تاريخ الآداب الإنسانية (9) "بدايات ومؤثرات"

(9) (أدبية) الإسلام و(إسلامية) الأدب 

من الجهود التي بذلها النقاد لخدمة الأدب المحاولات الدؤوبة المتعددة لتفسير عملية الإبداع الأدبي، لأهميتها في جلاء هذا المنتج الحيوي في حياة الأمم والشعوب وذلك من خلال سؤالين هامين هما:

أ- الأول منهما هو: ماذا نعني (بأدبية) الأدب؟

وبصياغة أخرى ماذا نعني (بأدبية) الإسلام؟

وفي الحقيقة نحن نعني بأدبية الإسلام تفسير النشاط الإبداعي لدى الجنس البشري كموهبة بشكل تام، وبشكل أكثر تخصيصاً وحصراً في النشاط الإبداعي والإبداع الأدبي والفني عند المسلم، وذلك من خلال تناول الظاهرة الأدبية عند الإنسان، وفي ضوء نظرية المعرفة الإسلامية من القرآن الكريم والسنة الشريفة من هذه الأدلة النقلية والأدلة التطبيقية والعقلية، وذلك من خلال استيعاب المسلم لمرجعيته وممارسته لذلك في حياته عملاً وتعبيراً في الفنون والآداب التي أنتجها، ومن خلال مصطلحات ومفردات محددة كالعقيدة، والخيال، والأبنية الفنية، والبلاغية، ومصادرها والبيان والوضوح والإيصال، والثوابت والإضافة النوعية وتميزها عن غيرها من الأمم الأخرى.

ب- والسؤال الثاني منهما هو: ماذا نعني (بإسلامية الأدب)؟ أو متى يكون الأدب إسلاميا محققا بمضمون السؤالين السابقين (في أدبية الإسلام و إسلامية الأدب)؟ ونحن نعني بهذا الانتقال من المنهج النظري لتفسير الإبداع إسلامياً إلى ممارسة الإبداع تطبيقياً من خلال فنوننا الأدبية، التي أنتجتها أجيال امتنا، ومتابعة ذلك وانعكاساته في نصوص المبدعين، وهي تدل على قدرة الأديب المسلم على استيعاب العالم من حوله معرفياً وفنياً وأدبياً، ومن خلال طرائق الإبداع التي اعتمد عليها في امتصاص التجربة فنياً وجمالياً، وما سيطر على نصوصه من أساليب وتقنيات جامعة للجمال، متخلصاً من المباشرة عارضاً نكهتها الإسلامية التي تعبر عن التحام النظرية بالتطبيق، لتؤكد تعريف الأدب ومعناه الذي يقول أن الأدب هو حاله التعبير التي تكشف جدوى الحياة، وما تحقق منها سلباً وإيجاباً، أو ما نشتاق إلى تحقيقه من ممكنات وطموحات بثوب جمالي فني، لأنه باروميتر الحياة، وإذا حاولنا أن نسترسل مع الجيل الأول من أهل الإسلام المتمثل في الصحابة الكرام لنرى ما قدم لنا من أدب يمثل الإسلامية الأدبية، نجد أنه قدم لنا أدبا يتناسب مع روح الفنية السابقة التي اشرنا إليها، ويؤكد ذلك في نصوصه، التي عمقت بلاغة الوضوح والبيان المفصل من خلال تصور الحياة في واقعها الطبيعي ممزوجة بأذواقهم وتجاربهم وهي في جميع أبنيتها مستمده من حكمة الواقع المعاش وجماليات الفن الذي يجمع بين الصدق الواقعي والفني الشعوري، ونلمس ذلك في شعر حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحه وكعب بن مالك و عاصم بن ثابت وغيرهم، ونلمسه كذلك من خطب الصحابة وأمثالهم وقصصهم ورسائلهم وحكمهم، وما مارسوا من فنون الأدب في أزمانهم، وظل هذا الروح الفني يسري ويمتد في الأدب العربي ثم ينتقل ويمتد إلى آداب و لغات الأمم والشعوب الإسلامية في ديار الإسلام شرقا وغربا بنفس المؤثرات الفنية التي تعتمد على الخيال الإسلامي والفنية الواقعية وبلاغه الحياة وصورها، يستمدونها من معايشتهم وتجاربهم، وما فهموه من الحياة وتفسيرها في عقيدة الإسلام، ووحي العقيدة وحيث تدرب خيال المسلم على استيعاب حياة الإنسان من قبل الخلق قال تعالى: (هل أتى على الإنسانِ حينٌ من الدهرِ لم يكن شيئا مذكورا)(36). وبعد الخلق وتمتد به إلى تجارب الأمم والشعوب والأنبياء والصالحين، واصفة عروج أمر الله بين السماء والأرض، وحركة التاريخ البشري، والخليقة وسلوك الجنس البشري على الأرض، حتى تأتي آخر حلقات النهاية إلى علامات يوم القيامة، ومراحلها والجنة والنار، ليمتد خيال هذا الأديب المسلم مع حقائق هذا الدين، حتى يتدرب على التكيف مع حقائقه في الفكر والسلوك والتعبير عن موقفه من الحياة، فيما ينتج من فنونه الأدبية، وهذا ما حققه الأدب الإسلامي في عهد الأمة الخاتمة، حيث أكرمها الله سبحانه وتعالى في كتابه المقدس (القرآن الكريم)، بخطاب أدبي جميل معجز يتحدى البشر في جماله وقوة خطابه، وكذلك الأمر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، التي تتمثل فيها البلاغة والجمال وجوامع الكلم، وهو المرجع الثاني بعد القرآن الكريم، مما جعل الأدب سيد الفنون وقائدها، من خلال واقعية مبصرة، تعيش الواقع المدرك بالحواس الخمس، ولا تشتط مع الخيال وتحترم حقائقه، ولا تهرب منه، كما كانت تفعل ثقافات الأمم السابقة التي كانت تعتبر الواقع موضوعاً خسيساً لا يستحق الاهتمام (منقول محمد إقبال)، وتستشرف عالم الغيب من خلال هدى الوحي وتعاليمه، وكان ذلك حين قلب الإسلام معادلة الفنون، حين حدد موقعها كما يقول الدكتور صلاح الدين السلجوقي: (إن الإسلام قَلَبَ قائمة الفن رأسا على عقب، ووضع فن البيان والشعر والأدب في مقدمة القائمة، باعتبار أن (النحت والتصوير أبسط وأقل تعقيدا واقرب إلى البدائية)(37)، ولأنها تمثل آداب العقل المنفصل، وهو العقل الذي انفصل عن التلقي في العلم من الوحي، واعتمد على ذاته في استيعاب الحياة، ومارس البدائية في حياته وفنونه والصوفية والفلسفية في تفكيره.

