العلاقة بين الأدب والدين

حفيظ الرحمن الأعظمي

حفيظ الرحمن الأعظمي

قبل أن أشرع في بيان الانحراف الأخلاقي والديني في الأدب العربي أرى لزاماً علي أن أبدأ في بيان نقطتين مهمتين جداً في اعتقادي لارتكاز أكثر المنحرفين والمنحلين والمنساقين وراءهم عن جهل وغفلة حيناً ، وتجاهل وتغافل أحايين .. أقول لاتكاز أكثر هؤلاء عليهما في تبرير خروجهم الخبيث على الدين والأخلاق الفاضلة التي دعا إليها شرعنا الحنيف .

فالنقطة الأولى هي علاقة الأدب بالدين وما هو نوع هذه العلاقة ؟ وهل يستطيع الأدب التحلل من الدين ؟ وهل للأديب أن يولي ظهره للدين ويكتب ما يحلو له ؟

والنقطة الثانية : هي رسالة الأدب في هذه الحياة ، وقد عرفنا الأدب بأنه جميع ما تنتجه القرائح من منظوم ومسبوك ومنثور ، فما هي الرسالة ؟ وما المراد منها أن تؤديه في دنيانا ؟ وهل هي بمعزل عن الرسالة الكلية للإسلام ؟

نقاط وتوضيح

هذه النقاط والتساؤلات لابد من توضيحها وتجليتها قبل أن نبحر في أدبنا ناقدين ،توضيحاً جلياً لا يدع لطالب حق لبساً فيها ، أما أصحاب الأهواء ومن ضلوا على علم فلست أراهم ممن يحاجون بالأقلام ، فقد كفل لهم الران المتلبد على أفئدتهم وأسماعهم وأبصارهم أن يمنع بصيص النور من اختراق حجبه المتكاثفة.

لقد خلقنا لغاية هي أساس وجودنا على الكوكب ، هذه الغاية هي عبادة الله وحده لا شريك له . قال جل شأنه : " وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون " فالغاية من خلقنا عبادة الله عز شأنه فحياتنا من بدئها إلى منتهاها دائرة في فلك عبادة الله ، ولتحوز أعمالنا وعبادتنا على رضاه سبحانه وتعالى لابد لها من أمرين : إخلاص العمل لله وقصده بها ، وأن يكون على الوجه الذي أمر به جل وعلا .

والمسلم محاسب على كل كلمة يقولها إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، قال تعالى : " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه أبو هريرة رضي الله عنه " وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم " فهل الأدب له حساب خاص عند الله ؟ وهل الملك الموكل بكتابة حركاتنا وسكناتنا هو غير الملك الذي يعني بكتابة أدبنا ؟ وهل نحن بأدبنا معفون من هذه الغاية التي خلقنا لأجلها ؟ وهل يهوي كلام الناس بهم في جهنم ولا يهوي بالأدباء لأن كلامهم أدب ؟ وهل بعد هذا كله يكون للأدب مزية خاصة يعامله الدين على أساسها ؟ هل الأمر بعد هذا في حاجة إلى توضيح ؟

كلام عادي

إن الأدب لا يخرج حاله عن حال كلامنا العادي من أن يوصف بالحسن والقبح والبطلان والصحة قدر أنملة ولكنه لما كان أدباً موشى ببديع الألفاظ وجميل المعاني ولطيفها يخطف الألباب ويستلب العقول كان ذلك أدعى للخوف والحيطة من سيئه وأولى بتشجيع وتحبيذ حسنة ، وهذه المزية له وعليه إذ صار مطالباً بالالتزام أكثر من غيره في إشاعة الإيمان والفضائل لما له من الأثر في نفوس الناس ، ولكون الأدباء أولي خطر في السابق وأولي مسؤولية ورسالة في الوقت الحاضر .

جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لحسان رضي الله عنه ويقول كما روى أبو هريرة رضي الله عنه " اللهم أيده بروح القدس " وعلى الصعيد الآخر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دم أعداء الإسلام من الشعراء الذين ما ادخروا وسعاً في محاربة الإسلام بفنهم وأدبهم وشعرهم .

