الله والإيمان في شعر أحمد الصافي النجفي

رحلة عجيبة لشاعر كبير من الإلحاد إلى الإيمان

مصطفى عكرمة

الحديث عن الشاعر المرحوم بإذن الله أحمد الصافي النجفي لا يخلو من الطرافة والغرابة ومعهما الفائدة.. ذلك بسبب حياته الخاصة المتميزة وما تركته تلك الحياة الغنيّة الحافلة من شعر «حياتيّ» متميز.. فهو الذي عاش للشعر طيلة سنيّ حياته التي نافت على الثمانين عاماً.. فلقد رضي من حياته كلها الشعر.. وارتضاه الشعر.. وكان الشعر حياته وفناءه في حين أنه كان حياة الشعر وخلوده، كما كان يقول في كلِّ مجلسٍ ضمّنا معه.

نشأ الشاعر المرحوم بإذن الله أحمد الصافي النجفي في بيئة علمية توارثت العلم، فأبوه الشيخ علي النجفي الذي تتلمذ عليه وعلى أقرانه من علماء النجف إذ كانت ولادته سنة 1897.. ولظروف معينة هجر موطن ولادته ونشأته واتجه إلى طهران حيث عاش هناك حقبة غير يسيرة من حياته التي امتدت حتى 2/6/1977حيث وافته المنيّة.. ولعله من المفيد هنا أن نذكر أن هجرته إلى بلاد فارس كانت بعد أن قوي عوده، واشتد ساعد شاعريته التي تعرض بسببها للحكم بالإعدام.

وقد أتقن الفارسية إتقان الأديب الشاعر المتمكن من مادة الشعر ولغته، فأكب على دراسة الآداب الفارسية بلغتها الأم، وترجم فيما ترجم منها رباعيات الخيام التي كان الشعراء قد جدّدوا افتتانهم بها، وتعلّقهم الشديد بعبقرية صاحبها، فكثر المترجمون لها إلى عدة لغات.. وكثيراً ما كانت تتم هذه الترجمات من غير الفارسية فيتجرمها شاعر إنكليزي وينقلها عنه ألماني، وهكذا..

ولعل ترجمة شاعرنا أحمد الصافي النجفي كانت متميزة لأنها ترجمت إلى العربية من لغتها الأم مباشرة،وبلغة شاعر متمكن أتقن اللغتين كل الإتقان.

وما يزيد من دقة هذه الترجمة التي تكرر طبعها واتسعت دائرة نشرها هو ما صرّح لي به شخصياً حين قال لي عن ذلك ما معناه: «إن الشطحات الصوفية التي سُجلت على الخيام في رباعياته، وإن الشك الذي تحرّج منه مترجمو رباعياته لم يشعر بهما ولم يأبه لهما.. لأنه كما قال لي بكل الصراحة إنه لم يكن يعير مثل هذا الأمر أية أهمية.. لأن الإيمان الحق بالله تعالى قد كان غائباً عن قلبه.. ولم يكن يشغله في نقلها إلا دقة المعنى ودقة التصوير ونقاء التعبير.. ولم يكن للدّين من أثر في نفسه إلا الأمانة في دقة نقله لها، والوفاء للمعاني التي أوردها بها مؤلفها الخيام..

ولنسمعه يقول عنه في مقدمة ديوانه الثامن «شرر» الذي صدر في بيروت سنة 1952 رداً على سؤال وُجّه إليه فقال: «أنا أمين في ترجمتي وفي شعري، ففي ترجمتي لم أدْخِل شيئاً من فكري، وفي شعري لم أدخل شيئاً من فكر الناس».

والذي يعنينا من هذا أنه لم يكن على صلة بالله عزّ وجل في تلك الفترة غير القليلة من سني حياته الطويلة، وقد كثرت فيها إلحادياته سواء ما كان منها من أحاديث السمر واللهو، أو ما تركه من شعر نزع فيه إلى تلك الوجودية، وذلك العبث المريب الذي عرف عنه واشتهر به أكثر ما اشتهر حتى أصبح فيما أذكر عنه حجة فيه ومرجعاً.

