مصادر الخيال الأدبي "بدايات وتاريخ ومؤثرات"

* تاريخ آدم عليه السلام في الملأ الاعلى

ما هي قصة وجودنا وحكاية خلقنا؟! نعم من هنا كانت البداية (إني جاعل في الأرض خليفة)، لنتابع ذلك من خلال آيات الله الكريمة في كتابه العظيم التي فصلت لنا ذلك:

قال تعالى: (والله أنبتكم من الأرض نباتا، ثم يعيدكم فيها، ويخرجكم  إخراجا) (1) ، وقوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخركم تارة أخرى)(2).

وهذا العلم إخبار عن مصدر طينه آدم عليه السلام، ثم أعلم الله الملائكة بخبر خلق آدم.

قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم مالا تعلمون)(3).

ثم خلق الله آدم وعلمه الأسماء كلها، ورفع مقامه وقدراته في العلم والتعلم المباشر من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: *(وعلم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة، فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء أن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهُم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم أني أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)(4).

وبعد أن أكرم الله آدم بالخلق القويم، وعلمه من العلم ما ينفعه ويجعله قادراً على التميز، أرادت حكمه الله سبحانه أن تكشف أمرا مكتوما في نفس إبليس، فجاء أمر الله للملائكة بتكريم آدم والسجود له، وهو سجود طاعة لأمر الله، يكشف غيظ إبليس وحسده لآدم حين رفض السجود، وأعماه حسده لآدم عن طاعة الله سبحانه وتعالى، والخضوع لأمره  *(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)(5)، وجاء أمر الله سبحانه وتعالى إلى آدم بالسكن في الجنة، وحذره من عداوة الشيطان، وطلب منه الامتناع عن الأكل من شجرة محددة، فأزله الشيطان فأكل من الشجرة، ووقع فيما حذره الله منه، *(وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكُلا منها رغدا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فأزلهما الشيطان عنها، فأخرجهما مما كانا فيه)(6)، وقع آدم في الخطأ، وندم على ما حصل منه، وتاب إلى الله فتاب الله عليه، وجاء أمر الله بخروج آدم من الجنة، ونزوله إلى الأرض، وبذلك انتهى تاريخ آدم في الملأ الأعلى.

  • تاريخ آدم عليه السلام في الأرض

بداية التاريخ بـ(الإنسان النبي)

وهكذا انتهت تلك المرحلة، ليبدأ آدم وزوجه وذريته تاريخاً جديداً على الأرض يحقق فيه خلافته في إعمارها قال تعالى:

*(وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين)(7).

*(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم)(8)

*(إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، وإن من أمه إلا خلا فيها نذير) (9).

*(قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(10).

وعندما قضى الله أمره بهبوط آدم وزوجه عليهما السلام إلى الأرض، كان ذلك إيذانا ببدء التاريخ البشري على وجه هذه الأرض، ومع قدوم هذا الضيف الكريم التائب أبو البشرية (آدم وزوجته عليهما السلام)، حيث أُخرجا من الجنة وعالم الخلود والسرمدية، وأُهبطا إلى عالم الزمان والمكان في الأرض، حيث جعل الله منها موطنا مؤقتا لآدم وذريته قال تعالى: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين)(11)، وبذلك أصبح الجنس البشري أسيراً (للسنن الكونية) التي تحكم الأرض ومؤثرات الحياة عليها، بعد أن حُجبا عن (عالم الجَنّة)، وطنهم الأول، وهكذا التقت في حياة آدم عليه السلام وعقله تجربتان من عالمَيْن مختلفين، هما: تجربته في (عالم الغيب)، حيث التعليم والتكريم والاختبار والجنة والإغواء من الشيطان والخطأ والتوبة وقبولها وصدور الأمر بهبوطه إلى (عالم الشهادة)، ليكون هو وذريته خلفاء في الأرض.

نبحث عن بداية التاريخ على وجه الأرض لأهميته في تفسير الحياة، وكيف بَدأ الخلق، وهو أمر رباني للإنسان، بالبحث عن بداية التاريخ لقوله تعالى : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير) (11)

(3) وبهذا تكون مصادر العلم عند آدم وذريته محصورة في علمين هامين هما :

  1. (علم الوحي عن عالم الغيب .)
  2. (علم العقل عن عالم الشهادة .)
  • العلم الأول (علم الوحي)

وهو العلم المنقول من الله سبحانه وتعالى، بوساطة الأنبياء والرسل الكرام إلى الناس، وكان آدم عليه السلام هو النبي والرسول الأول لذريته، وكانت وظيفتهُ وظيفةُ الأنبياء من ذريته من بعده إلى يوم الدين، هي تبصير الناس وتعليمهم في القضايا التي يعجز العقل البشري في البت بها، لأنه لا يملك عنها علماً، كالمعرفة بحكمة وجودنا في الحياة، ومقصد وجودنا منها، وهي عبادة الله سبحانه وتعالى على علم منه ومن رسله، وتحديد العَلاقة بين الخالق والمخلوق بعيدا عن أهواء البشر، وبما يريده الله من العبادة ويرضاه منهم، ثم علاقة الخلق ببعضهم، وتعليم كيفيات العبادات والطاعات التي يريدها الله من الخلق، من خلال حقائق الوحي وأمره، ولهذا جاء الأنبياء ليعلموا الناس حقوق الله على العباد، وحق العباد على الله، والتشريع للحياة بما أحل الله لهم أو حرم عليهم، وضبط الحياة بموازين العدل والقسط والشريعة بما يرضي الله، ويحفظ نظامها الخاضع لأمره، وحماية الناس من الفوضى، وتضارب العقول والأهواء، وتفسير الحياة، والإجابة على الأسئلة الكبرى التي تقلق الجنس البشري، ومنها السؤال الكبير الأكبر الذي يعيشه ويردده الجنس البشري من كل جيل من الأجيال، لماذا جئنا إلى هذه الحياة؟ ومن أوجدنا فيها؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟

ونلاحظ أن وظيفة العقل البشري في هذا العلم هي في استيعاب وفهم وفقه الأمر الرباني ومقاصده، والاجتهاد لذلك بأقصى درجات الاستطاعة، ودون تحريف أو حذف أو زيادة في ذلك، كما وردت في مصادرها من (رسالة الوحي لأنبياء الله)، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بإرسال الرسل الهداة إلى جميع الأجيال البشرية في القضايا التي لا يملك العقل البشري عنها علماً، لأن العقل البشري لا يملك علما عن عالم الغيب، إلا ما يتلقاه من علم الوحي والأنبياء، ومن خلال المقدمات والنتائج التي يفهمها العقل من نصوص الوحي المنقولة، واستخراج الفقه بشروطها وضوابطها الفقهية، ومن المصطلحات التي تطلق على هذا العلم (علم الوحي)، ومنها ما اشتهر عند العلماء (علم المنقول أو علم النقل) أو (علم الكتاب المسطور)، ويمثله في الرسالة الخاتمة للبشرية (القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة).

2- العلم الثاني (علم العقل لعالم الشهادة)

وهو العلم الذي وكل الله سبحانه وتعالى فيه العقل البشرى مهمة اكتشاف سننه وموازينه في الواقع الأرضي والحياة، والبحث عن سبيل العيش وتيسيرها، لأعمار الأرض وتسهيل خلافة الإنسان فيها، وذلك من خلال اكتشاف السنن والقوانين التي تحكمها، حيث يقوم (العقل البشري) الذي زوده الله بالطاقات الهائلة التي تمكنه من التعرف على (عالم الشهادة) من خلال (الحواس الخمس) التي تجمع له المعلومات، و(الدماغ )الذي يحللها و يحاكمها ويفهمها ويتأكد من قوانينها وحقائقها، و(القلب) الذي يدرك قيمتها وأثرها وخطرها، ووجه المصلحة للإنسان فيها، حتى يتمكن العقل من تنزيل علوم الوحي وأوامره في المقام السليم من تعمير الحياة مرتبطاً في ذلك بٍنِيّة العبادة والطاعة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ويدرك هذا العقل أن (الدنيا مزرعة الآخرة)، وعليه أن يحسن العمل في هذه المزرعة حتى يحصل على الثمار الطيبة منها في الآخرة، التي هي مقصد وجودنا في هذه الدنيا.

وعلى العقل أيضا أن يدرك أن من وظائفه أن يتعرف أيضا على عظمة الله من خلال عظمة إبداعه في خلقه ومخلوقاته المبثوثة في آفاق السماوات والأرض، ليتعلم فضل الله عليه، ويتعلم شكر الله على نِعمِه بعد إدراكها والإقرار بها.

والملاحِظ يدرك أن العقل البشري يتعلم من سنن الله وقوانينه التي غرسها في خلقه، ويحولها إلى نِعم ومكتشفات ومخترعات، تُيَسر حياته وحضارته وخلافته على الأرض، وذلك حين تَعلم صناعة (الطيران من الطيور)، (والسفينة من الأسماك)،            (والرادار من الخفاش)، (والإذاعة من طبقات الجو)، (والكمبيوتر من الدماغ البشري)، (ومكبر الأصوات من الأذن)، (وآلة التصوير من العين)، (والطائرة العمودية من البعوضة)، إلى آخر هذه المخترعات التي لا حصر لها، وبذلك يدرك الحقيقة ويعرف أن مصدر العلم هو من عند الله سبحانه وتعالى، فالله يعلمنا من علمه إما بكلامه وعلمه المباشر من طريق (علم الوحي)، أو من علمه الذي أودعه في مخلوقاته في السماوات والأرض، وفي أرجاء الكون من طريق (علم العقل)، وتوظيفه في خدمة الإنسان، ويسمى هذا العلم المدرك عن طريق العقل في ما اشتهر من مصطلحات العلماء (بعلم العقل أو علم المعقول أو علم الكتاب المنظور)، لأنهم شبهوا الكون والمخلوقات بالكتاب المفتوح للتعلم أَمام حواس الإنسان وعقله، قال تعالى: (أولم يرى الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون، وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم، وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون، وجعلنا السماء سَقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون، وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون)(13).

وقد أشاد أحد الشعراء في تفاعله مع هذا المشهد الكوني العظيم الذي رسمته الآيات الكريمة بقوله:

فذا الكون جامعة الجامعات            وذا الدهر أستاذها المعتبر(17)

  • مصطلح الواقعية الإسلامية

الأرض هي الوطن (المنفى) والمؤقت للجنس البشري، وذلك بعد نزول آدم عليه السلام وزوجه إليها، وتكاثر ذريته فيها وانتشارها في الأرجاء، وهي مزرعة الآخرة، ومجال اختبار أفعاله، التي تؤهله للعودة إلى وطنه الأصلي (الجنة)، ومن هنا ندرك ونتفهم الواقعية التي تعلم الإنسان أن يعيش على الأرض التي يدركها بحواسه، وهو يعلم في ذات الوقت أن هذا الواقع الملموس له جذور ممتدة، ومغرقه في عالم الغيب، و أن إنكار (عالم الغيب) هو نوع من ممارسه الغباء المنهجي، والعمى الفكري، ووهم الذات الذي يغذيه العناد الأجوف، وأن الواقع المتحقق حقا وفعلا ووجودا هو (عالم الشهادة وعالم الغيب الذي يختبئ وراء)، لأن (الواقع الحسي) أشبه برأس جبل الجليد، والغيب المخفي أشبه ببقية جبل الجليد الضخم الذي يغمره ماء البحر، أو هو أشبه بالشجرة جذورها المخفية في باطن الأرض، تشبه (عالم الغيب)، وساقها وثمارها وأغصانها تشبه (عالم الشهادة)، ولهذا فالواقعية في المفهوم الإسلامي تقوم على وصف حاله التجاذب والترابط بين المرئي والمخفي في فهم مصطلح (الغيب والشهادة)، دون فصل أحدهما عن الآخر وتأصيل الاعتراف بالحقيقة الكاملة للوجود من (الشهادة والغيب).

وأن ندرك أن الشرط الموضوعي الأول: لهذه الواقعية يقوم على عدم القفز عن قطبي المعادلة، لأن (القطب الأول عالم الشهادة) هو الذي يشكل البوابة العظيمة التي ندخل منها إلى (القطب الثاني عالم الغيب)، وذلك بحكم الخضوع لحقائق الواقعية، ومنها إحساس الحواس، وارتباطها بعالم الشهادة أولا، واكتشافها وتعرفها على (عالم الغيب) يأتي بعد تعرفها على (عالم الشهادة) تاليا وثانيا، فالدنيا مزرعة الآخرة، ومن ضيع مزرعته ضيع آخرته، وآيات القرآن الكريم تعلمنا أن الإنسان لا يعيش معلقاً بين السماء والأرض، بل هو ابن الأرض ومن طينتها خُلق، قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكفِ بربك أنه على كل شيء شهيد)(14).

فسطح هذه الأرض هو مستقر هذا الإنسان، وهي مَرْساه، وموطئ قدمه، ومكان خلافته، وإشباع حاجاته ورزقه، وهي التي تستثير عقله ورغباته للتطور، وتتحرش به للاستجابة، ومنها يتعلم التفكير والاكتشاف والاختراع والتجريب، وفيها يدرك نعم الله حين سخر له المخلوقات، وذللّها لخدمته، وهذه الأرض دليلهُ إلى معرفة الخالق، وإدراك عظمته من خلال التفكير في مخلوقاته، ومنها يطل على السماء، فيستشرف عظمة عالم الغيب، فيها خلق وعليها درج، وإلى باطنها يعود، ومنها يبعث قال تعالى: (فيها تحيَون وفيها تموتون ومنها تُبعثون)(15). وهو محكوم بقوانين الزمان والمكان، والسنن التي تحكمها. وهذا الإنسان بدون الواقع الأرضي هو أشبه بآلة خُلقت لعدم الاستعمال تكون نهايتها الاندثار.

(٥) علم الوحي يعلمنا الواقعية والتوحيد

من هذه الأرض بدأ التاريخ البشري، وهذه حقيقة الواقع الأرضي، كما عرَفها آدم عليه السلام وزوجه يوم نزولهم من عالم الغيب (من الجنة)، ويوم غادرها وهو يحمل وعد الله سبحانه بإرسال الأنبياء والرسل الهداة لذريته على الأرض من بعد، وكذلك عرفها الأنبياء والرسل وأتباعهم من بعدهم، حتى انتهى ميراث النبوة وعلمها إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، والى أمته من بعده، لأن رسالته خاتمه لكافة للناس ولكل الأجيال إلى يوم الدين، ولذلك ولد العقل المسلم منذ اليوم الأول لنزول آدم إلى الأرض، عقلا راشد مميزا متصلا بالله، ينظر إلى المخلوقات من حوله نظره تقدير، ويأنس بها، لأنه يعتبرها من نعم الله التي سخرها له لخدمته، وتيسير خلافته على الأرض، وهو يرى أن هذه المخلوقات تشاركه العبودية والطاعة لله سبحانه وتعالى، ولذلك لم يقع يوما في عبادتها، ولم يخف منها، ولم تختلط عليه الأمور لوضوح عقيدته في توحيد الله وعبادته وطاعته، ولأن العقل المسلم ولد موحدا، لم يقع في الحالة المرضية التي تقدس قوى الطبيعة، وتعبدها وتصنع لها الآلهة، لأنها تجهل هذه الأشياء وتخاف منها.

ومن عهد آدم عليه السلام إلى آخر موحد على هذه الأرض يعيش عقل المؤمنين بالله مدركا لحقائق الواقع، بكل موضوعية ووضوح، ودون لبس، وهو يدرك أن هذه المخلوقات تعبد الله وتشاركه العبادة، ولم يتوهم يوما ما أنها قوى خارقه يحتاج إلى أن يتقرب إليها، أو أن يخاف منها، لأنه يعرف خالقها ويعبده، ويحتمي به من شرها، ومن شر ما خلق، لأنه يدرك حقائق الحياة على هذه الأرض ويحترمها، وهذه الأرض مركز خلافته ومختبر نوايا ومزرعته للآخرة.

هذه الواقعية تَعلمها المسلم من كتاب الله، ليطل منها وبها على (عالم الغيب)، ويتأمل الكون والمخلوقات من خلال (علم الوحي) و(علم العقل)، عن حقائق الحياة المادية، هذه الواقعية التي تستند إلى قاعدة راسخة في العلم والمعرفة تقول:

أن الكون وما فيه من خلق الله، والوحي وعلومه وكلام الله وكتابه، والعقل هو ميزان الله في هذه الأرض، ولن تتصادم (حقائق الكون) مع (حقائق الوحي) داخل هذا الميزان (العقل)، لأنهما من مصدر واحد هو الله سبحانه وتعالى، إلا إذا وقع هذا (الميزان) تحت تأثير الهوى والمصالح ونقص العلم الدقيق بحقائق (علم الوحي)، أو بحقائق (علم الكون)، والعقل هو القوه المدركة (لعلم الوحي ولعلم الكون والحياة)، و(علم الوحي) هو دليل هذا العقل ومنهاجه في توظيف طاقات هذه القوة المدركة، واستثمارها فيما يفيد، وهو أي (الوحي) الذي يحمي قوه (العقل) من التبدد والتخبط فيما لا ينفع، وذلك حين يضع لهذا العقل (محاور الهداية) التي يسير عليها، فيحميه من الضلال، ويضيء له طريق التفكير السليم والسلوك القويم، هذا هو (العقل المتصل) عقل الإنسان المسلم، وذلك هو العقل الذي أنس بالمخلوقات، وأدرك أنها من نعم الله الكثيرة التي سخرها لخدمته، وتيسير عيشه على هذه الأرض، وهو يدرك أن هذه المخلوقات تشاركه الطاعة والعبادة لله سبحانه وتعالى، لذلك لم يخف منها ولم يصنع معها علاقة الصراع والعداوة، ولا عبدها ولا خضع لها، بل استثمرها واستفاد منها في حدود ما سمحت له خبرته، ولم يقع فيما وقع فيه (العقل المنفصل) عن طاعة الله حين نَظر إلى الأشياء من حوله فخاف منها وتقرب إليها وعبدها أو هرب منها أو صنع معها علاقة الصراع واعتبرها عدوة له لأنه يجهلها، ولا يملك العلم عنها بينما كان العقل المسلم يقول للكائنات من حوله ربي وربك الله.

إما (الشرط الموضوعي الثاني): لهذه الواقعية فهو التأكيد على القطب الثاني للواقعية الإسلامية، ألا وهو (عالم الغيب)، الذي يشكل البعد الثاني الحقيقي العميق لهذه الواقعية، حتى تكتمل صوره الواقعية الإسلامية بشقيها وقطبيها (الشهادة والغيب)، لأننا نخالف الواقعية المادية العوراء التي لا تعترف بعالم الغيب وتتجاهله بل واشتطت في إنكاره، حتى أوصلها عماها المنهجي إلى فرضية تعريفها للعلم على منظمة دولية (كاليونيسكو)، التي يفترض أنها تمثل بحياد الثقافة الإنسانية بكامل أطيافها، ولكنها بذلك تثبت انحيازها لثقافة (العقل المنفصل)، بل وتكشف خضوعها لثقافة هذا العقل وسيطرته عليها، حين تبنت هذا التعريف للعلم ونص التعريف يقول: (العلم كل معلوم تم علمه عن طريق الحس أو التجربة)(16)، وهذا يتناقض مع تعريف العلم في المفهوم الإسلامي الذي يقول نصه: (هو كل علم تم أخذه عن طريق الوحي أو الحس أو التجربة)(17). لأن علم الإنسان مرتبط بقدرة الحواس الخمس التي لا تدرك إلا من خلال (درجات محدودة)، ولذلك فليس من العلم ولا من الحق إنكار العوالم الغائبة عن قدره الحواس، سواء كانت فوق درجات هذه القدرة أو تحت درجات هذه القدرة.

ونلاحظ أن القرآن الكريم يشبه علم الحواس عند الإنسان ومحدوديته بغطاء الغواص، إذا رفع عنه تكشف له ما كان غائبا عنه، قال تعالى عن منكر الغيب عندما يموت ويرى ما حجب عنه من عالم الغيب في دنياه: (لقد كُنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد)(18). فغطاء الغواص يمنحه القدرة على الرؤية في الماء وكذلك الحواس الخمس تمنح الإنسان رؤيته للدنيا فقط، وهي أيضا مصممة لذلك فقط من خلال درجات قدرتها، ولكنها محجوبة عن عالم الغيب وحقائقه بتلك الدرجات التي خلقت عليها، فهي لا تستطيع أن تدرك (ما تحت هذه الدرجة ولا ما فوقها) لأنها مرهونة بهذه القدرة.

ولذلك فالواقعية الإسلامية تعتبر عالم الشهادة بوابة وعتبة ندخل منها إلى علم عالم الغيب، وبذلك نجمع من علم الله ما عُلمنا عن طريق (الوحي والأنبياء) صلوات الله وسلامه عليهم، وما يعلمنا الله من مخلوقاته مما أودع فيها من سن وقوانين عن طريق فقه (عقولنا)، أو عن طريق اكتشافها للكون والحياة عبر تراكم تجاربنا فيها.

هذه هي الواقعية الإسلامية، إنها واقعية مبصرة حقيقية متوازنة، ليست عمياء ولا عوراء، لأنها تؤمن (بالواقع القريب) المكشوف الذي يقع في متناول الحواس، وتؤمن (بالغيب الممكن) الذي يمكن أن يتحول إلى واقع إذا تقدم عقل الإنسان وحواسه في صناعه الأدوات المساعدة التي تمكنه من اكتشاف الظواهر المحيطة به، لأنها تزيد من قدرة الحواس وتُيسر لها متابعة هذه الظواهر، وتؤمن هذه الواقعية (بالغيب المغلق) الذي لا علم لنا عنه إلا ما علمنا الله إياه عن طريق (الوحي والأنبياء)، قال تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) (19).

(6) مراحل علم الإنسان وتكوينها في عقله

يتطور علم الإنسان في اكتشاف الحياة والأشياء والكائنات، واستيعاب العلوم والثقافات وتفاصيلها بعد أن يمر في مراحل مختلفة من التطور، وتحت ضغط الحاجة والمعاناة والتجريب حتى يصل إلى حقائقها، ويجنى ثمارها وفوائدها وقد أشار المفكر الإسلامي الكبير مالك بن نبي -رحمه الله- إلى هذه المراحل بشكل مقتضب في كتابه الشهير    (مشكله الثقافة) (20).

ومن المفيد لهذا البحث أن نتناول هذه المراحل بشيء من التفصيل المفيد الذي يخدم فكرته ويوضح فوائده، ضمن المراحل والتقسيمات التالية بهدف تيسيره وجلاء منهجه والاستفادة منه:

١. المرحلة الأولى (المرحلة الحضورية):

وهي المرحلة التي تكون فيها الظواهر والأشياء والمخلوقات والحقائق والعلوم والثقافات موجودة وحاضره في خلق الله سبحانه وتعالى، ولكنها غير واقعة ولا معلومة لدى عقولنا و حواسنا وتجربتنا وشعورنا، لأننا نجهل وجودها وليس لدينا علم عنها ولا بها، لأن العقل البشري لا يستطيع أن يدرك حقائق عالم الشهادة دفعة واحدة، فكيف بحقائق عالم الغيب البعيدة عن مجال حواسه وعقله، وحتى لا نبتعد كثيرا عن أمثله (الغيب المؤقت) الذي يمكن تحوله إلى واقع وعلم شهادة، لأنه يخضع لتطور وتجربة الإنسان في التعرف على الأشياء واكتشافها، وخير مثال على ذلك اكتشاف الزمن، وضبطه بصناعة الساعة، واكتشاف الظاهرة الكهربائية، والتعرف على وجودها والقوانين التي تحكمها، واكتشاف الجراثيم وفوائد ذلك للحياة الإنسانية، واكتشاف الأمريكيتين والعالم الجديد، وتعميره بالهجرة إليها، واكتشاف طبقات الجو وموجات الراديو وغيرها من المكتشفات، فكل هذه المكتشفات كانت حاضره في خلق الله، ولكنها لم تقع في مجال حواس الإنسان وعقله وعلمه، وجاء اكتشافه لها في فترات متأخرة، فالجراثيم مثلا كان اكتشافها محكوما بتطور العلم البشري، ومنذ اكتشاف الحسن بن الهيثم للعين والعدسات وتشريحها، ومعرفة أجزائها ووظائفها ثم مجيئ باستور الفرنسي وتطويره للعدسات، حيث وقعت هذه المخلوقات الصغيرة (الجراثيم) ضمن مجال علم الإنسان، فعلم بوجودها ولذلك سميت المرحلة التالية بمرحله الوجودية، لأنها علم بوجودها بعد أن كان لا يعلم عنها شيئا.

