"القوقعة": مجازر التعذيب في شرق الـمتوسط

يتلذذ الجلادون في ساحة التنكيل الـمركزية في السجن الصحراوي بتعذيب مئات الـمساجين الذين يقضون سنين طويلة من دون محاكمة. يطلبون منهم الركض في دائرة تحت شمس آب القائظة وهم شبه عراة منكسو الرؤوس، مغمضو العيون، والسياط تسلخ جلودهم الـمحمرة. يتلهى ضابط نوبة التعذيب ويطلب من أطول السجناء الـمثول بين يديه. يشتمه ساخراً: "... انتي بني آدم أو زرافة"، يقهقه زملاؤه. ثم يطلب منه إكمال الدوران وتقليد صوت الزرافة، ثم نباح الكلب، ثم نهيق الحمار. وخلال ذاك ينادي على اقصر الـمساجين طولاً للـمثول بين يديه. يجر زبانية التعذيب هذا الاخير ويقف مرتعبا أمام الضابط الذي يطلب من أطول سجين أن يواصل النباح كالكلب وأن يعض القصير من كتفه ويرفعه بين أسنانه حتى ينتزع قطعة لحم منه وإلا ... فسيكون عقابه ألف كرباج! يعوي الطويل بتواصل وينحني على القصير مطبقا بكفيه على كتفه، فيبدأ بالصراخ ألـما محاولا التملص، فيفلت. ينهال الزبانية على الاثنين بسياط لاهبة على الجسدين العاريين، فيعيد الطويل الكرّة بيأس وعنف ويواصل عض كتف القصير. يضحك الضابط وزبانيته ويقهقون. ثم يعرون الاثنين وتبدأ قذارة أخرى بالطلب منهم إتيان بعضهم البعض تداولاًّ!

يلتهم القارئ الصفحات التي تقترب من الأربعمائة في هذه الرواية/النص التي تصور جزءا من التاريخ الأسود للاستبداد والعنف الـمشرقي. مرارة تجر إلى مرارة ووصف دقيق لـ "آليات" تعذيب، وإذلال، وإهانات، وتعرية للروح والجسد لا تخطر ببال الشياطين. بشاعة ما في النص الـمبدع تؤرخ لحقبة وتجربة حقيقية مرّ بها عشرات الأولوف من الشباب العرب وهم في ريعان عمرهم. أطباء ومحامون ومهندسون ومثقفون كان يُطلب منهم الانبطاح تحت وابل السياط الـملعونة التي تأكل من أجسادهم ليشربوا مياه بالوعات الـمجاري الـمفتوحة. عدد من الذين رفضوا الانصياع للأمر تمزقت أجسادهم تحت التعذيب وماتوا. يرصون في الزنازين كالحيوانات، ويخنقون في روائح العرق، والدم النازف والـمراحيض والبول. مئات منهم انتهوا بإعاقات دائمة، فقدوا البصر أو السمع، أو اصيبوا بالشلل التام. الذين قدر لهم البقاء على قيد الحياة كانوا يهتفون في طابور الصباح والـمساء بحياة الزعيم وحكمته وبطولاته ضد إسرائيل والإمبريالية! 

رواية، أو "يوميات" "القوقعة" للسوري مصطفى خليفة الصادرة عن دار الآداب تكاد تتجاوز رائعتي عبد الرحمن منيف "شرق الـمتوسط" و"شرق الـمتوسط مرة أخرى"، على ما مثلتاه من ذرى التوصيف الروائي للتقليد الـمشرقي في التعذيب والتفنن فيه. لا يهم هنا كثيرا أن تنطبق خصائص الصنعة الروائية على النص الذي بين أيدينا، فالكاتب الذي لـم يكن يوما ما روائيا، ولا هو يريد تقديم رواية بالـمعنى والتعريف التقني. هو يريد نقل ما شهدته عيناه وحفظه عقله خلال سنوات السجن "متلصصا" على الجحيم الذي كان يواجهه ألوف السجناء. أهمية النص الفائقة تكمن في شخوصه وضحاياه وجلاديه حقيقيون. ليس ثمة استعارة هنا، ولا بناء شخصيات درامية او حبكات. الواقع أكثف من كل ذلك بكثير ... وصادم أكثر من أي جنوح خيال.