إن هؤلاء الأدباء والشعراء كانوا قد اتخذوا موقفاً عقدياً في أشعارهم وفنهم فلم يكن يكن الفن شافعاً لهم بل دفعوا رقابهم ثمن مواقفهم وعقائدهم التي بثوها في أدبهم وحوسبوا عليها أعدل حساب ، وهكذا نرى أن الأديب محاسب ومسؤول عما يقدم ، ونرى كذلك هيمنة الدين على الأدب ، لأن الأدب والأديب في الإسلام مرتبطان ارتباطاً أبدياً بالغاية التي خلقا لأجلها ، وأدبنا هو جزء من أعمال كثيرة نقوم بها ونؤديها وسنحاسب عليها كلها أمام ملك عادل يسألنا عن دينه وعن المهمة التي أنيطت بنا ، وماذا صنعنا بها ؟ وماذا فعلنا في سبيل ذلك ؟ وليس معنى هذا الكلام أن يكون الأدب محض تسبيحات وتراتيل شعرية أو فقهاً منظوماً كما يحلو لكثير من المنحرفين أن يصموا الأدب الملتزم بذلك ، إن رسالة الأدب في السلام ومجال الأدب في الإسلام أعم وأوسع من ذلك بكثير فكل عمل فني يدعو للأخلاق الفاضلة من إيثار وحب وكرم وشجاعة وتضحية وبذل وعفو وعفة وجهاد واستشهاد .. إلى غير ذلك من المعاني الشريفة ، وكل ما يرمي إلى إظهار الحق والذب عنه وفضح الباطل وتقريعه هو أدب إسلامي بدليل قوله صلى الله عليه وسلم " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " .

كلمات مستوردة

فكل ما يدخل تحت مكارم الأخلاق إذاً هو من صميم رسالة الإسلام ، وكل ما يدخل تحت رذائل الأخلاق والحض عليها وتزيينها للناس ووصف ذلك لهو من محاداة الإسلام ومعاداته وإن تلفع هذا العمل بخمسين عباءة من عباءاتهم البراقة كالواقعية والتجريدية والوصف الحيادي ، إلى غير ذلك من المسميات ، التي استوردوها من حانات المخمورين في أوروبا ، يقول الحق جل وعلا : " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون " فكل ما من شأنه إذن أن يشيع الفاحشة في الوسط المؤمن بلسانه أو بأدبه هو رأس الحربة ، وهو أحد أعداء هذا الدين وإن تسمى باسم رسولها صلى الله عليه وسلم ، ولقد أعطانا الإسلام طرائق ومناهج صالحة للسير لنا فيها متنزه عن سواها فقد وصف القرآن الشعراء وهم الرأس في جسد الأدب في سورة الشعراء فقال : " والشعراء يتبعهم الغاوون ، ألم ترَ أنهم في كل وادٍ يهيمون ، وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " . في هذا الوصف القرآني طائفتان من الشعراء طائفة مذمومة تهيم في كل فما الذين يجعلنا مع الذين يهيمون في كل واد ؟

وهذا الأديب شاعراً أو ناثراً عليه مسؤولية هائلة ملقاة على عاتقه لأنه يقف على منبر يوجه الأجيال من خلاله ، بل ينشئ عقول أجيال كاملة يدلها على ما يجب أن تحبه ويبعدها عما يجب أن تبغضه ، يفرض عليها الذوق الذي يريده فلا تتذوق إلا من خلاله ، هذا المركز الحساس يجب على الأديب أن يتقي الله فيه وأن يضع نصب عينيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم " كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته " وأن يلتزم هذا المنهج في أداء رسالته .

منظار إسلامي

نخلص من هذا إلى تصور الرسالة التي نريدها من الأدب والتي يجب على الأديب أن يحققها ، نريد أدباً ينظر إلى الوجود من منظار إسلامي بحت ، ولا أقول إنساني لأن في الإسلام من الإنسانية ما يعجز البشر أن يوجدوه لأنفسهم ، ولا أقول عالمي لأن الإسلام هو النظام الوحيد الذي يصلح لأن يكون عالمياً .

نريد أن يتعامل الأدب مع الكائنات والأفكار والمذاهب تعاملاً مبنياً على الإسلام عقيدة لا قومية ، نريد ان يكون الأدب متمثلاً للغاية الأصيلة من وجودنا، وهذه هي رسالته التي يجب أن لا يغفل عنها .

