تلويحة وداع أخيرة لشاكر السماوي

د. خير الله سعيد

شاكر السماوي :

الإيقاع المنفرد في القصيدة الشعبية العراقية .

محطات من سيرته الإبداعية .

تتميز مرحلة السبعينات من القرن المنصرم، في العراق، بتسارع الوعي السياسي والاجتماعي بين كافة طبقات المجتمع العراقي، ولقد لعبت اتجاهات الفكر الماركسي، وقوى اليسار العراقي الأخرى دوراً مميزاً في هذا الإيقاع، بحيث أن هذه المرحلة صارت علامة مميزة في كل تاريخ العراق المعاصر، حتى أن الدارسين لمختلف الاختصاصات، يلاحظون شدّة تسارع الوعي السياسي عند كل طبقات المجتمع وقد كان لتقارب القوى السياسية في العراق من بعثيين وشيوعيين وقوميين، دوراً بارزاً في عملية دفع هذا الاتجاه الى أقصى مدياته، لاسيما بعد اتفاق هذه القوى على تفعيل الوعي في المجتمع من خلال ما عرف ب" الجبهة الوطنية والقومية التقدمية" عام 1973 م، الأمر الذي سمح لقوى اليسار العراقي لأن تتمدّد بشكل سريع ومؤثر في كل جغرافية العراق، مما أربك البعثييّن- قادة السلطة في البلد- وانكأفؤا على هذا الاتفاق، ونفضوا أياديهم منه بعد أقل من خمس سنوات، أي في عام 1978م، لأنهم عجزوا- على صعيد الفكر والإبداع- من مجاراة بقية القوى السياسية، في هذا الميدان، وكانت الكارثة- بعد ذلك- قد حلت بالعراق.

* في تلك المرحلة، كان الشعر الشعبي يشقّ طريقه بسرعة فائقة الى قلوب الناس، حتى غدت مجالس الشعر الشعبي تفرض إيقاعاتها على الأعراس والمآتم وجلسات السمر، وتحوّلت "بارات" شارع أبي نؤاس في بغداد إلى مجالس شعر، كان نادلوها يميزون مجلس هذا الشاعر عن سواه، حتى أنّ " رجال الأمن العراقي" في سلطة البعث، كانوا يكتبون " تقاريرهم السرية" إلى مراجعهم، من خلال هذه الأماكن فتمَّ رصد نشاطات الكثير من الأدباء والشعراء والسياسييّن، ومعرفة ميولهم السياسية من خلال الشعر الشعبي.

كان تواجد الشاعر الشعبي المعروف شاكر السماوي في " بار سرجون الأكّدي وبار ليالي الأنس" فهما المكانان الأثيران لديه، وحول مائدته يدور الحواريون وعاشقوا شعره الشعبي ، وكان روّاد هذه المجالس أوّل الداخلين الى تلك البارات وآخر الخارجين منها ليلاً. وكثيراً ما حدّثني شاكر السماوي عن هذه المجالس , وشكل السَهرات فيها، ونوعية تلك الحوارات المبدعة في نقد الشعر الشعبي .

وما أن ينفض ذلك "المجلس الأدبي "حتى تسمع في اليوم التالي أحاديث وآراء في شعر شاكر السماوي، وما هو الجديد في شعره، الأمر الذي كان له صداه عند كل المتعاطين في هذا اللون من الشعر" وتطير" أخباره وقصائده الى بقية مدن العراق، ومن ثم يتناول الإعلام اليساري هذا الشعر الجديد، فيساهم في نشره وانتشاره .

* إستصحبني صديقي الشاعر/ رضا جونة العبودي/ ذات مرة الى إحدى سهرات " مجلس الشاعر شاكر السماوي" وأمضينا ليلة جميلة، كان الوعي فيها قد ساد على كأس النادل وضجيج الحضور، في تلك الليلة، قرأ شاكر السماوي قصيدته الشهيرة" نعم أنا يساري" والتي صاغها بمنطق فلسفي أضفى على كل الحاضرين الصمت والإصغاء والمتابعة، يقول فيها:

ما أعرف بالهيولي وبالسديم وبالفلك كل شيء

ما أعرف بالتلسكوبات الجديدة

بالظلام تشوف لو تعشي ؟

ما أعرف حقائق هالنجوم .. ولا قوانين الجذب والحث

لا ولا شلون الضوه بسامع سما يمشي

لكن أعرف :

- مثل أحلامي اليسارية- الشمس بكل يوم الغبشه

تشگ اجفون الظلمة وتطلع

من عين الكون إل عاليسرى

نشدوني : - شنهو اللّي يظل من الزمن ع الزمن ؟

نشدوني : - ليش الوكت ارقامه ع الساعة اثنعش؟

وهم نشدوني: - دورات الگاع اعلى الگاع

وين اتصير بوجه الساعة؟

گلتلهم ما أعرف ليش؟

وشنهو؟

و وين؟

ويمتى؟

وبيش؟

لكن أعرف.... مثل اسنيني اليسارية -

اميالات الساعة اتدور،

وتبقى اتدور لازم ع الجهة اليسرى

* * *

يمكن أفشل من اتحدّث عن الحب

يمكن أغلط من اتكلم عن الدم ، وعن تركيبه

وعن نبعه وعن وين ايصب

يمكن أجهل شكل الخوف بگلبي, وأنسى طعم الحقد

وأهمل عمداً لون الغيرة

ولا أتذكر وين اتصير

نكهة كل لحظة من الحب

لكن ما أنسى ولا أجهل

- مثل جروحي اليسارية-

گلبي انحط وعاش ويبقى

ايدگ ويرف... بعشه المبني. بين اضلوعي اللّي عاليسرى

* * *

أعرف:

- بس ما أعرف ليش-

روبسبير وحزبه الݘانوا

بالمجلس .. يحتلون.. وعمداً

كل مقعد ع الجهة اليسرى

أعرف :

- بس ما أعرف ليش-

من أعشگ وتغازل أسهل:

أغمز للمحبوبة بذبلة عيني اليسرى

أعرف :

- بس ما أعرف ليش-

خطوة كل جندي وكل ثاير

تبدي بشبلة رجله اليسرى

وأعرف :

لكن أعرف ليش:

- مثل افكاري اليسارية-

ثورات ابنادمنا الجاي

حبلت بيها الگاع اليسرى .

* * *

إتگلي... اتخاف..!!

- يمكن ويجوز وقد يحصل

خوفي يصير أكبر من خوفي اضعاف اضعاف

اتگلي:

- ما تغضب بالشدّه !!

- حصلت فعلاً !

من كتلوا جيفارا الصوره

گبال عيوني وجنت اتغدى

اتگلي :

- دوم اتحب اتخالف !

- لا ! بس بهاي اعترضك .. لا !!

هاك اسمع دگات الثورة.. بگلبي اتگلّك

- إيقاع الثورة بإيقاعي

مثل اشعاري اليسارية -

* * *

يصدح ݘم اكتوبر يحدي

العصر اللّي يبني الحب

 ويبني بنادم مثل الرب

ويبني ويبني : جنات بنادمنا الجاي

من عالم شمس بهالاته...

كل اكتاره اندارت يسرى .

* * *

كنت ألاحظ - وأنا أصغي إليه للمرّة الأولى، أنه كان يربط - في هذه القصيدة- كل خواتم مقاطع قصيدته الشعرية، ذات المضمون الفلسفي في" البعد اليساري" دون أن يقع في فخ الأيديولوجيا اليسارية- من حيث النظم- لكنه يتساوق مع محمولها اليساري بمعنى التوظيف الدلالي للمحمول السياسي، وهو واضح في أغلب المقاطع، ومما استرعى انتباهي، أيضاً، في تلك الليلة هو" الشكل الخاص برتم القصيدة" وشكل الأداء المصاحب لهذا الرتم، وترادف هذا الإيقاع الراقص، والذي يختلف عن بقية الشعراء الشعبيّين المجايلين له في تلك المرحلة، لاسيما في بداياته ، حيث انه كتب هذه القصيدة في صيف 1972 ،وظل هذا الإيقاع حاضراً في ذهني وسمعي ، حتى التقينا سوياً في دروب المنافي القسرية، وكانت دمشق أولى محطاته، ولمدة طويلة، قاربت العقد من السنين، الأمر الذي جعلني أتفهم أكثر تلك الإيقاعية الشعرية، بشكل أعمق وأصدق، وأن تعود بي الذاكرة الى " تلك الليلة" وتلك السنوات الخوالي من أيام النضال.

