دم لفطير صهيون

نجيب الكيلاني

حيدر قفه

دم لفطير صهيون

المجتمع اليهودي مجتمع فريد بين المجتمعات البشرية، ذلك أنه تجمع متجانس مغلق، مليء بالأسرار والغموض حتى الخوف، عصي على الذوبان في غيره من المجتمعات، مهما كانت كبيرة وقوية، ذلك أن تعاليم التلمود المسيطرة عليهم – وإن تظاهروا بغير ذلك – تجعلهم ينظرون للناس من حولهم نظرة تعالٍ وكبر، وإحساس بالرفعة والسمو، لأن تلمودهم يصور لهم الناس على أنهم خدم وحيوانات لا أكثر، خلقهم الله لخدمة الشعب اليهودي، لأنه شعبه المختار.

وقصة (رواية) الدكتور الطبيب نجيب الكيلاني، الأديب الإسلامي المشهور واحدة من الروايات التي تعالج جانباً من جوانب الحياة اليهودية في تجمعاتهم، ومقدار المصداقية في دعواهم "حُسن الجوار".

والرواية التي تقع في مئة وسبع وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، قد ألحق بها وثائق تاريخية للحادثة التي بُنيت عليها الرواية، ذلك أنه في سنة 1840م، وفي عهد شريف باشا، والي دمشق من قبل محمد علي باشا، وفي حارة اليهود بدمشق، استَدْرَجَ اليهودي التاجر داود هراري – بإيعاز من الحاخامات – صديقه العزيز القسيس الإيطالي الأصل، الفرنسي الجنسية والجواز "البادري توما الكبوجي" وتم ذبحه في بيت داود هراري، وكذلك ذُبح خادمه النصراني أيضاً "إبراهيم عمار" في بيت آخر من بيوت اليهود، في حارة اليهود، وسط احتفالات وطقوس دينية، بمحضر من الحاخامين: موسى أبو العافية، وموسى سلانيكلي، وبعلم عدد من اليهود، وذلك لأخذ دم هذين النصرانيين لصناعة فطير العيد المقدس عند اليهود.

وتمت الجريمة، ولم يعد الرجلان إلى الدير، وتثور الشكوك، ويشهد آخر من رآهما أنه شاهدهما في حارة اليهود، وتبدأ التحريات، وتضيق الحلقة على الحلاق اليهودي سليمان فيعترف، ولكن داود هراري ينكر، ويعتمد على مساعدة يهود أوروبا لإخراجه وسائر المسجونين على ذمة التحقيق. ويتمكن اليهود من رشوة الحكام، وتطوى ملفات القضية، وتفشل محاولات سفراء فرنسا وإيطاليا وغيرهما من الدول الأوروبية في أخذ الحق من اليهود القتلة، ويخرجون من السجن، ومن تهمة جريمتهم بعد أن جلجلت الحادثة في الشوارع والبلدان، وأصبحت مثلاً تخوف به الأمهات أطفالهن من حارة اليهود.

هذه هي الخلفية التاريخية – المدعمة بالوثائق، والتي أورد بعضاً منها (صورة طبق الأصل) من الملف الأصلي الصكوكي للشرطة آنذاك – الأديب نجيب الكيلاني.

وإذا كانت هذه حادثة تاريخية حقيقية – وهي حادثة واحدة من حوادث متكررة متشابهة في أكثر من بلد قطنه يهود – فقد استطاع نجيب الكيلاني الانتقال بالحادثة التاريخية المدعمة بالوثائق ذات العبارات الجافة الركيكة، إلى عمل أدبي رائع.

وقد قام بناؤه الفني على رسم الشخصيات الرئيسة في العمل الأدبي، وقام الأديب بتحريك هذه الشخصيات، لتصب الحركة نفسها في العمل الفني بشكل درامي موفق. والملاحظ أن الشخصيات متساوية الأدوار تقريباً، بحيث يصعب علينا أن نعتبر واحدة منها الشخصية الرئيسة (البطل أو البطلة) فقد تقاسموا الأدوار بشكل جيد.

وبعيداً عن الملفات الرسمية، والتحقيقات المدونة فيها، قام الأديب بخلق شخصيات ثانوية، ربما لم ترد أسماؤها في التحقيق، للنهوض بالعمل الأدبي، من تحقيق حكومي جاف، إلى عمل أدبي روائي حيّ متفاعل، فخلق شخصية "كاميليا" الشابة الحسناء اللعوب، زوجة داود هراري، و "مراد" خادمه، والخادمة "أستير" وغيرها من الشخصيات.

