نشاز آخر.. للبياض

عبد القادر الدحمني

جولة في أضمومة:

عبد القادر الدحمني

وأنت تفتح الأضمومة القصصية للشاعرة والقاصة والروائية زليخا موساوي الأخضري تحس كأنما وقعت في فخ لا فكاك منه، كلما حاولت التملّص منه زاد من إحكام وثاقه عليك حتى يبتلعك بالكامل، هكذا أحسست وأنا أشرع في قراءة “نشاز آخر.. للبياض”، فمنذ البداية تورطك في لعبة ضمير المتكلم حيث يتماهى المتلقي مع وجهة نظر الخطاب القصصي، فتنسى نفسك وأنت ترى بعيني البطلة وتفكر بعقلها وتتفاعل بوجدانها، “أنا كرة الثلج المتدحرجة من أعلى الجبل”[i]، “أحب الخيبات الجميلة”[ii]… عبارات منحوتة بشعرية أنيقة ورشيقة لا تحتاج لريجيم لغوي ولا تخفيظ نسبة الكوليستيرول في الدلالة والرمزية.

“لا تحدّق إلى السقف أرجوك، الحلول السحرية لا تسقط من السماء”[iii]، انتبه! عليك أن تظل متيقظا ولا تدع الكلمات تمرّ جزافا، ففي كل كلمة تجد زفرة أو بابا، وفي كل عبارة قد تقرأ تاريخا وتستقي حكمة أو تبني نسقا فلسفيا وربما تعتريك رعشة أو جنون..

لا يكاد الحسّ الحقوقي يفارق قصص زليخا ولا رؤاها الفنية والجمالية.. فالفن يجب أن يظل وثيق الصلة بالإنسان وإنسانيته، قصة موجعة تشير- بل تصرخ- إلى مأساة أطفال أنفكو في ظل سيطرة الهموم الانتخابوية على المشهد الحزبي المغربي..

“هل أنا مدمنة؟” تساؤل مشروع، يرصد التحولات السلوكية والفكرية التي فرضت نفسها مع ولوجنا “الفيس بوك” وغيره من المنتديات الاجتماعية، تقنية المونولوغ كانت أبلغ في رصد ذلك التيه وتلك العلاقات الجديدة.

“لماذا هذا المال اللعين ينغص علينا أحلى اللحظات؟”، تتساءل قبل أن تغمرها الخيبة، وهو إحساس يمتد على طول الأضمومة مغطيا العديد من القصص، ولذك لا يبدو نشازا فرار صاحب ذلك المحل بثمن نسخ الرواية الموزّعة – بسبب رجائه- على الزبائن، “نخب محمد شكري”: بدت مخرجا جميلا وذكيا، حيث قامت القاصة بعملية تدوير للخيبة لتصنع منها جمالا، أليست تحب الخيبات الجميلة؟

إنها تحس بخيبة دائمة رغم كل شيئ، والأدهى إحساسها بالخديعة من تآمر الإخوة، وانتظارها المفتوح لمنقذ ما، فهل يكون البئر رمز لوضعية المرأة في ظل تواطؤ الإخوة “الذكور”؟ أم أن البئر هو الوظيفة الخانقة وروتينها الممل؟ “قتلوا فيّ الطفولة”[iv]: صرخة مبدعة متحررة يقتلها الروتين وتعذّبها الكليشيهات الإدارية الممجوجة.

لا تخفي زليخا نهجها التحرري إطلاقا، فهي تنادي نفسها والعالم كي يخرج من ضيقه إلى أفق أكثر عدلا وأكثر إنسانية وحياة، “يا جسدي! تمرَّد أهمس لك، تعرَّ كي تستحق وسامتك، ثُرْ كي تستحقَّ نُبلَك”[v]، ولذلك تستهجن ذلك التطبيق الكاريكاتوري المشوّه لبعض أحكام الشريعة بالفهم والنّفَس الطالباني أو البيترودولار السلفي، وبالخصوص على المرأة، أليست “تاء الخطيئة المتحركة” حسب تصوّرهم؟

ورغم ذلك فهي تنادي الرجل المسجون في “ذكورته” ونظرته المسطّحة: “يا هذا المفتون بي في الغرف المعتّمة تعال كي نتصالح”..

كم هي بريئة وماكرة في نفس الوقت هذه ال”كي نتصالح”.

صفعتني بقسوة قصة “الكرسي”، إنها تجلّ لحكم قدر قاهر علوي ليس للإنسان معه حيلة ولا فهم حتّى.. وعلى غرارها جاءت قصة “لن أراقص حبيبتي”، إنه صوت الإعاقة الذي تبكي له زليخا ويؤرقها دائما.

تكتب زليخا بحساسية مرهفة، والقارئ يحس بحميمية وهو يقرأ، فهي “هشّة وسريعة العطب كجناحي فراشة”[vi] وهي لا تمارس استعلاء على القارئ حين تورد في أحايين كثيرة لاقتباسات فلاسفة وأدباء غربيين تحاول أن تخلق معهم محاورات معينة، فذلك راجع لاطلاعها الواسع على الأدب والثقافة الفرنسية على الخصوص،والقارئ – رغم التصريح بالرهافة والضعف- يحس بتطلع دائم وعنيد لتمرّد ما،  وكأن هناك مارد يسكن بطلات قصتها ويريد أن يفصح عن نفسه.

تحضر القضية الفلسطينية في وضعية جد ملتبسة عبر قصة بعنوان “العملية”، كيف لا وهي أمّ القضايا الحقوقية والإنسانية.

أما وجع الكتابة فهو هاجس دائم عند زليخا، فالكتابة متنفّسها ووسيلتها الأنجع في إثبات خصوصيتها ومواجهة ذاكرة فيّاضة وواقع تتسع مفارقاته يوما بعد يوم، ولذلك فهي تمتشق الصدق فيها وتصرح بأنها تكتب ما تعيش وما تستنشق من روائح وعطور…

تحجز تَيْمَات الذاكرة والحلم وهموم المرأة مكانا أريحيا في قصص زليخا موساوي الأخضري، ويزاوج سردها بين التصوير الداخلي لما يعتلج في بواطن الشخصيات، والتصوير الخارجي لما يضطرب حولها..

إنها لا تكتب إلا بقدر ما تقاوم، وتصرخ لترسم ذاتها بفرادة جمالية تليق بامرأة مناضلة.

               

[i] – ص : 7

[ii] – ص: 8

[iii] – ص: