المعنوي. فالطفل لا يجد نفسه إلا مظلوما في كل الأحوال، وهو لا يدري لتصرفات أهله مبررا إلا أنهم مزعجون أو "ظالمون".

ويتابع: "فتصوروا أثر ذلك في نفسه، وعمله في مستقبل حياته. وما عجب أن تبكوا - يا أولادي - رغبة في المدرسة وقد صارت لكم جنات، وما عجب أن نبكي منها وقد كانت علينا جحيما. هي لكم مائدة، عليها الطعام اللَّذّ الخفيف في أجمل الأواني، وحولها الزهر والورد، وقد كانت لنا طعاما دسما ثقيلا، في أوسخ آنية وأقبح منظر".

ولعل هذه من المواضع القليلة التي أجد أديبنا مبالغا فيها. إنني أعترف بالطبع بوجود تفاوت كبير بين حاضر التعليم وماضيه، ومع ذلك فقد كانت هناك أمور كثيرة تعدل كفة الميزان، والدليل على ذلك أن ذاك التعليم قد أخرج علماء موسوعيين، ما زال يصعب تخريج أمثالهم في العقود القليلة الماضية.

ثم يقول: "ولكن من استطاع منا أن يأكل أكثر، وأن يهضم ما أكل، وأن ينتفع به؟ أنتم على كل هذه المشهيات، أم نحن على كل تلك المنفرات؟"[99].

وهنا يترك الطنطاوي الإجابة لقارئه أو سامعه، وقلما كان يفعل ذلك.

ومن كلماته السهلة الممتنعة الممتزجة بالعامية الفصيحة:

"التأنق في تفخيم المساجد وتزويقها وزخرفتها مما لا يستحسنه الإسلام"[100]، فكلمة التزويق شائعة على ألسنة العامة، وهي فصيحة. و"هذي هي الدنيا: ارتفاع وانخفاض، امتلاء وفراغ، فقر بعده غنى، وغنى قد يأتي بعده الفقر، لا العالي يبقى فوق، ولا الواطي تحت"[101]. ويتجنب كثير من الكتاب والأدباء كلمة الواطي ظنا منهم أنها عامية وليست بالفصيحة. و"المعركة قد بدأت من زمان، وما معامل المحلة الكبرى ومصانع الطرابيس والزجاج إلا أعلام النصر في معركة الوطن، فلنمض فيها[102]. وكلمة "من زمان" شائعة عند الطنطاوي، كما هي عند العامة.

"ونثرت فيها من أول يوم بزور المقاومة والصدام"[103]. قال في الهامش: البزور من العامي الفصيح كالبذور.

"رفض الطلاب يوما الدخول إلى غرف الدراسة، وعم الهرج والمرج والصياح، وأنا مثل الأطرش في الزفة"[104]. وهذا التعبير أشهر ما يكون لدى العامة.

"الحياة مثل الناعورة، هل ترونها في الصورة؟[105] دولاب كبير علقت به دلاء وسطول، يكون السطل منها ملآن وهو فوق، كما كنا على عهد أبي، فينزل فارغا إلى الحضيض، كما نزلنا بعده"[106]. والدولاب: فارسي معرب.

"والأعور الدجال الثاني موشي ديان وقد فطس في أواخر عام 1981م"[107]. وفطس عامية فصيحة، وكانت هنا أكثر دلالة على المعنى المراد، وهو التعبير عن الموت حين يقع لعدو بغيض.

"فقال لي الصواف: هل تحب أن ندخل فنأكل؟ قلت: أفي هذا المكان؟! ووسط هذا الزحام؟! لا يا عم"[108]. والكلمة الأخيرة لا تكاد تعرف في الأساليب الفصيحة، رغم فصاحتها وسلامة تركيبها، وهذا من جمال أسلوبه.

التفصيل بعد الإجمال

لم يفصِّل الطنطاويُّ دائما بعد إجماله، ولكنه فيما يبدو كان أحيانا يخشى على قارئه عدم الإلمام بظلال كلماته المجملة، فيُتبع ذلك بجلاء ما يقصد إليه. أو ربما حزبته بعض الكلمات في سياقها، فوجد نفسه مضطرا إلى تفصيلها. ومما قاله في ذلك:

1. "فيها كل ما في الدنيا: من سهل وجبل، وبستان وقفر، وساقية ونهر، ومسجد وقصر، إلا البحر، على أنك ترى حول البلد – أو كنت ترى – بحرا من الخضرة والنبت والشجر"[109]. وهذا في حديثه عن مسقط رأسه، مدينته المحبوبة دمشق.

