مآخذ نقدية ما فات أوانها على كتاب "من نحنُ؟"

د. هاشم عبود الموسوي

مآخذ نقدية

ما فات أوانها على كتاب "من نحنُ؟"

(عودة لقراءته من جديد وتفهم ما يجري بأوطننا في هذه الأيام )

د. هاشم عبود الموسوي

عرض كتاب صموئيل هنتغتون "من نحنُ؟" الجدل الكبير في أمريكا

"Who Are we" America's Great Debate 

الصادر عام 2004م التغييرات التي طرأت على بروز الهوية الوطنية الأمريكية وجوهرها. أما بروزها أو تفوقها Salience فهو الأهمية التي يوليها الأمريكان لهويتهم الوطنية مُقارنةً بهوياتهم المتعددة، وأما الجوهر فيُشير إلى ما يعتقده الأمريكان أنهم يملكونه بشكلٍ جماعي ويُميّزهم عن سائر الشعوب الأخرى. ويُقدّم هنتغتون في هذا المُصنّف ثلاثة أطروحات (أو أدلة رئيسية) على ذلك:

أولاً: تغيّر مظهر الهوية الوطنية لدى الأمريكان عبر التاريخ. ففي القرن الثامن عشر بدأ البريطانيون المستوطنون على الساحل الأطلسي تعريف أنفسهم لا كمقيمين في مستعمراتهم كلٌ على حده فحسب بل كأمريكان. وعقب الاستقلال بدأت فكرة القومية الأمريكية تترسخ تدريجياً ثم توطّدت بشكلٍ نهائي في القرن التاسع عشر. وبعد الحرب الأهلية، أصبحت الهوية الوطنية مُبجّلة ومُفوّقة مُقارنةً بالهويات الأخرى. ثم تنامى الشعور القومي الأمريكي في القرن الموالي، وفي الستينات من القرن العشرين (أي 1960م) بدأ تيار الهوية الفرعية والمزدوجة، والأممية في منافسة الهوية الوطنية ومنافستها لدحر تفوقها. وقد تسببت الأحداث المأساوية في الحادي عشر من سبتمبر في إعادة مسألة الهوية الوطنية إلى السطح. فما دام الأمريكان يرون قوميتهم مُهدّدة، من الوارد جداً أن يُصاحب ذلك الشعور حسٌ كبيرٌ بالهوية لديهم. أما في حالة تلاشي إدراكهم للخطر، فإن هويات أخرى ستشق طريقها للصدارة من جديد على حساب الهوية الوطنية.

ثانياً: عرف الأمريكان، عبر التاريخ، وبدرجات مختلفة جوهر هويتهم حسب العرق والأثنية، والعقيدة، والثقافة. أما العرق والإثنية فقد اندثروا بشكلٍ كبير، فالأمريكان يرون بلدهم متعدد الأثنيات والأعراق، مجتمع متعدد الأجناس. و"العقيدة الأمريكية" كما صاغها في البداية توماس جيفرسون، وبلورها آخرون من بعده، تُعتبر بشكلٍ كبير العنصر الحاسم المحدد للهوية الأمريكية. وقد كانت العقيدة نتاج ثقافة أنكلو-بروتستانتية مختلفة كانت عند المستوطنين الأوائل الذين أسّسوا أمريكا في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

وتشمل العناصر الرئيسية لتلك الثقافة حسب رأي هنتغتون: اللغة الإنكليزية، والمسيحية، والالتزام الديني، والمفاهيم الإنكليزية المتعلقة بسيادة القانون، ومسؤولية الحكام، وحقوق الأفراد؛ وقيم البروتستانت المنشقين فيما يتعلق بالفردية، وأخلاقيات العمل، والإيمان بأن للبشر قدرة، ومن واجبهم، خلق جنة على الأرض (مدينة فاضلة). وتاريخياً، جذبت هذه الثقافة والفرص الاقتصادية التي ساعدت في إتاحتها ملايين المهاجرين إلى أمريكا.