بطل النص، أي الكاتب، مخرج سينمائي شاب عاد إلى بلده بعد استكمال دراسته في فرنسا يشده الشوق والحنين، والرغبة في إعادة اكتشاف الوطن بعين الكاميرا. لكن ما إن تطأ قدماه الـمطار حتى تبدأ الكارثة، إذ يعتقله رجال الأمن بكونه خطرا على النظام، إذ كتب فيه أحد الـمخبرين تقريرا بأنه تطاول على الحكم وهو في الغربة، ومن لحظتئذ وتشرع في وجهه بوابات الجحيم والتعذيب الذي يخلع القلب. لا وقت لدى جهات الأمن للتحقق من قصته فيضم سريعا، وهو الـمسيحي والـملحد، إلى مساجين الإخوان الـمسلـمين ويقضي سنوات سجنه الطويل معهم. 

ينزوي في "قوقعته" التي يبنيها حول نفسه، جدارها الأول ينتصب بينه وبين سجانيه الذين يحتقرونه لكل الأسباب، وجدارها الثاني مع زملائه في السجن الذين يحتقرونه لإلحاده ويتوعده متعصبوهم بإقامة الحد عليه وقتله. قوقعته بطانية يضعها فوق رأسة كخيمة صغيرة طوال الوقت مدعيا الجنون. كان موقعه في مهجع السجن الـممتلئ بعشرات السجناء محاذيا الجدار القريب من الباب. وفي يوم ما صفق أحد السجانين باب الـمهج بغضب وقوة فسقطت من جانب الباب الحديدي قطعة اسمنتية صغيرة احدثت ثقبا يطل على ساحة السجن الـمركزية حيث حفلات التعذيب، وحيث تقام الـمحاكمات العسكرية السريعة، وتنفذ الإعدامات. من ذلك الثقب سجل "الـمتلصص" في ذاكرته الدقيقة أهوال قيامة الاستبداد وساديته. كان يغطي رأسة ويتجه نحو الحائط مغطيا الثقب أيضا، قاتلا يومه في الـمراقبة الـمرعبة. 

بين الفترة والأخرى تأتي طائرة هيلوكبتر، يسميها السجناء "طائر الـموت"، تحمل فريق الـمحكمة العسكرية وقوائم من يُراد محاكمتهم. تتم كل الإجراءات في الساحة والـمتلصص يراقب. يراقب كيف تنجز كل محاكمة خلال دقائق، وكيف يكون الحكم الوحيد هو الإعدام، ثم التنفيذ فورا. هناك مشانق جاهزة تجر إلى الساحة حيث يقف الـمحكوم عليهم بالإعدام، وعوض رفعهم للـمشانق يتم حني الـمشانق باتجاه رؤوسهم وإحاطتها بالحبال، ثم يعيد الزبانية وضع الـمشانق إلى وضعها العمودي فترفع الـمشنوقين الذين يترنحون ويصرخون إلى ان يلفظوا انفاسهم الأخيرة. هناك من كانوا سيئي حظ تطول مدة شنقهم وترنحهم قبل أن يموتوا، فيعمد واحد من الزبانية إلى شدهم من أرجلهم إلى أسفل لـمساعدة حبل الـمشنقة على القيام بدوره. 

فداحة نص "القوقعة" وتفاصيله الـمذهلة تكمن في كونه سردا ليوميات حقيقية أتيح لصاحبها أن يرى الحياة ثانية خارج السجن. مع آخر صفحة، أو صفعة، من صفحات هذه الشهادة القاتمة تهجم على القارئ آلاف الأسئلة: لـماذا، وكيف يخرج بعض البشر إلى درجات سادية تتجاوز التخيل ضد أبناء شعبهم، أو حتى أي بشر آخرين؟ ألـم يكن بالإمكان الاكتفاء بالسجن الطويل؟ لـماذا الإصرار على تحويل الأفراد إلى حطام من الكراهية، والحقد، والتشظي التام، والرغبة في الانتحار، والنقمة على كل شيء له علاقة بالوطن. مصطفى خليفة ودع باريس التي كانت تفتح ذراعيها إليه وتعده بمستقبل مشرق كي يعود إلى بلد حن إليه وعشق رائحته. لكنه عندما خرج من السجن الرهيب كان قد غرق في "قوقعته" إلى الأبد. أماتوا فيه الإنسان والروح والرغبة في الحياة. في الصفحة الأخيرة من سردية الحزن والـمرارة هذه يقول: "قضيت هناك داخل قوقعتي في السجن الصحراوي آلاف الليالي أستحضر وأستحلب الـمئات من أحلام اليقظة. كنت أمني النفس أنه إذا قيض لي أن أخرج من جهنم هذه، سوف أعيش حياتي طولا وعرضا وسأحقق كل هذه الأحلام التي راودتني هناك. الآن ها قد مضى عام كامل (على الإفراج). لا رغبة لدي في عمل شيء مطلقا. أرى أن كل ما يحيط بي هو فقط: الوضاعة والخسة ... والغثاثة!"

وسوم: العدد 835