ولا أريد أن أقف هنا طويلاً عند هذه الفترة الإلحادية وإنتاجها، والتي حدثني عنها شخصياً بأنه كان في أثنائها أشد على أنصاف المتدينين وأرباعهم من ألف شيطان رجيم، وهذا قوله.

ولعلّ هذه الحياة الخاصة التي عاشها بما لا يكاد يُصدّق من التشرد والتقشف هي التي طبعت شعره بخصوصيات عجيبة غريبة إذ وقف شعره، معظم شعره على معاناته الحياتية التي كانت خبزه اليومي والماء الذي يعلّ منه وينهل... وذلك شأنه.. فلنستمع إليه يقول:

يا جاهلين تغرّهم أثوابُهمْ

 

فتخالهم وهمُ العبيدُ ملوكا

أنت نظرتمْ ظاهري فضحكتمو

 

ونظرت باطنكم فعدتُ ضحوكا

فلْنبقَ نضحك لستُ قط بظاهري

 

أهتمُّ إن يك بالياً منهوكا

كلا ولستم تحفلون بباطني

 

إن كان باطنكم غدا مهتوكا

ولعله من المفيد هنا أن نتوقف عندما قاله عن نفسه «خلقت أحب الزوايا بحثاً عن الخبايا، فإن لم أجدْ في الزوايا خبايا جلست منزوياً أفتش في خبايا نفسي، والنفس أوسع من الكون وأكثر منه زوايا وخبايا». مقدمة ديوانه «شرر».

ويجيء الإيمان الكامل كما سمّاه لي، وكما كان يقول عنه، فإذا به يفاجئ قراءه بقصيدة عجيبة بليغة فيها كل الصدق والنضج والشاعرية، وكان عنوانها: «الله» وهي طويلة ولا أريد أن أجتزئ من هذه القصيدة شيئاً فليس يغني جزؤها عن كلها..

راح يقوى على المدى إيماني

 

 

فبربّي قد امتلى وجداني

 

قيل لي هل عرفته بدليلٍ

 

 

أو بحسٍ شهدتَه، أو عيان؟!

 

قلت كلا، إيمان قلبيَ أقوى

 

 

من دعاوى الحواس والبرهانِ

 

واضح لي وضوح روحي وعقلي

 

 

ماثلٌ في مداركي ككياني

 

هو رمْزُ الوجود، سرُّ التجلّي

 

 

هو روحُ الأكوانِ معنى المعاني

 

كلما عفتُه رجعت إليهِ

 

 

كرجوع الأفياءِ للأغصانِ

 

فاعتقادي بالله روحُ وجودي

 

 

وجحودي له انتحارٌ ثانِ

 

ممسك بي وإن تخلّيتُ عنه

 

 

حافظ لي وإن تركتُ عناني

 

فهو شرحي لدى انقطاع بياني

 

 

وهو نطقي يوم انعقاد لساني

 

كل جسمي زوائدٌ وفصولٌ

 

 

أبعدتني عن مبدع سوّاني

 

وسيفنى جسمي غداً وسأبقى

 

وهو باق وكل شيءٍ فانِ

هذا هو الإطار الإيماني الذي وضع به نفسه.. بل هذا هو ما أوحاه إيمانه الجديد بربه عزّ وجل.

ولا أجد بأساً من الوقفة هنا عند مقطوعة صغيرة نتبين من خلالها درجة ذلك الانعطاف الكبير في عقيدته وتأثيره في أدبه.

أرى بشعري في عهد الشباب فتىً

 

 

مغامراً جال في كلِّ الميادينِ

 

واليوم أصبح شعري عاقلاً ورِعاً

 

فاسمع لشعري ترَ الدنيا مع الدّينِ

إذن فإن شعره قد أصبح عاقلاً ورعاً.. وليس عاقلاً ورعاً فحسب بل إنما هو مشتمل على كل تجاربه الغنية جداً في كل مجال من مجالات الحياة كما قال.

وهو هنا كما هو في كل ما قال صادق وأمين.. صادق مع نفسه، وصادق مع شعره الذي كان ترجمان تلك النفس الشاعرة بالفطرة أولاً ثم بالاحتراف ثانياً.