ثالثاً: لقد كانت الثقافة الأنكلو-بروتستانتية أمراً جوهرياً للهوية الأمريكية طوال ثلاثة قرون، وهي ما يشترك فيه الأمريكان، وكما لاحظ العديد من الأجانب، فهي ما ميّزهم عن سائر الشعوب الأخرى. في أواخر القرن العشرين تأثر تفوّق (وبروز) هذه الثقافة بسبب موجة جديدة من المهاجرين من أمريكا اللاتينية وآسيا، وذيوع وانتشار معتقدات ومذاهب التعددية الثقافية والتنوّع في الدوائر الفكرية والسياسية، وانتشار الأسبانية كلغة ثانية، وتيارات "الهسبنة" Hispanization في المجتمع الأمريكي، وتأكيد هويات المجموعات اعتماداً على العرق والأثنية والجنس، وتأثير الجاليات وحكومات أوطانهم الأصلية، والتزام النخب المتنامي بالهويات الأممية ومتعددة القوميات. واستجابة لهذه التحديات، كان بإمكان الهوية الأمريكية أن تتطور باتجاهات مختلفة:

1. أمريكا عقائدية، يعوزها الجوهر التاريخي الثقافي، ولا يوحّدها سوى التزام مشترك بمبادئ العقيدة الأمريكية.

2. أمريكا مشتركة، ذات لغتين: الأسبانية والإنكليزية، وثقافتين: الأنكلو-بروتستانتية والهسبانية Hispanic.

3. أمريكا العازلة (المبعدة) والتي تُعرّف من جديد بالعرق والأثنية، والتي تُقصي و/أو تُطوّع الملونين (غير البيض والأوروبيين).

4. أمريكا المفعمة بالحيوية تؤكد من جديد ثقافتها الأنكلو-بروتستانتية التاريخية، والالتزامات والقيم الدينية المرتكزة على صدام مع عالم مناوئ ومُعادٍ.

5. مزيج من هذا وذاك، واحتمالات أخرى.

وقد جاء الكتاب في أربعة أجزاء، تتخللها فصول ومباحث وهي:

قضايا الهوية، وأزمة الهوية الوطنية ومكونات الهوية الأمريكية، والثقافة الأنكلو-بروتستانتية، والدين المسيحي، والبروز والنصر والتآكل، وعرض في الجزء الثالث مخاوفه من تفكيك أمريكا، وفي الجزء الرابع، فقد تناول حدود الخطأ القديمة والجديدة، وأمريكان القرن 21 وقابلية التأثر والعطب. ولا يعنينا كل ذلك إنما يهمنا هنا مسألة الكشف عن طروحاته المنبثقة من قناعاته التي سبق وأن كشف عنها في كتابه السابق "صِدام الحضارات" والتي أوردها من جديد في هذا المؤلف.

مآخذنا النقدية على هذا الكتاب:

لقد أثار هذا الكتاب "من نحنُ؟" جدلاً كبيراً في أوساط المثقفين والسياسيين داخل أمريكا وخارجها. فأما في الداخل فقد نُعت بـ"رهاب الأجانب" xenophobia بسبب ما ذهب إليه من أن الهجرة تمثل تهديداً حقيقياً للمجتمع الأمريكي، وقد تتسبب في "انقسام الولايات المتحدة الأمريكية إلى شعبين، وثقافتين، ولغتين" إلى جانب تأكيده على أن أمريكا تستمد هويتها من التاريخية والثقافية من كونها بلد أنكلو-ساكسون بروتستانتي. وقد تعامى عن إيجابيات تعدد الثقافات والأعراق وما كسبته أمريكا نتيجة ذلك من تنوع في القيم، مثل التسامح، وروح المبادرة والثقة بالنفس، والإيمان بالمساواة وغيرها من القيم التي ميّزت الثقافة الأمريكية عن سائر الثقافات، وميّزت الشعب الأمريكي عن سائر الشعوب، ونسى أن التنوّع مصدر قوة إيجابية تنبع من تعدد الهويات والثقافات، ومن "الحلم الأمريكي!" الذي سحر الشعوب وجذب عدداً كبيراً منها عبر المحيطات.