  1. المرحلة الثانية (المرحلة الوجودية):

وهي المرحلة التي وصل فيها علم الإنسان إلى العلم بوجود الظواهر والأشياء، لأنها وقعت ضمن مجال العقل وحواسه وأول ما علم بوجودها وتمثلت في شعوره يطلق عليها أسماء، لأن تسمية الأشياء يعني بداية علمنا بها وميلادها في وعينا وشعورنا، وهو إيذان ببداية البحث عنها والاهتمام بها، لتعميق العلم عنها وبحث وشائجها بمحيطنا وفائدتها لنا أو خطرها علينا، وهذه التسمية تعتبر بداية الاعتراف بوجود هذه الظاهرة، واندفاع الإنسان بحب الاستطلاع والمتابعة لها، وإذا انكشف له وجه المصلحة فيها ازداد إلحاحا في البحث عن تفاصيلها وجمع المعلومات المفيدة له عنها.

 

٣. المرحلة الثالثة (المرحلة التجريبية):

وفي هذه المرحلة لا يكتفي الإنسان بإطلاق الاسم على الظواهر الجديدة المكتشفة وجمع المعلومات، عنها بل ينطلق إلى البحث في التفاصيل، ومعرفة العَلاقات المرتبطة بتلك الظواهر المبحوث عنها، ومن هذه الظواهر مثلا ظاهرة الكهرباء، وظاهرة المخلوقات الدقيقة (الجراثيم)، وظاهرة طبقات الجو، وموجات الراديو، بل انتقل بهذه الظواهر والأشياء إلى مرحله البحث والملاحظة والتفحص لمكوناتها، حتى يتمكن من معرفة ومتابعة التفاصيل والقوانين التي تحكمها وتضبطها، والتعرف على إمكانية الاستفادة منها لحياته، حيث تم التعرف على (الجراثيم) وأنواعها وأطوارها ونموها وأشكالها ومنافعها ومضارها وطرق القضاء عليها، ثم تم توظيف هذا العلم في خدمه الإنسان وحمايته من مضارها، وكذلك الكهرباء وقوانين التحكم بها، وتوليدها والاستفادة منها في الإضاءة والحياة، وتشغيل المصانع، وكذلك اكتشاف القارات الجديدة والتعرف على مواقعها وخيراتها، والانتقال إلى السكن فيها، ومثله اكتشاف أبو الحسن المراكشي لعنصر الزمن، وما وقع في نفسه ومجال شعورهم في التعرف على ضبطه وقياسه، وتقسيم دوران الأرض بين الشرق والغرب والليل والنهار إلي 24 قسماً، وسماه الساعة، ويمكن تعميم الأمر كذلك في فهم علوم الوحي، وفقهها والغوص فيها بعمق، لفهم أوامر الله سبحانه وتعالى في العقيدة والعبادات والتشريع والقيم والسلوك، حين انتقل العلماء من حضور المعلومات في المرجعية، إلى تفاصيل فقهها وإدراك وجه المصالح الشرعية فيها خدمة للدين وحفظاً للإسلام والمسلمين.

٤. المرحلة الرابعة (المرحلة العلمية):

وهي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى اكتمال المتابعة والتجريب والاكتشاف للقوانين والسنن المضطردة والعلاقات التي جعلتنا نتعرف عليها، والتطبيقات التي تحكم هذه الظواهر، واستطعنا فيها بعد تكرار التجارب التي أكدت لنا صحة النتائج التي توصلنا لها، وبذلك وصلنا إلى خلاصة العلم، من خلال معرفة القوانين العلمية التي تمكننا من توظيف هذه الاكتشافات في مخترعات مفيدة ونافعة لنا، مبنية على أصول علمية مؤكدة أو فقه مؤكد لأصول ديننا.

٥. المرحلة الخامسة (اكتشاف فوائد هذه المنهجية):

هذا المنهج هو خلاصة الواقعية الإسلامية المبصرة، التي تعلم الإنسان التواضع في العلم، والخضوع لحقائق الحياة، ولا يتعلم المكابرة فينكر(عالم الغيب)، لأن ما غاب عنا وعن حواسنا وعقولنا هو الكثير، وما انكشف لنا منه (عالم الحضور) الغائب عنا، هو أقل القليل، ولا نكون كالنملة الذي أنكرت ضخامة الجبل لأنها لا تراه، وبهذا يدرك الإنسان أنه يسبح في بحر من الحضور الغائب، والخلق والسنن التي لا ندركها، فلنتعلم التواضع ولا نقع في ما وقع فيه الملاحدة الذين أنكروا (الغيب وعالمه)، ونحن لا نعلم عن سبب هذا الاستعجال في إغلاق باب العلم وقصره على (عالم الشهادة)، وما يقع في متناول الحواس، أهو الزهد في العلم والبحث عن الحقيقة، أم الكسل والركون إلى الراحة، أم هو عمى البصر والبصيرة، والاكتفاء بالدنيا بوظيفة الطعام والشراب، وانتظار الموت التي يشاركنا فيها الحيوان والنبات هذه الوظائف؟!

بل والأغرب من ذلك أن تتبنى منظمه اليونسكو تسويق هذا التعريف، الذي يقصر العلم على (ما جاء عن طريق الحس والتجربة)، هذا التعريف الذي ينكر علم الغيب والوحي والأنبياء والأديان السماوية، لدفع البشرية إلى هذا الكفر القائم على تمجيد الجهل، وإنكار عالم الغيب والحضور، وفي أحسن الاعتبارات العلمانية التي تعتبر الدين موضوعا شخصيا غير ملزم للدولة ولا للمجتمع، بل هو متروك لحرية الأفراد في أحسن الأحوال إن الإنسان لظلوم جهول.

والمنهج الإسلامي يعلمنا الاعتراف لله بالفضل والمنة، حين أوجدنا من العدم وعلمنا    (علّم الإنسان ما لم يعلم) علمه من علم الوحي، وعلمه من سننه وقوانينه في خلقه المبثوث في السماوات والأرض، ومن خلال جهود عقله في اكتشاف حقائق هذا الكون والمخلوقات.

هذا هو العقل المتصل، وهذا هو منهجه الذي ظل متصلاً بالله وبعلم الوحي، يتلقى الهداية من الأنبياء، من آدم عليه السلام وأجيال المؤمنين من أتباعهم، حتى انتهى ميراث علم النبوة، إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده، لأنها تحمل الرسالة الخاتمة للناس كافة، وفي جميع أجيالها إلى يوم الدين، من خلال مرجعية ثابتة لم يستطيع الزمان أن يلعب بها أو يحرفها، إنها مرجعية محمية من مُنزِّل الكتاب سبحانه وتعالى، متمثلة في (القرآن الكريم والسنة الشريفة) (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(21).