2. "قف وحدك في وجه الدنيا كلها، وحطم أوثانها: أوثان الحجر وأوثان اللحم والدم"[110]. وهو يتحدث عن خطاب القرآن في سورة المدثر للرسول صلى الله عليه وسلم.

3. "قبل حرب الميدان، حاربوهم بالعلم، والأخلاق، وبالدستور الاقتصادي الصحيح، وأعدوا لهم كل أنواع القوى: قوة الجسم، وقوة العقل، وقوة القلب، وقوة المال، وقوة الجيش"[111]. وهو يتحدث إلى أهل مصر يشد أزرهم ويحرضهم على مقاومة الإنجليز، وكان ذلك في 1952.

4. "المعركة قد بدأت من زمان، وما معامل المحلة الكبرى ومصانع الطرابيس والزجاج إلا أعلام النصر في معركة الوطن، فلنمض فيها"[112]. وهو يستحث المصريين على التخلص من رواسب المستعمر البريطاني، وكان ذلك في 1947.

ومن الواضح أن التفصيل بعد الإجمال يكثر في "خطابيات" الطنطاوي، وإذاعياته، ويقل في كتاباته الأدبية المتأنية.

الإجمال بعد التفصيل

يلحظ قارئ الطنطاوي - في أحيان كثيرة – أنه يلخص لقارئه ما يريد في نهاية كلماته، القصيرة أو الطويلة، فيُجمل ويكثف المعنى بعد بسطه. فهو مثلا في حديثه عن رعاية الأطفال وطريقة تربيتهم، يقول: "وارفعوا الظلم يرتفع الإجرام، وأذهبوا البؤس يذهب الخطر، واعلموا أن هؤلاء المجرمين الذين تمتلئ بهم السجون كانوا يوما أطفالا أطهارا، وأن هؤلاء الأطفال المهملين المظلومين سيصيرون يوما مجرمين أشرارا. إن رأس الإجرام ومنبع الشر هو الذي ظلم هؤلاء الأطفال"[113].

إنه تعبير أدبي ينتقي الكلمات ولا يتكلفها كما في قوله: "ارفعوا... يرتفع... وأذهبوا... يذهب..."، ويلون العبارة بالمترادفات والأضداد الموحية كما في: "الظلم، الإجرام، البؤس، الخطر، المجرمين، أطهارا، المهملين، أشرارا".. ويربط النتائج بالأسباب ربطا ذكيا، يزيد الصورة سطوعا، والمعنى رسوخا، ثم يُجمل في نهاية كلمته القصيرة ما بسطه من معنى: "إن رأس الإجرام ومنبع الشر هو ظلم هؤلاء الأطفال".

ومن ذلك أيضا ما ذكره في نهاية مقالته "تسعة قروش"، التي نشرها 1948م، وحث فيها على الإنفاق على الضعفة والحنو عليهم، يقول:

"إذا شئتم أن تذوقوا أجمل لذائذ الدنيا، وأحلى أفراح القلوب، فجودوا بالحب والعواطف كما تجودون بالمال"[114]. لقد أجمل المعنى وصرح بخلاصته في هذه الجملة بعد أن فصَّل في طول مقاله جوانبه. وهي ظاهرة في أسلوبه الإذاعي والكتابي على السواء.

التعريض والإيحاء

أصبح من المسلّمات الأدبية أن مهارة الأديب تقاس بمدى مقدرته على صياغة التراكيب الموحية، التي لا تسلم قيادها ومعانيها لقارئها من أول وهلة، وكلما احتملت هذه التراكيب معاني طريفة وثرية مع تقليبها على وجوهها، كان ذلك أثقل في ميزان الأدب والبلاغة عند الكاتب المبدع، "ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نَيله أحلَى، وبالمزِية أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضَنَّ وأَشْغَف، ضُرب المثل لكل ما لَطُف موقعه ببرد الماء على الظمأ"[115].

ولقد كان لأديبنا حظ من ذلك كبير، مع أنه كان كثيرا ما يصرح بما يريد، لكن قارئه لا يعدم أن يحصل من تراثه على نماذج غنية وثرية بالإيحاء والإشارة والتعريض، ويكثر ذلك منه في الجمل الاعتراضية، ومنها ما يأتي بلا اعتراض، ومن نماذج ذلك:

1. "لقد ملكنا الدنيا يوما بالسلاح الذي حملناه من حراء، وسنبقى ملوكها ما بقي في أيدينا هذا السلاح"[116]. وهي إيحاء بضرورة العودة إلى أصول الإسلام الأولى التي مكن الله بها للمسلمين.