وبعد هذه المقدمة العامة والوقفة القصيرة مع ذلك الانعطاف في حياته العقائدية لا بأس في أن نمسك بالمفتاح وندخل إلى عالم هذا العاقل الورع صاحب الإيمان الكامل كما يقول: ولتكن وقفتنا مع هذه المقطوعة التي أتركها بين يدي القارئ لتقدم نفسها.. عفواً لتقدم نفس صاحبها وهي بعنوان «إلهي».

شُغلت في جمع ما توزعه

 

 

كفُك ربي وحْياً ولم أرَكا

 

فاحفظ لي الجوهر النفيس معي

 

 

فإنني قد حفظت جوهركا

 

لم أبتذل سرك الثمين ولم

 

 

أبعهُ سوقة ولا ملكا

 

عبدتُ منك الجمال يظهر لي

 

 

في كل شيء تحبوه مظهركا

 

مظاهر قد تعددت وبها

 

 

أراك فرداً ولا أرى شُركا

 

هذه هي صورة نفسه الجديدة وتلك هي معرفته الجديدة بربه عز وجل، ولعله من الجميل والمفيد أن نمسك بمفتاح مقصورة جديدة من مقصورات هذا العالم الذي ولجناه منذ قليل بعد أن تسلمنا مفتاحه الكبير وأطلق لنا حريتنا نتجول في رحابه الفساح كما نريد.

يا رب ذنبي عن لقاك يصدّني

 

 

فاشمل ذنوبي منك بالغفرانِ

 

إن كنت في كل الشرائع مخطئا

 

 

لم أُخطِ قطُّ بشرعة الوجدانِ

 

ولعل في هذين البيتين اللذين سنتوقف عندهما متزودين مما اشتملا عليه من دقة التعبير، وصدق العاطفة، ونبل المقصد وسلامة التوجه، وعمق اليقين ما نتابع به ومعه رحلتنا تصحبنا المتعة والفائدة.

يا رب يا حق ويا معتمدي

 

 

أعمى الورى من رأى ولم يركا

 

إنيَ مهما أخطأت عن نزقٍ

 

 

فإنني ما مسست جوهركا

 

والذي يعنيني من هذه المحطة.. أو من هذه الوقفة المطمئنة أن أخطاءه التي سبق أن نوهنا إليها كانت كما عرفنا من هذين البيتين ومن سابقيهما مغامرة ونزقاً، وأنه مع هذا «النزق» لم يمس جوهر الله سبحانه وتعالى الذي اتجه إليه من جديد مطمئناً راضياً بما آلت إليه حاله بعد تلك الفترة من الضياع النزق، والمغامرة المضنية فيقول مفتخراً بثقته الكبرى بربه عزّ وجل:

صان الإله إبائي فاعتلى جاهي

 

 

ألست شاعر رب دون أشباهِ!!

 

ما ضيم شاعر أشخاصٍ لهم خطرٌ

 

 

فهل أُضام وإني شاعرُ اللهِ؟!

 

إذن فهو الآن شاعر الله عز وجل، وإن يكن شاعرنا قد ساق الدليل الحسيّ على ما آلت إليه حاله، وما اطمأنت إليه نفسه الممتلئة إيماناً واعتزازاً بهذا الإيمان، فإنه لم يَسُقْه لحاجته الشخصية إليه، إنما ليطمئننا من خلال هذا الدليل الحسي الذي تضمنه قوله «شاعر الأشخاص» الذي لا يضام لموقعهم وموقع شاعرهم منه.. إنه شاعر رب العالمين جميعاً من بيده الملك وهو على كل شيء قدير.. وشتان بل ألف شتان بين من هو شاعر أشخاص زائلين.. وبين شاعر رب ليس له أشباه ولا أنداد وهو رب العزة والجبروت.

إليك أمري، وحاصلي مِنْكَا

 

 

ضعيفُ عقلٍ مَن فيك قد شكّا

 

هب لي ضعفاً إليك متلجئا

 

 

لا قوة تدّعي الغنى عنكا

 

وأرجو من قرائي الكرام هنا أن يتجاوزوا ما قد يُظن في الشطر الأول من قدرية كان يرحمه الله أبعد ما يكون عنها في اعتقاده الجديد، وإيمانه القوي المتين.