ويؤمن هذا العقل المسلم المتصل بالوحي بمحاور الهداية ويلتزم بها ويخضع لها، وبذلك يتعلم (الحكمة)، التي هي منهجه لأن الله سبحانه وتعالى أعطاه منهجا بهذه المحاور، وضوابط تحميه من الهوى، ويعلمه الحكمة والاتزان، ولذلك فهو يرفض (منهج الفلسفة) الذي يتبعه (العقل المنفصل)، الذي اختار الانفصال عن الدين والتلقي من الوحي، واختار حريته وفضلها واعتبرها دينه، فأوكله الله تعالى إلى (فلسفته) وذاته، يفكر ويتخبط كما يشاء، ليس له هداية ولا محاور ولا ضوابط، وهذا هو الفارق بين (الحكمة) التي تفكر من خلال منهج الإسلام ومحاور الهداية التي وضعها، وبين (الفلسفة) التي تفكر من خلال الاتكال على عقل الإنسان وطاقاته، وحيث جعل من حريته واختياره ومصالحه معبوده وهواه (أرأيت من اتخذ إلهه هواه)(22).

(7) الأدب الإسلامي قبل الرسالة الخاتمة

الأدب الإسلامي إذا أخذناه بمفهوم الآية الكريمة (إن الدين عند الله الإسلام)(23)، فإنه يعني أدب الأمم الإسلامية التي عبدت الله على دين التوحيد، من آدم عليه السلام حتى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم الأنبياء، في الرسالة الإسلامية الأممية، لأن جميع الأنبياء كان مضمون رسالتهم واحد وهو أن: (اعبدوا الله مالكم من إله غيره)(24)، فكيف عبر المؤمنون عبر حقب التاريخ عن مشاعرهم تجاه الحياة ومواقفهم ومعاناتهم؟ لا شك أنهم استعملوا اللغة التي هي أداة الأدب قال تعالى: (خَلَقَ الإنسان علمه البيان)(25)، ولكن الكتابة والتدوين هو الذي تأخر عند الإنسان، والإنسان تعلم اللغة مبكرا قال تعالى: (وعلّم آدم الأسماء كلها)(26)، لأنه جاء بالخلق المباشر من الله سبحانه وتعالى، وليس له أب ولا أم ولا بيئة يتعلم منها اللغة، ولذلك عوضه الله سبحانه وتعالى بالتعليم المباشر، وكانت حياة الإنسان على الأرض في بدايتها تقوم على الكلمة المسموعة والمشافهة، ولأنه لم يتوصل إلى الكتابة والكلمة المكتوبة إلا في فترات متأخرة من التاريخ، ولذلك ضاع كثير من علم الإنسان وتجاربه وثقافته وآدابه وفنونه، وطواها النسيان لتأخر الكتابة والتدوين.

لكننا نعود ونقول أنه منذ أن نفخ الله سبحانه وتعالى الروح في آدم عليه السلام، وجعل له قلباً ينبض بالحياة بين جنبيه، والإنسان يحمل مشاعره، ويشعر بموقعه تجاه الحياة والأحداث ويعبر عن نفسه وهمومها، وهذا هو الأدب بعينه، أنه باروميتر يقيس جدوى الحياة وفائدتها، وما تم إشباعه من طموحاتنا، وما لم يتم أو يتحقق منها، وما نشتاق إلى تحقيقه، ولذلك نحن نتخيل أن الآداب والفنون التي أنتجها المؤمنون والمسلمون الأوائل من أتباع الأنبياء في جميع مراحل الإسلام، من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته الذي ورثت حمل رسالة من بعده، كلها تمتاز بالخيال الفني الواقعي، وبلاغتها وبيانها وأدبها مرتبط بعقيدة التوحيد، وهم يختلفون عن خيال وفنيات الأمم الوثنية، الذي قام على الأساطير والخرافات والسحر، وسبب هذا الافتراق واضح وجلي، يقوم على مقدمة منهجية ومنطقية، هو أنهم استمدوا أدواتهم الفنية من ماده الواقع كما فهمه هؤلاء المسلمون الذي عاشوا تحت ظلال عقيدة التوحيد، وهي العقيدة الواضحة المعالم في تفسير الحياة ووجود الإنسان، ومقصد خلق الله له، لأنهم تلقوها ناصعة جليه على يد الأنبياء في مختلف العصور.

ورغم أننا لا نملك نصوصا قديمة تثبت ما ذهبنا إليه علي منتجهم الأدبي، لأن العصور الموغلة في القدم كانت تقوم على الثقافة الشفوية قبل اكتشاف الحرف، وتوصل الإنسان إلى الكتابة والتدوين، وحيث ضاع الكثير من تجارب وعلم الإنسانية وخبراتها وطواه النسيان، إلا أننا لا نعدم بعض الأدلة والمؤشرات التي تؤيد ما ذهبنا إليه، وتقوي الميل العلمي إلى الأخذ بها، والاستفادة منها وهذه الدلائل هي:

(1) نستطيع أن نستدل على ذلك في بعض ما ورد من نصوص الإنجيل ومن التوراة، ورغم أنه لا يعتد بما فيهما من الحقائق المحرفة، وذلك للبعد الواضح بين تاريخ هذه النصوص و عصر التدوين الذي دونت فيه، إلا أننا يمكننا الاستفادة من ما ورد فيها من قطع تحسب على فنون الأدب: (كالقصص والأمثال والشعر والغزل)، التي كتبها مدونوا التوراة للتعبير عن ذواتهم، ونلاحظ أن هذه النصوص لا يوجد فيها الخيال المجنح الذي يمتد مع الأساطير والترهات، التي تستثمر في بناء النسيج الأدبي التي لم تألفها عقلية أتباع ديانة التوحيد على اختلاف مسمياتها (الأديان السماوية).

(2) والدليل الثاني: أن مما لاحظناه وجدنا أن الباحث الفرنسي ارنست دينان سبقنا إلى تأكيده، ذلك حين اتهم الخيال السامي في التوراة بأنه خيال واقعي غير ممتد في جانبه الأدبي لأنه لا يشبه الآداب الإغريقية وخيالها المجنح القوي، الذي يعتمد على الأساطير والمسرح والملاحم، ثم عمم ذلك على الخيال في الآداب السامية ومنها (الأدب العربي)(27).

(3) ونحن نؤكد نفس الفكرة، فيما ورد إلينا من نصوص أدبيه تمثل بقايا الأدب الإسلامي في العصر الجاهلي العربي ,من بقايا المسلمين أتباع سيدنا إسماعيل عليه السلام، فيها سمات الأدب الإسلامي بواقعيته في الأبنية الفنية وفي خياله المستمد من الواقع الطبيعي، أو من المخيلة الدينية التي تحمل بقايا دين التوحيد في العصر الجاهلي، ومن أمثال ذلك قول زهير بن أبي سلمى الذي يعتبره بعض الباحثين من أواخر الموحدين على دين إسماعيل عليه السلام وفي معلقته الشهيرة:

* فلا تكتمن الله ما في صدوركم        ليخفى ومهما يكتم الله يعلم

* يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر        ليوم حساب أو يعجل فينقم(28)

وكذلك ما نراه من عقيدة التوحيد والاعتقاد بالبعث ويوم القيامة في كثير من أشعاره، وبخاصة قصيدته المعروفة باللامية التي يقول فيها:

* ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أَرى

من الأمر أو يبدوا لهم ما بداليا

*بدا ليَّ أن الله حق فزادني

إلى الحق تقوى ما كان باديا

*بدا ليَّ أن الناس تفنى نفوسهم

وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا(29)

 ويلاحظ الباحث في لغة زهير الفنية أنه يمتاز بالخيال الواقعي الذي يخدم الموقف الشعوري، وذلك من خلال البلاغة والبيان الأدبي الذي يستمد صوره وتشبيهاته من الواقع اليومي وخبراته ببساطته وعمقه، ومن أمثله ذلك تشبيهه لموكب مجموعة من النسوة المسافرات المتجهات إلى وادي الرس كتوجيه اليد إلى الفم لا تخطئه ولا تحيد عنه، ومن خلال صورة فنية تمتاز بالبساطة والصدق والعمق، وبهذا السهل الممتنع ذلك بقوله:

 بكرنَ بكوراً واستحرن بسحرهِ    فَهُنَّ لوادِ الرَّسِ كاليدِ للفَمِ(30)

أو كقول لبيد في معلقته:

فارضَ بما قسَم المليكُ        فإنما     قسم الممالك بيننا علامها(31)

 ومن الأمثلة أيضا على تقنيات البساطة والدقة والواقعية عنده:

فلو لم يكن في كفه غيرُ نفسه          لجاد بها فليتق اللهَ سائله

ويمكن للدارس أن يتابع ذلك في آثار شعراء آخرين من العصر الجاهلي.