2. "ومن شأن الحطب الجزل أن يبطِّئ دخول النار فيه ويبطئ خروجها منه، فلا بد لاشتعاله من أعواد صغار، أو حزمة من القش"[117]. وهو يتحدث عن ثورة السوريين ضد الفرنسيين، والتي بدأها طلاب مكتب عنبر: الأعواد الصغار أو حزمة القش.

3. ما مر بنا عهد - على كثرة ما مر بنا من عهود - إلا بكينا فيه منه، وبكينا بعده عليه[118]. وهو يتحدث عن أسفه الشديد من بطش أبناء البلاد بإخوانهم، والذي فاق بطش المحتلين.

4. "الفرنسيون أصحاب الثورة الكبرى التي يدَّعون أنها قامت لنشر العدالة والمساواة والحرية... قوم روسو وهوغو ولامارتين، الذين صنعوا تمثال الحرية وأهدوه إلى أميركا فأقامته عند بابها الشرقي يطل على فرنسا شاكرا، من وراء البحر الأطلنطي"[119]. وهو يعرض بهؤلاء المحتلين وبانهيار مبادئ ثورتهم.

وعلى غرار ذلك فيما كتبه أديبنا كثير.

ظاهرة أفعل التفضيل

لم يكن الطنطاوي مبالغا في عموم أحاديثه، ولكنه كان يخص بعض الشخصيات، والأماكن، والكتب، والحوادث بصفة أفعل التفضيل؛ إذ يطلق هذه الصيغة مدحا أو ذما، ليوحي لقارئه بخلاصة ما يريد قوله في ذلك.

ومما كتبه في هذا:

1. "هذا تاريخنا ما سمعت أذن الزمان تاريخا أحفل منه بالمفاخر، وأغنى بالنصر، وأملأ بالأمجاد، ووالله الذي جعل العزة للمؤمنين وجعل الذلة لليهود لنكتُبن هذا التاريخ مرة ثانية، ولنتلون على الدنيا سِفْر مجدٍ يُنسي ما كتب الجدود... ولنحاربن بالنار والحديد والبارود، وبالسيوف والخناجر والعصي، فإن لم نجد يومًا السلاحَ حاربنا بأيدينا. ولنسوقن إلى الحرب شبابًا أنضر من الزهر، وأبهى من الضحى، وأثبت من الجبل، وأمضى من العاصفة، فإن لم نجد يومًا شبابًا سُقنا إليها الشيوخ والأطفال والنساء"[120]. وقد جاء هنا بأسلوب حماسي، حيث كان يلقي ما سماها "خطبة الحرب".

2. "كباب الموصل وحلب أشهى وأشهر كباب في بلاد العرب"[121]. ورغم ما يتبدى لقارئ هذه الكلمة من مقصود "علي"؛ فإنه لا يمكن التسليم له بمصداقيتها الواقعية، وخاصة فيما يتصل بالعموم والشمول.

3. "أين تلك الأقلام تفضح أكبر خدعة سربت إلينا، وترد أفظع كذبة جازت علينا... وهذا من أقبح ما خلفه فينا الاستعمار... ها هم أولاء المسلمون... يكتبون بدمائهم على جبين الزمان أروع قصائد المجد، وأبلغ آيات البطولة والبذل"[122]. وهو يكتب كلمته الحماسية هذه سنة 1946، وينشرها بعنوان "أين الأقلام؟".

4. "رجال كانت لهم في تاريخنا أضخم الأسماء وأكثرها بريقا وأشدها دويا". وهو يقدم لكلماته التي جمعها حول "رجال سموا إلى سماء العز وبلغوا من السعادة ما لم يكن يبلغ مثله أحد، ثم هووا فجأة إلى قرارة المذلة وقاسوا من الشقاء ما لم يكد يقاسي مثله أحد، فكانوا عجبا في رقيهم وكانوا عجبا في هويهم"[123].

الخلاصة وإجمالا: فقد اتسمت لغة الشيخ الطنطاوي وأسلوبه بما يلي:

السردية الممزوجة بالحوار، والتعبير التمثيلي، والمزج بين خطاب العقل والعاطفة، والاستفهام الاستنكاري، والتنويع والمزج بين الأساليب الأدبية والعلمية والعلمية المتأدبة، وظاهرة ضرب الأمثال، والاقتباس، والاستطراد، وحسن الربط والابتكار في الخطاب، والتقرير والاستنباط، والسهولة الممتنعة والعامي الفصيح، والتفصيل بعد الإجمال، والإجمال بعد التفصيل، والتعريض والإيحاء، واستخدام ظاهرة أفعل التفضيل.