وليتك قارئي العزيز تقبل دعوتي المتواضعة لنتوقف معاً عند هذه الأبيات الأربعة التي يؤذيها في اعتقادي أي تعليق عليها.. وكيف لا يؤذيها التعليق عليها وهي على كثافة معانيها وعمقها جاءت على هذا النحو «الصافي»:

محمّدُ هل لهذا جئت تسعى

 

 

وهل لك ينتمي همَلٌ مشاعُ!!

 

أإسلامٌ وتغلبهم يهودٌ

 

 

أآسادٌ وتقهرهمْ ضِباعُ!!

 

أيشغلهم عن الجلّى نزاعٌ

 

 

وهذا نزعُ موتٍ لا نزاعُ

 

سننتَ لهم سبيلَ المجدِ لكن

 

 

أضاعوا شرعك ا لسّامي فضاعوا

 

واعذرني الآن أيها القارئ العزيز إن تركتك إلى حين لتتملّى مما في هذه المقطوعة الرائعة من سحر وجمال.. وما اشتملت عليه من بلاغة وفكر فكانت صافية بحق.

وإذا كنت قد تحدثت عن «النجفي» في تلك الفترة «النزقة» فهاأنذا أختار هذه الأبيات من قصيدة عنوانها رمضان لنتبينَ الفارق الذي تحدثنا عنه والذي كان هو الدافع الأكبر لهذه الدراسة.

رمضان أنت لكل شهر سيّدُ

 

 

فيك النفوسُ لربها تتجرّدُ

 

يا عيد عدت لنا، وعوْدُك أحمدُ

 

 

أيعود للإسلام ذاك السؤدد؟!

 

ثم ماذا؟!

إن الألى جعلوا المآكل عيدهم

 

 

قد أفطروا لكنهم ما عيدوا

 

وواضح هنا أن العيد المقصود هو رمضان نفسه.. وبالعودة السريعة إلى ما كان منه في رمضانه القديم يتبين التغير في هذا الجانب الإيماني من حياة شاعرنا الصافي.

وللمرحوم بإذن الله الصافي مقطوعتان أرى من المناسب أن نتوقف عندهما ولو قليلاً لما كان لهما من أهمية في تلك الفترة التي شهدت ذلك التحوّل الكبير والخطير في حياة الصافي الإيمانية.. إن شاعرنا هذا قد قال لي يوماً إنه كان أشد وأنكى في تشكيكه للناس وإفساد عقيدتهم من ألف شيطان ــ كما أسلفت ــ هؤلاء الذين تسرّب إليهم الشك من أحاديثه ومواقفه أصبحوا والحمد لله يرددون معه اليوم وهم الذين كانوا يقولون بالأمس إن الطبيعة هي كل شيء.. ولا شيء غير الطبيعة.. هؤلاء أصبحوا يقولون مع أستاذهم الصافي:

هل في عيون الملحدين عماءُ

 

 

أم في عقول الملحدين غباءُ؟!

 

أيجوز عقلاً أن عقلاً مُبدعاً

 

 

قد أبدعته طبيعةٌ بلهاء؟!

 

وإذا الطبيعة أدركتْ وتصرَّفتْ

 

 

قلنا الطبيعة والإله سواءُ

 

الله أحيا الكائنات بسرّهُ

 

 

فبصمتها تتخاطب الأشياءُ

 

يا شاملاً كل الوجود بحكمةٍ

 

 

عَبَدَتْك أرضٌ أذعَنتْ وسماءُ

 

أما أولئك العقلانيون كما يسمّون أنفسهم سواء منهم من كان من أساتذة النجفي أو من تلامذته فإنهم أصبحوا يرددون معه هذا البيت الفاصل من مقطوعته «الله والعقل»:

إنْ بانَ فضْلُ العقلِ في صُنْعهِ

 

 

فصانعُ العقلِ له الفضْلُ

 

أجل يا شاعري.. صانع العقل وحده له الفضلُ كل الفضل..