(8) الأدب الإسلامي مع الرسالة الخاتمة

 ثم جاء النبي الخاتم لرسالة الإسلام الكاملة المهيمنة على ما سبق من هدي الإسلام للأمم الإسلامية السابقة، وجاء هذا الإسلام الكامل الشامل، الذي يخاطب الإنسانية بكاملها، بما يتناسب مع نضوج البشرية في طورها الحضاري الأخير، يخاطب جميع الأمم خطاب جامعاً، بعد أن كان يخاطبهم في السابق مخاطبة الأجزاء والشعوب والأقوام والقبائل، جاء دور الإسلام الكامل الذي يخاطب البشرية كافة في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم)(32)،

وقوله تعالى أيضا: (وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً، ولكن أكثر الناسٍ لا يعلمون)(33).

 وقوله تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)(34).

 وجاء الكتاب المقدس لهذه الرسالة الخاتمة والمعجزة الخالدة (القرآن الكريم) و   (الحديث الشريف)، لنجد أن مرجعية هذا الدين الخاتم تعتمد لغة البيان والأسلوب الأدبي المحبب لدى البشر، ومخاطبة العقل البشري خطاباً أدبياً معجزاً خالداً، يدفعه إلى التفكير والتأمل في الواقع  الكوني المحيط بما يحتويه من مسخرات الحيوان والنبات والجماد والهواء والنجوم والكواكب والسماء والأرض، وكلها في صورها البلاغية مستمدة من الواقع الذي لا خرافة فيه ولا أساطير ولا سحر ولا عرافه، وبعيداً أيضاً عن جدل الفلسفة وجفاف أساليبها وطباعها.

 وهذا ما صنعه القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من تأثير وتأسيس في الأدب الإسلامي، من أدب اللغة العربية ثم امتد تأثيره مع انتشار الإسلام في الآداب الإسلامية ولغات الشعوب الإسلامية الأخرى، و كلها توكيد للبلاغة الواقعية البعيدة عن صناعات الخيال الوثني المجنح، وذلك لأنها تميل إلى الصدق الفني الذي يخدم الصدق الواقعي الذي أشرنا إليه في الواقعية الإسلامية واقعية (الغيب والشهادة)، ويمتد مع المخيلة التي صنعتها العقيدة الإسلامية ليكون الخيال الإسلامي قائماً على البلاغة الواقعية والبيان، الذي يؤكد الاتصال بالمضامين التي ترسمها العقيدة الإسلامية والنظام الشامل للإسلام في ذهن المسلم، لأن الخيال الإسلامي يمتد حيث تمتد العقيدة الإسلامية، حين ترسم صورة كاملة عن الحياة، من بداية خلق الكون إلى نهاية يوم القيامة، وما تتعلمه الذاكرة الإسلامية من تفاصيل عن العقيدة ومقصد وجودنا في الحياة، وأوامر الله سبحانه وتعالى بحال مخلوقاته صغيرها وكبيرها إلى حقائق يوم القيامة وتفاصيلها وما يحدث في الكون من انفراط لعقد، كواكبه ونجومه، وظهور الجنة والنار وأحوال الخلق وتفاصيلها.

 وهذا الأمر الذي نكشفه من سمات بلاغة الواقع والبيان الحق، هو ليس سمه سلبية لآداب أمم التوحيد والإسلام، بل هو تأكيد على هوية مستقلة لآداب هذه الأمم الموحدة العابدة لله سبحانه وتعالى في مذهب مترابط لآداب هذا التوحيد التي أنتجتها أجيال المؤمنين في عصور الأنبياء وأتباعهم، وبالذات الإسلام في عصر الرسالة الخاتمة، عصر محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته الوارثة لهذا الدين إلى نهاية الزمان، وهو أمر مرتبط بعقيدة التوحيد ووضوحها في عقول  المؤمنين، حين فسرت لهم الحياة ومقصد وجودنا فيها ووضحت لهم العلاقة مع المخلوقات التي سخرها الله لهم، وبذلك لم يقع عقل هذا المسلم في الخوف من الكائنات ولم يعبدها، و ظل متصلا بعلم الوحي و بخالقه، ولم يحتاج إلى صناعه الأساطير والأديان الوثنية والخرافات لتفسير الحياة، ولا وقع في تمجيد الذات والدوران حولها والروحنة والترويض، ولذلك جاء أدبه متطابقاً مع خياله الذي امتد مع عقيدته، هذه سمة آداب التوحيد والموحدين لله عبر عصور التاريخ، وهي تدل على نضج العقل ووضوح الهدف وبلاغة الواقع، لأنه لم يقع في البدائية والمراحل الطفولية والتفلسف التي وقع فيها العقل المنفصل، الذي انقطع عن الوحي ورفض التلقى منه. وهذه الفرية التي أطلقها بعض المؤرخين من المستشرقين، وبالذات أرنست رينان الفرنسي حين زعم أن الأدب العربي والإسلامي في مجموعهِ متخلفاً، إذا ما قورن بالآداب الإغريقية (اليونانية والرومانية)(35)، وأن كثيرا من الألوان تنقصه كالقصة والمسرحية والملاحم الشعرية والأساطير التي تدل على سعه الخيال المجنح وامتداده، ونسي هؤلاء أن الأساطير مرتبطة بثقافة العقل الوثني المنفصل عن علوم الوحي، وأن الخيال السامي والإسلامي هو خيال أمم التوحيد، ولم يدرك أن هذا الأدب هو أدب الحياة الإنسانية الراقية، التي تخلصت من الخضوع للطبيعة والأوهام والآلهة التي صنعها الوثني من أوهامه.

 كما أن هذا المؤرخ وقع في هذا الخطأ الجسيم قد خالف منهج العلم والعدل، حين قاس الآداب الإسلامية على ما أُلف من الآداب الأوروبية الإغريقية، حيث جعل هذه الآداب نموذجا يحتذى ويقاس عليه، فمن الذي اعترف له بصحة هذا المقياس النقدي وسمح له أن يجعل من هذا الأدب نموذجاً؟! أليس هو العقلية الاستعمارية العنصرية المدفوعة بحالة الاستعلاء الأوروبي، وهي حاله مؤقتة  ونهايتها إلى زوال بإذن الله، ولا يرددها إلا تلاميذ الاستعمار من المستغربين في بلادنا.

ولو أننا عكسنا القياس وخالفنا هذا المنهاج، لقلنا أن آدابهم هو أدب الإنسان المتخلف، الذي وقع تحت رحمة الطبيعة حين اختار البدائية، وانفصل عن علم الوحي فوقع في صناعه الأساطير والآلهة، وجعل الحرية المطلقة معبوده وهدفه ومنهجه الذي يركض وراءه.

(9)  (أدبية) الإسلام و(إسلامية) الأدب

 من الجهود التي بذلها النقاد لخدمة الأدب المحاولات الدؤبة المتعددة لتفسير عملية الإبداع الأدبي، لأهميتها في جلاء هذا المنتج الحيوي في حياة الأمم والشعوب وذلك من خلال سؤالين هامين هما:

أ- الأول منهما هو: ماذا نعني (بأدبية) الأدب؟

وبصياغة أخرى ماذا نعني (بأدبية) الإسلام؟

وفي الحقيقة نحن نعني بأدبية الإسلام تفسير النشاط الإبداعي لدى الجنس البشري كموهبة بشكل تام، وبشكل أكثر تخصيصاً وحصراً في النشاط  الإبداعي والإبداع الأدبي والفني عند المسلم، وذلك من خلال تناول الظاهرة الأدبية عند الإنسان، وفي ضوء نظرية المعرفة الإسلامية من القرآن الكريم والسنة الشريفة من هذه الأدلة النقلية والأدلة التطبيقية والعقلية، وذلك من خلال استيعاب المسلم لمرجعيته وممارسته لذلك في حياته عملاً وتعبيراً في الفنون والآداب التي أنتجها، ومن خلال مصطلحات ومفردات محددة كالعقيدة، والخيال، والأبنية الفنية، والبلاغية، ومصادرها والبيان والوضوح والإيصال، والثوابت والإضافة النوعية وتميزها عن غيرها من الأمم الأخرى.