 ولقد أحسن الشيخ علي الطنطاوي – في الأغلب – في توظيف هذه الأساليب لخدمة أغراضه، وقدم نماذج معتبرةً ذات صبغة خاصة، لمقطوعات أدبية ممزوجة بأحداث التاريخ وأساليب التوجيه والنقد والإرشاد، فجاءت منه سردا وتأريخا أدبيا لعدة عقود من الزمان، بمداد قلمه الذي سال بأفضل ما تسيل به أقلام العلماء حينئذ، فرحمه الله رحمة واسعة.

 المصادر والمراجع

• القرآن العظيم.

 أ- مصادر الدراسةكتب الشيخ علي الطنطاوي:

12. علي الطنطاوي، فصول إسلامية، دار المنارة، جدة، ط4، 1990م.

13. علي الطنطاوي، في سبيل الإصلاح، دار المنارة، جدة، ط3، 1990م.

ب- مراجع الدراسة:

18. أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، تحقيق سمير جابر، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية.

19. أبو هلال العسكري، جمهرة الأمثال، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش، دار الفكر بيروت ط2، 1988م.

21. أحمد بن محمد الميداني النيسابوري، مجمع الأمثال، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة بيروت، د ط، د ت.

22. إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي أبو الفداء، تفسير القرآن العظيم، مكتبة دار التراث، د ت.

23. خالد محمد خالد، رجال حول الرسول، دار الجيل، بيروت 1994م.

24. خير الدين الزركلي، الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط15، 2002م.

25. عائشة عبد الرحمن (دكتورة) تراجم سيدات بيت النبوة، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1987.

26. عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة في علم البيان، تعليق محمود شاكر، دار المدني جدة د ت.

27. علي بن محمد بن علي الجرجاني، التعريفات، تحقيق: إبراهيم الإبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1405هـ.

28. مجاهد مأمون ديرانية، علي الطنطاوي، دار القلم دمشق ط1 2001م.

31. محمد بن سعد الدين القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، دار إحياء العلوم بيروت ط4، 1998م.

32. محمد بن مكرم الأفريقي المصري (ابن منظور) لسان العرب، دار صادر بيروت ط1 دت.

33. محمد عبد الرؤوف المناوي، التوقيف على مهمات التعاريف، تحقيق: د. محمد رضوان الداية، دار الفكر المعاصر بيروت، دار الفكر دمشق، ط1، 1410هـ.

35. محمود بن عمر الزمخشري، المستقصى في أمثال العرب، دار الكتب العلمية بيروت ط2، 1987م.

انتهى البحث بحمد الله وعونه وتوفيقه.

[1] - انظر: تاج العروس، ومختار الصحاح، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، مادة سلب.

[2] - أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني، تعليق محمود شاكر، ص27.

[3] - من حديث النفس، علي الطنطاوي ص 21.

[4] - من نفحات الحرم، علي الطنطاوي ص26.

[5] - من نفحات الحرم، علي الطنطاوي ص24.

[6] - ذكريات، علي الطنطاوي، 3/233-234.

[7] - ذكريات، علي الطنطاوي،  1/109.

[8] - ذكريات، علي الطنطاوي 3/80.

[9] - ذكريات، علي الطنطاوي 8/307. وقد ذكر الميداني هذا المثل وقال: إن ذا الحِلم هذا هو عامر بن الظَّرِبِ العَدْوَاني، وكان من حكماء العرب لا تَعْدِل بفهمه فهماً ولا بحكمه حكمًا، فلما طَعَنَ في السن أنكر من عقله شيئاً فقال لبنيه: إنه قد كبرَتْ سِنِّي وعرض لي سَهْو فإذا رأيتموني خرجْتُ من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا لي المِجَنَّ بالعصا. أحمد بن محمد الميداني النيسابوري، مجمع الأمثال 1/37.

[10] - ذكريات، علي الطنطاوي 2/139.

[11] - جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري 1/10، والمستقصى في أمثال العرب، للزمخشري 1/431.