نريد أن يكون مصباحاً يضيء للأجيال طريقها لا أن يكون ريحاً يطفئ لها قناديلها ويزيدها ظلامها مما يحمل من أوشاب .

نريده أن يكون لساناً للمعاني النبيلة لا لساناً للغرائز .

نريد أن يكون عنصر إيمان وطمأنينة ورضا لا عنصر بلبلة وتشكيك وإلحاد .

ندرس الأدب للأدب ؟ !

ويحسن هنا إلى أن نشير ألى جملة أو قاعدة صارت ديناً متبعاً عند أكثرهؤلاء المنحرفين لم أقع على أتفه أو أسفه منها ، ألا وهي قول بعضهم : ندرس الأدب للأدب ، فهم بعد أن لبسوا طيالسهم الجامعية وحملوا في أيديهم ما جاؤوا به من بقايا قيء المخمورين في أوروبا أرادوا أن يدلّوا علينا بعلمهم ، ويريدون منا أن نعترف بفضلهم ، فهم انقطعوا له ينظرون فيه بعد أن وضعوا بقايا دينهم بعيداً عن عواطفهم كي لا يؤثر على ما يصلون إليه من نتائج في بحثهم الأدبي ولكي تكون نتائجهم منزهة عن الخطأ ، فهم يدرسون الأدب لمحض الأدب كمن يأكل من أجل الأكل ، كأنه لا توجد غاية للأعمال ، فإن لم يكن هذا هو الهذيان فلا أدري أي شيء هو !! وإذا أرادوا الاسترار بهذيانهم فمشافي الأمراض العقلية أولى بهم من منابر الأدب ، والأولى أن يسموا سفهاء لا أدباء .

فدعواهم دراسة الأدب ن أجل الأدب من أكذب الكذب ، إذ الكذب درجات ، فكل علم أو فن له غاية وهدف هو سائر إليه ، هذه نقطة والنقطة الأخرى هي أنهم استجازوا لأنفسهم تحت هذا القناع أن ينشروا أو يترجموا أي نص مهما كانت درجة الفجور أو المجون أو الخلاعة فيه لأن الأدب لا يعرف أحداً في دينهم فدخلوا إلى عقول الشباب من معاقد سراويلهم ، كل هذا حدث ويحدث باسم هذه القاعدة الصدئة .

وقد يتشبث بعض هؤلاء أو غيرهم ممن انطلت عليهم حيل المهرجين بما نسب إلى الأصمعي من أنه قال : إن أعذب الشعر أكذبه وقوله إن الشعر إذا أدخل في باب الخير لان .

وقولته " أعذب الشعر أكذبه " كلام باطل من أي جهة جئته ، فإن كان مراده من ناحية المعنى كفينا مؤنة الرد لظهور فساد قولته ، وإن كان يقصد الإغراق في الخيال والتشبيه وبعد الاستعارة فهذا لا يسلم له به لأن الشعر إن خرج عن حد المعقول كان كلاماً ساقطاً ونماذج الشعر العربي الصادقة ، التي تكاد تبلغ حد الإعجاز ، أكثر من أن تحصى ، وأما قوله إن الشعر إذا دخل من باب الخير لان ، فمعلقة زهير فيها الرد البليغ عليه وجل شعر زهير في الحكمة والحض على مكارم الأخلاق والتسامح ، وكل هذه من أبواب الخير.

بعد أن رأينا عمق العلاقة بين الدب والدين هل من حاجة إلى أن نقول إن الأدب الذي لا يلتزم بما حده له الدين هو أدب جاهلي عقيدة وفكراً وقيماً لا عصراً وهل سيخرج علينا من يتباكى على حرية كفره وعبثه باسم حرية الفكر ؟ لست أدري ولكن أدري أن هؤلاء الأدعياء الذين يسمون أنفسهم أدباء ما هم إلا عصابة من المخربين والمجرمين لابد أن يؤخذ على ألسنتهم وأيديهم وينزلوا منزلتهم الحقيقية ، كيف لا وقد نزلوابما كتبوا إلى أسفل من هذا وأكثر ؟