ب-  والسؤال الثاني منهما هو: ماذا نعني (بإسلامية الأدب)؟ أو متى يكون الأدب إسلاميا محققا بمضمون السؤالين السابقين (في أدبية الإسلام و إسلامية الأدب)؟ ونحن نعني بهذا الانتقال من المنهج النظري لتفسير الإبداع إسلامياً إلى ممارسة الإبداع تطبيقياً من خلال فنوننا الأدبية، التي أنتجتها أجيال امتنا، ومتابعة ذلك وانعكاساته في نصوص المبدعين، وهي تدل على قدرة الأديب المسلم على استيعاب العالم من حوله معرفياً وفنياً وأدبياً، ومن خلال طرائق الإبداع التي اعتمد عليها في امتصاص التجربة فنياً وجمالياً، وما سيطر على نصوصه من أساليب وتقنيات جامعة للجمال، متخلصاً من المباشرة عارضاً نكهتها الإسلامية التي تعبر عن التحام النظرية بالتطبيق، لتؤكد تعريف الأدب ومعناه الذي يقول أن الأدب هو حاله التعبير التي تكشف جدوى الحياة، وما تحقق منها سلباً وإيجاباً، أو ما نشتاق إلى تحقيقه من ممكنات وطموحات بثوب جمالي فني، لأنه باروميتر الحياة، وإذا حاولنا أن نسترسل مع الجيل الأول من أهل الإسلام المتمثل في الصحابة الكرام لنرى ما قدم لنا من أدب يمثل الإسلامية الأدبية، نجد أنه قدم لنا أدبا يتناسب مع روح الفنية السابقة التي اشرنا إليها، ويؤكد ذلك في نصوصه، التي عمقت بلاغة الوضوح والبيان المفصل من خلال تصور الحياة في واقعها الطبيعي ممزوجة بأذواقهم وتجاربهم وهي في جميع أبنيتها مستمده من حكمة الواقع المعاش وجماليات الفن الذي يجمع بين الصدق الواقعي والفني الشعوري، ونلمس ذلك في شعر حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحه وكعب بن مالك و عاصم بن ثابت وغيرهم، ونلمسه كذلك من خطب الصحابة وأمثالهم وقصصهم ورسائلهم وحكمهم، وما مارسوا من فنون الأدب في أزمانهم، وظل هذا الروح الفني يسري ويمتد في الأدب العربي ثم ينتقل ويمتد إلى آداب و لغات الأمم والشعوب الإسلامية في ديار الإسلام شرقا وغربا بنفس المؤثرات الفنية التي تعتمد على الخيال الإسلامي والفنية الواقعية وبلاغه الحياة وصورها، يستمدونها من معايشتهم وتجاربهم، وما فهموه من الحياة وتفسيرها في عقيدة الإسلام، ووحي العقيدة وحيث تدرب خيال المسلم على استيعاب حياة الإنسان من قبل الخلق قال تعالى: (هل أتى على الإنسانِ حينٌ من الدهرِ لم يكن شيئا مذكورا)(36). وبعد الخلق وتمتد به إلى تجارب الأمم والشعوب والأنبياء والصالحين، واصفة عروج أمر الله بين السماء والأرض، وحركة التاريخ البشري، والخليقة وسلوك الجنس البشري على الأرض، حتى تأتي آخر حلقات النهاية إلى علامات يوم القيامة، ومراحلها والجنة والنار، ليمتد خيال هذا الأديب المسلم مع حقائق هذا الدين، حتى يتدرب على التكيف مع حقائقه في الفكر والسلوك والتعبير عن موقفه من الحياة، فيما ينتج من فنونه الأدبية، وهذا ما حققه الأدب الإسلامي في عهد الأمة الخاتمة، حيث أكرمها الله سبحانه وتعالى في كتابه المقدس (القرآن الكريم)، بخطاب أدبي جميل معجز يتحدى البشر في جماله وقوة خطابه، وكذلك الأمر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، التي تتمثل فيها البلاغة والجمال وجوامع الكلم، وهو المرجع الثاني بعد القرآن الكريم، مما جعل الأدب سيد الفنون وقائدها، من خلال واقعية مبصرة، تعيش الواقع المدرك بالحواس الخمس، ولا تشتط مع الخيال وتحترم حقائقه، ولا تهرب منه، كما كانت تفعل ثقافات الأمم السابقة التي كانت تعتبر الواقع موضوعاً خسيساً لا يستحق الاهتمام (منقول محمد إقبال)،  وتستشرف عالم الغيب من خلال هدى الوحي وتعاليمه، وكان ذلك حين قلب الإسلام معادلة الفنون، حين حدد موقعها كما يقول الدكتور صلاح الدين السلجوقي: (إن الإسلام قَلَبَ قائمة الفن رأسا على عقب، ووضع فن البيان والشعر والأدب في مقدمة القائمة، باعتبار أن (النحت والتصوير أبسط وأقل تعقيدا واقرب إلى البدائية)(37)، ولأنها تمثل آداب العقل المنفصل، وهو العقل الذي انفصل عن التلقي في العلم من الوحي، واعتمد على ذاته في استيعاب الحياة، ومارس البدائية في حياته وفنونه والصوفية والفلسفية في تفكيره.

وتأكدت سمات الأدب الإسلامي وتجذرت، حين جعل الله سبحانه وتعالى معجزة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم في خطابها الأدبي، الذي يقوم على التحدي القائم على البلاغة والبيان من خلال (خطاب أدبي معجز)، وجعل النبي المبلغ للرسالة من أهل جوامع الكلم بل سيد من تكلم بها.

 وهذا جعل (خيال الأدب الإسلامي) يقوم على النظر في صفحات السماوات والأرض، ليتعرف على إبداع الله في مخلوقاته فيتعلم منها عظمة الله من خلال ما يرى من عظيم صنعه في خلقه، هذه القراءة في آيات الله في السماوات والأرض تجعل ألسنتهم تلهج بالتسبيح: (ربنا ما خَلَقَتَ هذا باطلا سبحانك فقِنا عذابَ النار)(38)، وبذلك تشكل الطبيعة ومكوناتها من نبات وحيوان وجماد والسماوات والأرض والنجوم والكواكب والرياح والأمطار، مع ما تعلمه من علوم الوحي عن الدنيا والآخرة، وتفسيره للحياة ومقصد وجودنا فيها، مصدراً للأبنية والتقنيات الفنية، وأنشطة الخيال في الحياة الإنسانية، وحركة التاريخ البشري على وجه الجغرافيا أو الأوطان من خلال إحالات القرآن الكريم لعقل المسلم ولفت حواسه الى إدراك ذلك في صفحات الكون والحياة المحيطة به ,لأن الخيال عند الإنسان لا يتصور إلا ما هو مشاهد أو ممكن أو مركب من تجربة الإنسان، وتجربته لا تخرج عما عرف ورأى وسمع وأحس، فإذا تابعنا الأبنية البلاغية والفنية والجمالية التي وردت في القرآن الكريم نجد أنها تخاطب العقل البشري من خلال ما أَلف من الواقع الأرضي المعاش، وما تدركه حواسه من السماوات والأرض، وحتى عندما يتكلم عن عالم الغيب يقرب له عالم الغيب، و حقائقه وأشياءه من خلال تشبيه البعيد الغيبي بالقريب المشاهد، بهدف التيسير والتقريب بأساليب البلاغة في التشبيه والاستعارة والمجازات والرمز، ولم يذكر القرآن الكريم تشبيها غريبا على عقل الإنسان إلا في صورهْ تشبهيّه واحده، وذلك في قوله تعالى: (طَلْعُها كأنه رؤوس الشياطين)(39)، ورؤوس الشياطين ليست شيئا مدركا في خبرات العقل البشري، ولا مما وقع أمام حواسه، ولذلك لم تظهر في الأدب الإسلامي خرافات، ولا أساطير وترهات ولا سحر، ولكن وحين خرج العقل البشري عن طوره عند الأمم القديمة، التي هام خيالها مع أوهام الأساطير حيث صناعة الآلهة التي ترمز إلى قوه الطبيعة، التي وقعت الأمم الوثنية في عبادتها، بدأت تصنع لنفسها الأوهام والملاحم من خلال الخرافات والأساطير والتصنيع الفني المختلق الذي يقوم على الكذب والافتراء، ويركب صورا وأبنية فنية ليس لها أصل ولا وجود في الواقع الحقيقي، مما جعله أدبا يعيش على أوهام الخيال، وعبث الخيال المريض الهارب من حقائق الحياة، لأنه غارق في البدائية، وبذلك انقسمت البشرية في خيالها ومصادره وآدابها إلى أدب يقوم على التصنيع من الواقع الطبيعي و تفسير علم الوحي للحياة , وأدب يقوم على التصنيع من أوهام الذات الوثنية وتفسيرها للحياة.