[12] - ذكريات، علي الطنطاوي 5/74. والمثل ذكر في: المستقصى في أمثال العرب للزمخشري 2/20، و"جمهرة الأمثال" لأبي هلال العسكري 1/255، 261، 262. وقال: والمثل للحارث بن سليل الأسدي وذلك أنه زار علقمة بن خصفة الطائي وكان شيخا كبيرا وكان حليفا له فنظر إلى ابنته الزباء وكانت من أحسن أهل دهرها فأعجب بها فقال له: أتيتك خاطبا وقد ينكح الخاطب ويدرك الطالب ويمنح الراغب. فقال له علقمة: أنت كفء كريم يؤخذ منك العفو ويقبل منك الصفو، فأقم ننظر في أمرك. ثم انكفأ إلى أمها فقال: إن الحارث بن سليل سيد قومه حسبا ومنصبا وبيتا وقد خطب إلينا الزباء فلا ينصرفن إلا بحاجته. فقالت امرأته لابنته: أي الرجال أحب إليك الكهل الجحجاح الواصل المياح أم الفتى الوضاح؟ قالت: لا بل الفتى الوضاح. قالت: إن الفتى يعيرك وإن الشيخ يميرك وليس الكهل الفاضل الكثير النائل كالحدث السن الكبير المن. قالت: يا أمتاه إن الفتاة تحب الفتى كحب الرعاء أنيق الكلا. قالت: أي بنية إن الفتى شديد الحجاب كثير العتاب. قالت: إن الشيخ يبلى شبابي ويدنس ثيابي ويشمت بي أترابي.. فلم تزل بها أمها حتى غلبتها على رأيها فتزوجها الحارث على خمسين ومائة من الإبل وخادم وألف درهم فابتنى بها ثم رحل بها إلى قومه فبينا هو ذات يوم جالس بفناء قبته وهي إلى جانبه إذ أقبل شباب من بني أسد يعتلجون فتنفست الصعداء ثم أرخت عينيها بالبكاء فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: ما لي وللشيوخ الناهضين كالفروخ.. فقال لها: ثكلتك أمك تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. فذهبت مثلا، ثم قال لها: أما وأبيك لرب غارة شهدتها وسبية أردفتها وخمرة شربتها فالحقي بأهلك فلا حاجة لي فيك.

[13] - من نفحات الحرم، علي الطنطاوي ص18. وقال النيسابوري: سير السواني سفر لا ينقطع.. السواني: الإبل يستقى عليها الماء من الدواليب فهي أبدا تسير.  مجمع الأمثال 1/342، دار المعرفة، بيروت، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. ومعجم "الغني" للدكتور عبد الغني أبو العزم، مادة سنا.

[14] - ذكريات، علي الطنطاوي 8/30.

[15] - ذكريات، علي الطنطاوي 3/85، والمثل في مجمع الأمثال للنيسابوري 1/342.

[16] - ذكريات، علي الطنطاوي 6/57.

[17] - ذكريات، علي الطنطاوي 5/82.

[18] - ذكريات، علي الطنطاوي 7/162. والمثل مذكور في: البيان والتبيين للجاحظ، ص175، والمستقصى في أمثال العرب للزمخشري 2/134، ومجمع الأمثال للميداني 1/361. والشِّنْشِنة : الطبيعة والعادة.

[19] - ذكريات، علي الطنطاوي 5/241. وفي هذا المعنى يروى عن أبي الدرداء: مُعَادَاة الْعَاقِلِ خَيْرٌ مِنْ مُصَافَاةِ الجَاهِلِ؛ لأن العاقل لا يضع الشىء غير موضعه، والجاهل ربما أراد نفعك فضرك. قال (المتقارب): عدوك ذو العقل خير من الصـ (م)    ـديق لك الوامق الأحمق. (المستقصى في أمثال العرب، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري 2/346). والتَّوَمُّق: التوددّ. والمِقة المحبة. (لسان العرب – ومق).

[20] - ذكريات، علي الطنطاوي 2/121.

[21] - ذكريات، علي الطنطاوي 5/92. وأورد المثل الزمخشري في "المستقصى في أمثال العرب" 2/197، والميداني في "مجمع الأمثال" 2/91.

[22] - ذكريات، علي الطنطاوي 6/11. ويقول ابن منظور: يقال للرجل إِذا عزم على الأَمر: هو شديد العِذَار، كما يقال في خلافه: فلان خَليع العذار كالفرس الذي لا لجام عليه فهو يَعِيرُ على وجهه لأَن اللجام يمسكه، ومنه قولهم خَلَعَ عِذارَه أَي خرج عن الطاعة وانهمك في الغي. (لسان العرب مادة عذر).

[23] - ذكريات، علي الطنطاوي 1/66، ومثل "كحماري العبادي" في مجمع الأمثال للميداني 2/161.