وتأكدت سمات الأدب الإسلامي وتجذرت، حين جعل الله سبحانه وتعالى معجزة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم في خطابها الأدبي، الذي يقوم على التحدي القائم على البلاغة والبيان من خلال (خطاب أدبي معجز)، وجعل النبي المبلغ للرسالة من أهل جوامع الكلم بل سيد من تكلم بها.

وهذا جعل (خيال الأدب الإسلامي) يقوم على النظر في صفحات السماوات والأرض، ليتعرف على إبداع الله في مخلوقاته فيتعلم منها عظمة الله من خلال ما يرى من عظيم صنعه في خلقه، هذه القراءة في آيات الله في السماوات والأرض تجعل ألسنتهم تلهج بالتسبيح: (ربنا ما خَلَقَتَ هذا باطلا سبحانك فقِنا عذابَ النار)(38)، وبذلك تشكل الطبيعة ومكوناتها من نبات وحيوان وجماد والسماوات والأرض والنجوم والكواكب والرياح والأمطار، مع ما تعلمه من علوم الوحي عن الدنيا والآخرة، وتفسيره للحياة ومقصد وجودنا فيها، مصدراً للأبنية والتقنيات الفنية، وأنشطة الخيال في الحياة الإنسانية، وحركة التاريخ البشري على وجه الجغرافيا أو الأوطان من خلال إحالات القرآن الكريم لعقل المسلم ولفت حواسه الى إدراك ذلك في صفحات الكون والحياة المحيطة به ,لأن الخيال عند الإنسان لا يتصور إلا ما هو مشاهد أو ممكن أو مركب من تجربة الإنسان، وتجربته لا تخرج عما عرف ورأى وسمع وأحس، فإذا تابعنا الأبنية البلاغية والفنية والجمالية التي وردت في القرآن الكريم نجد أنها تخاطب العقل البشري من خلال ما أَلف من الواقع الأرضي المعاش، وما تدركه حواسه من السماوات والأرض، وحتى عندما يتكلم عن عالم الغيب يقرب له عالم الغيب، و حقائقه وأشياءه من خلال تشبيه البعيد الغيبي بالقريب المشاهد، بهدف التيسير والتقريب بأساليب البلاغة في التشبيه والاستعارة والمجازات والرمز، ولم يذكر القرآن الكريم تشبيها غريبا على عقل الإنسان إلا في صورهْ تشبهيّه واحده، وذلك في قوله تعالى: (طَلْعُها كأنه رؤوس الشياطين)(39)، ورؤوس الشياطين ليست شيئا مدركا في خبرات العقل البشري، ولا مما وقع أمام حواسه، ولذلك لم تظهر في الأدب الإسلامي خرافات، ولا أساطير وترهات ولا سحر، ولكن وحين خرج العقل البشري عن طوره عند الأمم القديمة، التي هام خيالها مع أوهام الأساطير حيث صناعة الآلهة التي ترمز إلى قوه الطبيعة، التي وقعت الأمم الوثنية في عبادتها، بدأت تصنع لنفسها الأوهام والملاحم من خلال الخرافات والأساطير والتصنيع الفني المختلق الذي يقوم على الكذب والافتراء، ويركب صورا وأبنية فنية ليس لها أصل ولا وجود في الواقع الحقيقي، مما جعله أدبا يعيش على أوهام الخيال، وعبث الخيال المريض الهارب من حقائق الحياة، لأنه غارق في البدائية، وبذلك انقسمت البشرية في خيالها ومصادره وآدابها إلى أدب يقوم على التصنيع من الواقع الطبيعي و تفسير علم الوحي للحياة وأدب يقوم على التصنيع من أوهام الذات الوثنية وتفسيرها للحياة.

*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )

وسوم: العدد 889