يا ترى، ما مقدار أو إمكانية تحويل هذا العمل الروائي إلى فلم سينمائي مؤثر؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من التذكير أن هزيمتنا أمام اليهود لم تكن في المجال العسكري وحده، بل في المجالات كلها، وعلى رأسها الإعلام. فبينما نجحوا هم في تصوير العرب على أنهم جماعات همجية، ما زات تركب الجمال، وتُـبَذِّرُ الأموال، وتقدس الجنس، مع المزيد من العادات الرذيلة، والسلوك الفج، كالدكتاتورية، وقلة الأدب، والسفه في إنفاق الأموال، والفظاظة في التعامل مع الناس... إلخ هذه السلبيات المفتراة في كثير من الأحيان، ولا يجوز عقلاً تعميمها على كل العرب، حتى أصبحت صورة العربي في أذهان شعوب العالم صورة لا يحسد عليها، بل تورث القرف والتقزز بله التندر، نجد إعلامنا تقاعس في الدفاع عن العرب، أو رد الكيل لليهود، أو رسم صورة حقيقية لليهود، وحسبنا أن نعلم أنّ ممثلي جامعة الدول العربية في دول العالم، والغالبية العظمى من سفراء دولنا، لا يهتمون إلا ببلدانهم، والحفلات الساهرة بعيد الجيش، واليوم الوطني، وعيد ميلاد الزعيم... وما يقام لذلك من حفلات، وما ينفق من أموال، تؤكد للعالم أن العرب أهل سفه، وأرباب تخلف.

ذكرت أساتذة جامعية في إحدى جامعات اليابان، وهي "مبروكة الزروي" التونسية الأصل، أنها لما ذهبت إلى اليابان للدراسة هناك سنة 1982م، وجدت اليابانيين لا يعرفون عن العرب إلا (الحرب، النفط، الصحراء، وحكايات ألف ليلة وليلة)، وتدهش بعض تلميذاتها وتسألها: لماذا تأتي معلمتها في موعدها دون تأخير، رغم أنها عربية!! فالفكرة السائدة عن العرب عند أهل اليابان – كما هي عند سائر شعوب العالم – أن العرب لا يحترمون موعداً، ولا يحفظون عهداً، وهم نموذج للفوضى والتسيب، بل الأشد والأنكى من ذلك أنها كانت تُسأل من قبل زميلاتها: هل يذهب الأطفال عندكم إلى المدارس؟ هل ينزل عندكم المطر؟ هل ترتدون الثياب؟!... (مجلة سيدتي العدد 615 تاريخ 21 – 27 ديسمبر 1992).

ورأيتُ بأم يعني في واجهة زجاجية (فاترينة) لأحد استديوهات التصوير الفوتغرافي في أحد شوارع لندن سنة 1980م صورة لرجل عربي، يلبس عقالاً، أما ثوبه – دشداشته – فقد كانت من العملات الورقية: الدولار، الجنيه الإسترليني، الين الياباني، المارك الألماني، الفرنك الفرنسي... إلخ، هذه صورة العربي عند الأوروبيين.

ولقد شاهدت في التلفزيون الإنجليزي على القنالITV  يوم الأربعاء 16/7/1980م فيلماً بعنوان The Prisoner In The Middle East وهو يعرض صورة مزرية لضابط عربي وجنوده، وهم يحاولون فك صاروخ وقع في الصحراء فلا يعرفون، ويعملون على حمله على جمال أو سيارة جيب، وما يجري من الضابط وجنوده من فوضى وتخلف، وتزداد الطين بلة عندما يسب الضابط جنوده بأقذع الألفاظ، ويقوم بضرب أحدهم بالشلوت على مقعدته.

ومما لا شك فيه، أن هذا الفيلم واحد من أفلام صهيونية كثيرة، قصد منها التأثير على الأوروبيين، وتشويه صورة العربي أو المسلم، ولتجعل المواطن الأوروبي أو الأميريكي وغيرها في صف اليهود، ومتعاطفاً مع إسرائيل، دولة الحضارة والمدنية في صحراء التخلف العربي، والهمجية الإسلامية.

ماذا فعلنا نحن؟! لا شيء. إعلاميونا مشغولون بترهاتهم، ورحلاتهم، وحفلاتهم، ومشتريات زوجاتهم.

رواية نجيب الكيلاني هذه "دم لفطير صهيون" ماذا ينقصها لتتحول إلى فيلم، لا سيما وأنها مدعمة بالوثائق، وتحويلها إلى فيلم سيعيد ترتيب الشخصيات فيها. وفي تصوري إن أبرز ثلاث شخصيات في العمل السينمائي ستكون: داود هراري، التاجر اليهودي الكهل، والذي يمثل رمز الجشع والغش والخداع وذلاقة اللسان، واقتناص الأموال من أي طريق كانت، مع التظاهر بالبراءة والاستقامة. وشخصية كاميليا، زوجته الحسناء اللعوب، ذات الثلاثين ربيعاً من عمرها، والتي تصغر زوجها بأكثر من عشرين سنة، وهي تمثل الانحراف الجنسي، والخلاعة والفجور، بعد أن أقامت علاقة مع خادم الأسرة، الفتى الوسيم مراد، وبعد أن عجز زوجها عن تلبية حاجات جسدها الفائر. وهو خط مهم في حياة اليهود. والشخصية الثالثة، مراد، خادم الأسرة، والذي يخون سيده – مع إحسانه إليه – راضخاً لرغبات الزوجة المستهترة كاميليا، فيخونه مع زوجته، في قاعة مظلمة عفنة – كحياتهم منذ الأزل – ليمارس فيها الفجور مع الزوجة اللعوب، جنباً إلى جنب، مع الصراصير ونسخ التلمود والتوراة القديمة.