[24] - ذكريات، علي الطنطاوي 3/91. والمثل (مرعى ولا كالسعدان) في مجمع الأمثال للميداني 2/275، وجمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري 2/242. وقد حكوا أن المثل لامرأة من طيء كان تزوجها امرؤ القيس بن حُجْر الكندي وكان مُفَرَّكاً فَقَالَ لَها : أين أنا مِنْ زوجك الأول ؟ فَقَالَت: مَرْعىً ولاَ كالسَّعدان، أي إنك وإن كنت رِضاً فلستَ كفلان. والسعدان شوك إذا أكلته الإبل غزرت عليه أكثر مما تغزر على غيره من المرعى. والمثل (ماء ولا كصداء) في جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري 2/225، و2/242، ومجمع الأمثال للميداني 2/277. وصدَّاء: بئر لم يكن عند العرب أعذب من مائها.

[25] - ومما قاله في ذلك: "ضاق بنا بلدنا، البلد الذي أحببته حبا قل أن يحب مثله أحد بلده، وكتبت عنه ما لم يكتب مثله ابن بلد عن بلده، ثم قضى الله أن أحرم منه، وأن أبعد عنه، فنزلت بلدا أشرف منه شرفا، وأعلى عند الله مقاما، نزلت أحب بلاد الله إلى الله: مكة أم القرى، مشرق النور ومنبع الإسلام، ووجدت فيها من ملوكها وأمرائها ومن شعبها، وجدت شيئا أكون ألأم الناس لو أهملت ذكره ونسيت شكره". ذكريات 8/27.

[26] - ذكريات، علي الطنطاوي، 4/118. وأورد هذا المثل الميداني في "مجمع الأمثال" 1/152، و2/318، برفع أخوك فقال: "مكره أخوك لا بطل". وقال ابن منظور في "لسان العرب" – مادة جرل - : جَرْوَل بنُ مُجاشِع رجل من العرب وهو القائل مُكْرَهٌ أَخْوكَ. قوله: "مكره أَخوك" كذا في الأصل بالواو وكذا أورده الميداني، والمشهور في كتب النحو أخاك.

وقال الأصفهاني في "الأغاني" 24/226: أول من قال مكره أخوك لا بطل: إن مالك بن جبير سأل حارثة بن عبد العزى في مجلس علقمة بن علاثة الجعفري عن أول من قال مكره أخوك لا بطل، فقال حارثة: أول من قال ذلك جرول بن نهشل بن درام بن كعب.

وذكر الزمخشري في "المستقصى في أمثال العرب" 2/347: الميم مع الكاف: مُكْرَهٌ أَخوكَ لاَ بَطَلٌ.

وأورده العسكري في "جمهرة الأمثال" 2/213، و2/225، و2/242، مرفوعا: مكره أخوك لا بطل.

[27] - ذكريات، علي الطنطاوي 4/118، هامش الصفحة.

[28] - من نفحات الحرم، علي الطنطاوي ص18.

[29] - لسان العرب، مادة بقع.

[30] - المستقصى في أمثال العرب للزمخشري 1/420.

[31] - ذكريات، علي الطنطاوي، 8/27.

[32] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/70. وانظر حديثه عن الشيخ السفرجلاني في هذه الصفحات من الذكريات.

[33] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/74.

[34] - يقول في مقدمة كتابه "تعريف عام بدين الإسلام"، هامش ص6: اتصلت بعدد لا أحصيه من العلماء، منهم من قرأت عليه، ومنهم من حضرت دروسه، ومنهم من جلست إليه واستفدت منه، في الشام ومصر والعراق. من هؤلاء: الشيخ بدر الدين الحسني، المحدث الأكبر، وقرينه السيد محمد بن جعفر الكتاني، صاحب الرسالة المستطرفة، والشيخان المعمران: الشيخ عبد المحسن الأسطواني، والشيخ سليمان الجوخدار، ومفتي الشام الشيخ عطا الكسم، وخلفه المفتي الشيخ محمد شكري الأسطواني، وخلفه المفتي الطبيب الشيخ أبو اليسر عابدين، والسيد محمد الخضر حسين، شيخ الجامع الأزهر، والشيخ عبد المجيد سليم، شيخ الجامع الأزهر، والشيخ مصطفى عبد الرازق، شيخ الجامع الأزهر، والشيخ محمود شلتوت، شيخ الجامع الأزهر، وخالي محب الدين الخطيب، والشيخ أبو الخير الميداني، والشيخ صالح التونسي، والشيخ محمد بهجة البيطار، والشيخ توفيق الأيوبي، والشيخ أحمد النويلاتي، والشيخ عبد الله العلمي، والشيخ هاشم الخطيب، والأستاذ سليم الجندي، والشيخ عبد القادر المبارك، والأستاذ محمد كرد علي، منشئ المجمع العلمي بدمشق، والشيخ المصنف الأديب عبد القادر المغربي، والأديب الراوية الأستاذ عز الدين التنوخي، والأستاذ معروف الأرناؤوط، والأستاذ شاكر الحنبلي، والأستاذ سعيد محاسن، والشيخ عبد القادر بدران الحنبلي، والشيخ محمد الكافي المالكي، والشيخ نجيب كيوان الحنفي، والشيخ أمين سويد، والشيخ زين العابدين التونسي، والشيخ أمجد الزهاوي، والحاج حمدي الأعظمي العراقي، والشيخ قاسم القيسي، والشيخ زاهد الكوثري، والشيخ البشير الإبراهيمي الجزائري، والشيخ كامل القصاب، والشيخ عيد السفرجلاني. وجودت القرآن على شيخ قراء الشام الشيخ محمد الحلواني، والشيخ عبدالرحيم دبس وزيت، وولده شيخنا (وتلميذ والدي) الفقيه الحنفي الشيخ عبد الوهاب، والشيخ عبد الله المنجد، وخلق غيرهم كثير.

[35] - انظر: لسان العرب، لابن منظور، مادة قبس. والتعريفات للجرجاني صفحة 49. والتعاريف للمناوي، صفحة 81.

[36] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/66.

[37] - سورة المائدة، آية 97.

[38] - هتاف المجد، علي الطنطاوي، ص152. والاقتباس من سورة ص، آية رقم 21.

[39] - ذكريات، علي الطنطاوي، 3/27.

[40] - سورة الشعراء، الآيات 224-227.

[41] - من نفحات الحرم، علي الطنطاوي، ص71. والآية من سورة الأنفال رقم (17).

[42] - هتاف المجد، علي الطنطاوي، ص152.

[43] - انظر في ذلك على سبيل المثال: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/300. والآية من سورة الذاريات، رقم 29.

[44] - مجلة الأدب الإسلامي، 9/95، مقالة "زوجتي".

[45] - رواه أحمد والبخاري ومسلم.

[46] - ذكريات، علي الطنطاوي، 2/45، وهو شطر بيت من الشعر تكملته: وأسلمني حب العزاء إلى الصبر. قاله أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو. معجم الأدباء لياقوت الحموي 3/437. و"جمهرة الأمثال" لأبي هلال العسكري ص185.

[47] - هتاف المجد، علي الطنطاوي، ص151.

[48] - انظر المثل في: مجمع الأمثال، لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري، 2/414. قال المفضل: أصله أن رجلا كان في جزيرة من جزائر البحر فأراد أن يعبر على زق نفخ فيه فلم يحسن إحكامه حتى إذا توسط البحر خرجت منه الريح فغرق فلما غشيه الموت استغاث برجل فقال له: يداك أوكتا وفوك نفخ.

[49] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/5.

[50] - هذا المثل ذكره الأبشيهي على أنه من أمثال العرب. انظر: "المستطرف في كل فن مستظرف"، لشهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي، تحقيق: د. مفيد محمد قميحة، 1/70. ونظمه الإمام الشافعي رضي الله عنه حين قال:

ما حك جلدك مثل ظفرك

فتول أنت جميع أمرك

وإذا قصدت لحاجة

فاقصد لمعترف بفضلك

انظر: ديوان الإمام الشافعي، تدقيق محيي الدين سليمة. ط1، دمشق، دار الثقافة للجميع، 2003.

[51] - هتاف المجد، علي الطنطاوي، ص152. يقول صاحب مجمع الأمثال: قالوا: العباد قوم من أفناء العرب نزلوا الحيرة وكانوا نصارى منهم عدي بن زيد العبادي قالوا كان لعبادي حماران فقيل له أي حماريك شر قال هذا ثم هذا. ويروى أنه قال حين سئل عنهما هذا هذا أي لا فضل لأحدهما على الآخر. انظر: مجمع الأمثال للميداني 2/161.

[52] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/11.

[53] -  ذكريات، علي الطنطاوي، 1/35.

[54] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/105.

[55] - من نفحات الحرم، علي الطنطاوي، ص140.

[56] - ذكريات، علي الطنطاوي، 2/288.

[57] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/246.

[58] - ذكريات، علي الطنطاوي، 5/164.

[59] - ذكريات، علي الطنطاوي، 2/217.

[60] - القَزْد: القصد، على الإبدال من الفزد. فزد يفزد: لم يُحْرَم من فُزدَ له أي فُصِدَ. لسان العرب، مادتا قزد، وفزد.