وأما فيما يتعلق بفصول الكتاب القليلة التي تناول فيها علاقة أمريكا بالعالم الخارجي، وخاصةً في مواجهاتها الحالية مع الإسلام السياسي، فإن النقاد يرون أن هذه الأفكار لا تعدو أن تكون اجتراراً لمقولاته في "صِدام الحضارات" الذي اتفق جميع النقاد والمحللين السياسيين في الغرب والشرق على أنّه "دسيسة لتجبير العدوان والحروب التي يشنها الغرب بزعامة أمريكا على دول العالم الثالث ووضعها تحت "الوصاية والمراقبة" لمنع اقتصادياتها من النمو. وهو بذلك يُشجّع سياسة التدخل في شؤون الغير بحجة نشر ديمقراطية العالم الحر وتحرير الشعوب من الدكتاتوريات، حيث يعتقد "أنّ الغرب لم يفز بالعالم بسبب تفوق أفكاره وقيمه أو دياناته بل بتطبيق تفوقه في استخدام العنف المُنظّم.

كما اتهم هنتغتون باتخاذه مواقف عنصرية ومعادية للإسلام. ومن أهم المآخذ المُسجّلة على نظريته هو ضبابية تعريفاته وعدم موضوعية مقارناته. فهو تارةً يضع الإسلام السياسي (الدين) إزاء الثقافة الأمريكية، وتارةً أخرى يضع الغرب إزاء الشرق، وينسى أن الغرب ليس أمريكا فحسب بل أوروبا (الثقافية والدينية والإيدولوجية)، ويتناسى أن الشرق منه اليابان وغيرها من الدول التي اعتنقت الرأسمالية الغربية. وهو يرصد الحروب التي انخرطت فيها بعض الدول (أو الفصائل والأقليات) الإسلامية، ويتناسى أن معظم الدول الإسلامية تعتنق إسلاماً معتدلاً، وتنعم بالاستقرار وتتوق للسلام، كما يتناسى ويرفض أن يُبيّن الفرق بين ما يُسمّى بالإسلام السياسي والإسلام كدين مُسالم وأسلوب حياة. ويرفض التمييز بين الأعمال الإرهابية والحق في المقاومة وتقرير المصير. ويُندّد بأعمال إرهابية متفرقة في حين يدعو إلى مزيد من العنف (أو الإرهاب) المُنظّم.

وحتى لا يخفى على المثقف تاريخ هذا الباحث النيتشوي وهو أستاذ بجامعة هارفرد، ولا يستغرب طروحاته، لا يفوتنا أن نذكر بأن صمويل هنتغتون هو باحث في العلوم السياسية اشتهر بتحليلاته في العلاقة بين الجيش والحكومة المدنية في كتابه "انقلابات عسكرية" وطرحه الذي مفاده أن الكتل السياسية المتصارعة في القرن الواحد والعشرين لن تكون الدول الوطنية بل الحضارات، وهو يعمل حالياً من خلال كتابات جديدة على تحليل التهديدات المُحدقة بالولايات المتحدة الأمريكية في الداخل والخارج. وهو في ذلك يُشكّك في قوة الهوية الأمريكية، وإمكانية صمودها، كما يخدم مصالح المجمع العسكري الصناعي الذي لا يرى العالم سوى ساحة للوغى يُسوّق فيها ترسانته العسكرية، ويُجدّد من خلالها أسلحته ويُبدّد في شعوبها ذخائره الكاسدة. فلا تستغربوا إذا سمعتم يوماً ما أنّه مُرشّح لنيل نوبل للسلام.