أما الشخصيات الأخرى فهي ثانوية، وإن كان أبرزها شخصيات الحاخامات، والتي تمثل الخط الديني العقائدي الذي يُسَيَّرُ حياتهم.

وستبرز أحداث وصور الجشع اليهودي، والخداع، والفجور من خلال تحرك هذه الشخصيات مجتمعة.

وإذا قُدر لهذا الفيلم أن يرى النور، يكون الإعلام العربي قد قدم مساهمة جادة في كشف أبعاد الشخصية اليهودية، وخطورة هذه التجمعات اليهودية على أي مجتمع، وهي صورة يعرفها العالم، حتى من قبل شخصية " شيلوك " التي تحدث عنها شكسبير في مسرحيته " تاجر البندقية ".

ومن خلال الرواية – أو الفيلم لو رأى النور – سنلاحظ النقاط البارزة التالية:

‌أ-           الغرفة المظلمة السفلية، المليئة بالرطوبة والصراصير وربما الفئران، وما فيها من غبار وكتب قديمة، ونسخ من التوراة والتلمود، والتي كانت تدفع بها كاميليا الملل والقلق عن نفسها، وهي تنتظر عشيقها وخادمها مراد لتطارحه الغرام، وتلطخ شرف زوجها. صورة للظلام الذي يتحرك فيه اليهود، والسرية القاتلة في جو من القذارة والعفن، وبما توحي به من أساليبهم في الحياة والتعامل.

‌ب-      الحاخامات والكتب المقدسة، ارتباط مستمر ووثيق بالقديم، وشد الناس إليه باستمرار، وإن كان فيها شيء ليس مفهوماً، أو لا يقبله عقل، ولا ترتضيه نفس سوية – ثم يرمون الإسلام بالرجعية – فمن أين يكون في التوراة التي أنزلت على موسى نص يأمر بذبح النصارى، والمسيح عليه السلام – ولد بعد موسى – عليه السلام – بسنين؟! ورغم هذه المخالفة التاريخية، يقدسون النص، وينفذونه قربى إلى ربهم!!

جـ- الإنعزال في حارات خاصة بهم في كل مدينة، تعرف بحارة اليهود، وهو مجتمع مغلق، مخيف، كله غموض وأسرار، ومباءة للجنس، وللفجور، وما تشيعه هذه الحارات من مفاسد في المجتمع، حيث الطبل والغناء، والحوانيت المفتوحة للشباب، لاقتناص اللذة مع نسائهم وفتياتهم. (أثر المستوطنات الحديثة لا يقل عن الحارات القديمة، مع إضافة قوة السلاح).

‌د-          رضى اليهود أن تكون حواريهم (كباريهات) في شكل بيوت، وراقصات باسم زوجات وبنات، كل ذلك من أجل المال، والسعي لإفساد المجتمعات، وتجنيد جواسيس ومتعاونين، في طريق تطبيق بروتوكولات حكماء صهيون، وصولاً إلى إقامة دولتهم الكبرى، والسيطرة على العالم، وتحقيق نبوءة التلمود، أن اليهود أسياد العالم، وسائر الناس – نصارى ومسلمون وغيرهم – ما خلقهم الله إلا حيوانات لخدمة اليهود، شعب الله المختار.

هـ-  الجريمة كمرتكز أساسي في حياتهم، معتمدين على التلمود الذي فيه نصوص غير عقلانية، وهذه النصوص تجعل كل قتل عندهم عملاً مقدساً يثابون عليه، ويرضي الرب عنهم. فكيف يتم السلام والوئام معهم في ظل هذه التعاليم المقدسة عندهم، وهي باقية، يقدسونها، ويتلونها في صلواتهم واحتفالاتهم؟!

‌و-         الرشوة، طريق ثانية – الأولى المرأة والجنس – لتحقيق مآربهم، وتخريب ذمم الناس، ونيل كل ما يطمعون فيه، ويطمحون إليه، وكيف نجحوا في ذلك أيما نجاح، قديماً وحديثاً، وخطورة ذلك على المجتمعات التي تتعامل معهم.

‌ز-         حارات اليهود، هذه الكنتونات المغلقة، التي تستعصي على الذوبان، ومن هنا يستحيل الاندماج في مجتمعات أخرى، وبالتالي التعامل مستقبلاً كمواطنين، ولاؤهم للوطن الذي يقيمون فيه، فولاؤهم أبداً لإسرائيل، وإن رأى الناس غير ذلك، فهي وسائل خداع، ومراحل تكتيك، وصولاً للهدف الأعظم.

هذه بعض معطيات هذا العمل الكبير الذي أبدعه قلم الروائي الشهير الدكتور نجيب الكيلاني في روايته "دم لفطير صهيون ".