[61] - صور وخواطر، علي الطنطاوي، ص96-99.

[62] - ذكريات، علي الطنطاوي، 3/315.

[63] - ذكريات، علي الطنطاوي، 3/314-315.

[64] - مجلة الأدب الإسلامي، 9/17.

[65] - لعل هذه القضية هي مما يمثل إشكالات واسعة، وخاصة في تلك المؤلفات التي صدرت عن أدباء معاصرين من ذوي المكانات السامقة، والقمم العالية، ولكنهم أهملوا ذكر التوثيق التاريخي والعلمي المفصل للروايات التي سردوها والأحداث التي ذكروها؛ مما يوقع القارئ في حيرة كبيرة تؤدي به في الغالب إلى تنحية هذه المؤلفات جانبا، وخاصة إذا كان غرضه الأول منها هو المعرفة التاريخية أولا، وإن كانت بلغة أدبية. وأذكر في هذا السياق كتابين شهيرين لكاتبين كبيرين، وهما: "تراجم سيدات بيت النبوة" للدكتورة عائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ، و"رجال حول الرسول" للكاتب الإسلامي "خالد محمد خالد".

[66] - التعريفات، علي بن محمد بن علي الجرجاني، ص35.

[67] - التوقيف على مهمات التعاريف، محمد عبد الرؤوف المناوي، ص58.

[68] - الإيضاح في علوم البلاغة، محمد بن سعد الدين بن عمر القزويني، ص328.

[69] - انظر: المعجم الغني، ومعجم "المحيط"، مادة "طرد".

[70] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/196.

[71] - علي الطنطاوي، مجاهد مأمون، ص97.

[72] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/10.

[73] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/81-82.

[74] - ذكريات، علي الطنطاوي، 7/212.

[75] - فصول إسلامية، علي الطنطاوي، ص13، وقد ألقيت هذه الخطبة من منبر مسجد جامعة دمشق 1951م.

[76] - ذكريات، علي الطنطاوي، 6/27.

[77] - من نفحات الحرم، علي الطنطاوي ص24.

[78] - من نفحات الحرم، علي الطنطاوي ص25.

[79] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/11.

[80] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/12.

[81] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/14.

[82] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/15. وهو يقصد الحق المجتزأ.

[83] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/16.

[84] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/36.

[85] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/50.

[86] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/66.

[87] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/111.

[88] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/115.

[89] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/117.

[90] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/169.

[91] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/210.

[92] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/213.

[93] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/227.

[94] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/234.

[95] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/263.

[96] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/282.

[97] - صهر علي الطنطاوي، زوج ابنته بنان.

[98] - جريدة الشرق الأوسط، الأحد 4-7-1999م، ص16.

[99] - من حديث النفس، علي الطنطاوي ص49-50. ويتعرض فيها لقضية التعليم قديما وحديثا، في أكثر من موضع، ومن ذلك ما كتبه في الحلقتين 174، و175 من ذكريات، 6/245، بعنوان: "خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم"، و"ما الذي يجعل تعليم الأمس أكثر رسوخا رغم مساوئه"؟.

[100] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/14.

[101] -  ذكريات، علي الطنطاوي، 1/184.

[102] - في سبيل الإصلاح، علي الطنطاوي ص49.

[103] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/88.

[104] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/163.

[105] - لعله يقصد صورة كان قد قرر أن يضعها بجوار هذه الكلمات، لكن طبعة الذكريات التي نقلت عنها تخلو من صورة ملازمة لهذه الفقرات.

[106] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/184.

[107] - ذكريات، علي الطنطاوي، هامش 1/67.

[108] - ذكريات، علي الطنطاوي، 5/169.

[109] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/14.

[110] - من نفحات الحرم، علي الطنطاوي، ص24.

[111] - هتاف المجد، علي الطنطاوي، ص85.

[112] - في سبيل الإصلاح، علي الطنطاوي ص49.

[113] - مقالات في كلمات، علي الطنطاوي، 1/13.

[114] - صور وخواطر، علي الطنطاوي، ص34.

[115] - أسرار البلاغة في علم البيان، عبد القاهر الجرجاني، ص50.

[116] - من نفحات الحرم، علي الطنطاوي ص25.

[117] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/167.

[118] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/168.

[119] - ذكريات، علي الطنطاوي، 1/212.

[120] - هتاف المجد، علي الطنطاوي، ص27-28.

[121] - ذكريات، علي الطنطاوي، 5/169.

[122] - في سبيل الإصلاح، علي الطنطاوي ص20.

[123] - رجال من التاريخ، علي الطنطاوي، ص372

وسوم: العدد 814