(10) نقاء الخيال:

ومن هنا تأتي ضرورة الدعوة إلى المحافظة على نقاء الخيال الإسلامي الأدبي من التلوث الذي  يعكر صفوه ويمحو تميزه، ويريد خلط الأخيلة في الآداب العالمية تحت مسمى التحديث والتطور، وهو ما صنعه تيار الحداثة حين وقع بعض أبناء جلدتنا في وهم الحداثة. وبدأ عندهم خلط الآداب الوثنية وصورها الفنية حين ظنوا أنهم يصنعون تجديداً ويبدعون ويحدثون، لقد خلطوا صورة الحضارة الوثنية الفنية بالأبنية الفنية لحضارة التوحيد، وبذلك جلبوا التلوث للأدب العربي مما شوّه صورته وتميزه واستقلاله، حين استعملوا الصور والرموز والأساطير والأبنية الفنية للحضارات الأخرى،

يقول الدكتور وليد قصاب:

(لقد نشر الأدباء العرب النصارى الرموز والفنيات التي تعلموها من دينهم في نصوصهم الأدبية، فانتشرت عقيدة التثليث والصلب والفداء في رواياتهم وأشعارهم وفنونهم، وكذلك قام أدباء الطوائف الأخرى بإحياء رموز طوائفهم في إنتاجهم الأدبي والرموز الصوفية.

وأخذ الأدباء من أبناء العرب المسلمين يقلدونهم ويتأثرون بهم، فتم استيراد الرموز الثقافية في الثقافة اليونانية والرومانية والأوربية، وهي رموز وأساطير ذات دلالات وثنية ومصادرها أسطورية وخرافية، مما عكر الأبنية البلاغية والفنية وأدى إلى انتشار الغموض وتلوث خيال الأديب العربي الذي أباح لنفسه استيراد هذه الرموز تحت مسمى التحديث)(40).

وهكذا جلبوا بجهلهم ثقافات ورموز الوثنية من مختلف الجهات ليجعلوا من الأدب العربي مكباً لنفايات الوثنيات القديمة والحديثة، وخلطوا تاريخ وثقافة (العقل المتصل بالوحي والأنبياء) مع تاريخ (العقل المنفصل) الذي رفض الإيمان بالوحي والأنبياء، وهما ضدان لا يجتمعان إلا في العقول التي تلوثت بثقافة الخلط وعدم التمييز، وتبارى الحمقى في إحياء الوثنيات التي اكتشفها علم الآثار الحديث، وخرافات الصوفية الشرقية، وكل ما تيسر لهم من أديان الإنسان البدائي الذي انفصل عن الوحي، وأسس حياته وأديانه على حرية عقله وهواه (الدين البدائي-الصوفي-تعدد الآلهة-الدين الفلسفي) كل ذلك لدفن الحقيقة (دين التوحيد)، وطمس المعالم والتعمية على عقول الناس، وهم في ظنهم أنهم بذلك قد انتصروا على العرب والعروبة والإسلام، وما كسبوا إلا انكشاف نياتهم...


1 - نوح ( 17 – 18 )

34 - الأعراف ( 158 )

2- طه ( 55 )

35 - الإسلامية والمذاهب الأدبية / نجيب الكيلاني

3- البقرة (30)

36 - الإنسان ( 1 )

4- البقرة ( 31 – 33 )

37 - رأي صلاح الدين السلجوقي ورد في كتاب الإسلامية والمذاهب الأدبية / نجيب الكيلاني

5- البقرة ( 34 )

38 - آل عمران ( 191 )

6- البقرة ( 35 – 36 )

39 - الصافات ( 65 )

7- البقرة ( 36)

40 - الدكتور وليد قصاب دراسات عن تأثير الطوائف في الأدب

8- البقرة ( 37 )

41 - تجنيد العقائد المنحرفة في الأدب العربي الحديث د. وليد قصاب (موقع الألوكة)

9- فاطر ( 24 )

42 - عن الحركات والأدباء الذين انغمسوا في تلويث الثقافة يمكن التوسع من خلال كتابات الباحثة الأستاذة (فاتن فاروق

عبدالمنعم) موقع جريدة الأمة الإلكترونية

1.      خيانة المثقفين 22/9/2019

2.      الحداثة استيراد وتبني 13/6/2019

3.      الحداثة باب خلفي 20/5/2019

4.      الحداثة المتأثرة بالمسيحية (1) 30/4/2019

5.      الحداثة المتأثرة بالمسيحية (2) 11/5/2019

6.      الحداثة المتأثرة بالتوراة 22/4/2019

7.      أنظر مقالة الأستاذة إحسان الفقيه موقع أدباء الشام 4/5/2017 ص20 بعنوان ( لا إليادة لنا – ولا أُوديسا)

10- البقرة ( 38 )

11- البقرة ( 36 )

12- العنكبوت ( 20 )

13- الأنبياء (30-33 )

14- فصلت ( 53 )

15- الأعراف ( 205 )

16- الأزمة الفكرية المعاصرة / طه

العلواني معهد الفكر الإسلامي

17- كتيب الأزمة الفكرية المعاصرة / طه العلواني معهد الفكر الإسلامي

18- ق ( 22 )

43ـ وللتوسع في الدراسات التي تناولت التلوث الثقافي يمكن الرجوع مثلا الى كتب:

1.      اتجاهات الشعر العربي المعاصر لاحسان عباس

2.      اْباطيل واْسمار لمحمود شاكر

3.      النثر     المهجري لعبد الكريم الاشتر

4.      ميثو لوجياالشعوب القديمة لحسن نعمة

وغيرها لتجد الكثيرْ

5.      وانظر اسماء المذاهب الادبية حيث تسمت مدارس ومذاهب باسماء وثنية:

كمدرسة "ابولو"ومدرسةالشعراء "التموزيين" وهي عبارة عن الهةالشعر عند اليونان والهةالخصب عندالبابليين

19- البقرة آية الكرسي ( 255 )

20- مشكلة الثقافة للمفكر الإسلامي مالك

بن نبي

21- الحجر ( 9 )

22- الفرقان ( 43 )

23- آل عمران ( 19 )

24 - هود ( 84 ) مكررة في عدة مواضع

من السورة

25 - الرحمن ( 4 )

 

26 - البقرة ( 31 )

27 - الإسلامية فصل مذاهب العربي

الأدبية / نجيب الكيلاني

28 - ديوان زهير بن أبي سلمى

29 - ديوان زهير بن أبي سلمى

30 - ديوان زهير بن أبي سلمى

31 - معلقة لبيد بن ربيعة العامري

32- الحجرات ( 13 )

33 - سبأ ( 28 )

 

وسوم: العدد 889