وقبل أن أختم هذه الجولة السريعة على بعض إيمانيات شاعرنا الكبير رحمه الله وغفر له، فإنّه يطيب لي أن أقول للحقيقة: إن الصافي رحمه الله قد أملى عليّ يوماً هاتين الرباعيتين وكان ذلك في أواخر لقاءاتنا في سنة 1972 وغادر بعدها دمشق ولم يعد كما أذكر.. وتحرياً للأمانة فلست أعلم حتى الآن إن كنت الوحيد الذي يحتفظ له بهاتين المقطوعتين اللتين أملاهما علي بتركيز منه واهتمام.. لذلك فأنا أرجو من كل من يهمه الأمر أن ينقلهما عني وفاء له ولإيمانه وإيمانياته ويبثهما في أعماقه الكاملة.

أقرآنُ وحْي الله أمْ لَمْعُ نورهِ

 

 

أم الدرُّ منثوراً بعَذبِ نميرِهِ؟!

 

كلامٌ به الخلاق يظهرُ بيننا

 

 

وسِفْرٌ رأينا الله بين سطورهِ

 

أما الثانية فقد كانت في القرآن الكريم أيضاً وهي قوله:

الله قد أنزل القرآن معجزةً

 

 

ولم يزل سرُّه العلويُّ محجوبا

 

لا يستطيع امرءٌ تبديلَ لفظته

 

 

كأنما أُنزل القرآنُ مسكوبا

 

وأذكر أننا توقفنا عند قوله «مسكوبا» مستغربين.. لكنه يرحمه الله كان مطمئناً إلى أنه قد أدى من خلالها المعنى الذي أدرك وأراد.. ولم نكد نستمع إلى حجته القاطعة حتى أشار إلى أن أكتب عنه هذه المقطوعة الثالثة.. لكنها كانت هذه المرة نثراً، وعندما استغربت منه ذلك لعلمي أنه لم يكن يهتم بالنثر اكتفى بأن أشار عليّ بالكتابة وكأنني به أراد أن تحفظ عنه كما يحفظ الشعر.. وكان عنوانها «غرابة القرآن» أنقلها عنه من تلك الورقة التي قدّمها إليّ وفاءً منه وله، وأمانة كما أسلفت على ما أحسب أنه خصّني وأمّنني عليه.

غرابة القرآن

أجواؤه غريبة، أسلوبه غريب، فنّه غريب، قصصه غريبة، تأثيره غريب حتى قال الكافرون «هذا سحر» تحّدّيه غريب، العجز عن الإتيان بمثله غريب، جماله غريب، اختلافه مع أحاديث حامله غريب، ظهوره في البادية غريب، تصويره للجنة والنار حتى تكاد تلمسهما غريب، تصويره الترف بأنواعه في الجنة مع ظهوره في بادية قاحلة غريب، تشريعه غريب، تكلّمه عن مشاكلَ يعيشها كلُّ عصر غريب، صلاحه للاستشهاد بأشياء منه في كل مناسبة غريب، نقده لمن أوحي به إليه كما هو في سورة «عبس وتولى» غريب، تكراره بأساليب مختلفة كلها جميلة غريب، تصويره للهواجس النفسية في أثناء القصص غريب، نظمه غريب، معناه غريب، عدم الملل منه غريب، عدم الإيمان به غريب..

انتهى كلامه، بل هو أغرب من غريب يا شاعري وأعجب..

تلك هي قارئي الكريم جولتنا مع إيمانيات أغرب شاعر وأغزر الشعراء إنتاجاً وأطوعهم شاعرية متدفقة ظلت تفيض حتى آخر لحظات حياته التي امتدت أكثر من ثمانين عاماً كما أسلفنا.

وأختم بآخر بيت سمعته عنه حينما عاد إلى بغداد مكفوف البصر محمولاً من جماهير الأدب والوفد الرسميّ الذي خرج لاستقباله بعد تلك الغربة الأليمة، ولعل هذا البيت الفريد من أكثر ما تأثرت به وأدمع عيني كلما ذكرته وذكرت عودة صاحبه.

يا عودة للدار ما أقساها

 

أسمع بغداد ولا أراها!!

هذه وقفة سريعة مع رحلة هذا الشاعر الكبير من إلحاده إلى رحاب إيمانه بربه الخالق العظيم، فهل نرى من يقرأ ويتعظ؟؟

رحم الله أحمد الصافي النجفي وغفر له، وهيأ من ينهد لجمع أدبه فهو مدرسة حياة وأدب وإبداع.