*كنت من المهتمين بالشعر، أكثر من زملائي وأصحابي من جيل السبعينات، وذاكرتي مازالت تحفظ الكثير من الشعر الشعبي والفصيح، لكن سنوات المنفى والتشرّد والعيش بين مختلف الثقافات والبلدان والشعوب "يشوّش" على المتابع بعضاً من اهتماماته، بحكم ضرورة العيش والتأقلم مع الظروف الجديدة ، وحين استقرّ رأيي – وأنا في كندا- بأن أفتح" سجلات الشعر الشعبي العراقية، كان شاكر السماوي الحاضر الأقوى في الذاكرة، رغم أني كتبت عن مظفر النواب قبله، لكن ذلك كان في دمشق، وكانت مناسبة بلوغه الستين من العمر، فتناولت قصيدته المشهورة" حݘام البريس "كان ذلك عام 1993 م، ثم كتبت أيضاً عن قصيدته" البنفسج" عام 2009 م، وكان شاكر السماوي حاضراً في البال وبشكل ضاغط، فرحت أعيد قراءة قصائده الأولى والهامة التي سيطرت على الشارع العراقي بذائقته الأدبية، إبان فترة السبعينات من القرن المنصرم، فراحت تلك القصائد توغز الذاكرة لتتحسس مواطن الجمال في تلك القصائد، ولتظهر ميزة التفرّد في الإيقاع العالي النبرة والممزوجة بشئ من الفحولة الشعرية والشخصية، في المفردة والمدلول ومن ثم تميز قاموس شاكر السماوي الشعري، فكانت قصيدة" حݘاية جرح" تأخذ حيزها في الحضور، وتنفلت من تلافيف الذاكرة، والتي ولدت ديوانه الأول بأسمها ونشرت في عام 1967 م ، وكانت بمثابة الرافعة الأولى في كامل بنيان شاكر السماوي الشعري، والتي علمَ بها على حضوره القوي في الساحة الشعرية العراقية، يقول شاكر في هذه القصيدة:

جرح يلتم جرح يدّي جرح ما طاوع الشدي

وجرح صبّت جروح الغير بيه وفاض عن حدّي

وتلاشت شواطي الروح ، بين الناس والعندي

وَلآوح بس اريد الگيش. وأصدّ وما نفع صدّي

ولَوَن حادي السنين ايريد، بوشالة عُمر يحدي

فلا هيَّ تنز روحي ولا تخاف امن القهر تصدي

تتشايم لون نيسان ، عمّ البور من بعدي

تشوف على سما البسمات الف ذكرى الشتل زندي

يتباهن بنات اهروش ، تاهت تيهة البردي

تاهت والحصد نشوان ، يركض ع الدمع والدّم

يسعدي:

 اهناك ݘالي الروح عالي وما ينوشه الهم

جرح يلتم

بعد موعيب تلگي السيف مثلوم ابطعن خنجر

لݘنّ العار كل العار ،على كل سيف لو زنجر

الجرح نيشان ذاك السيف ، ݘان لحومته يفتر

نجمة السيف تضوي ابليل من تزرگ تضوّي اكثر

شرف للنور ما فكر، بالمجازاة لو نوّر

يفيض او ماتلمه اجفون (حاتم) ع الزمن يكبر

يها ينته التحط ݘلمات ، بشفاف الفجر لو طر

أخبرك لو بساط الريح ، عافه الريح يتگنطر

ؤلو ما للبحر جرفين ، ݘا ما سندباد ابحر

هاي وذيݘ سنة كون ، لازم ع الشهم تسدي

يسعدي :

البور ذلة گاع، حرمه ابلا نسل تصدي

 جرح يدّي

أبد لا لا تگل للهَم ، رضيت ابعشرة العلگم

ولا ريدن جفن بالضيم، يتندّى ابضباب الهم

ونݘان السهم مض بيك، عيب اعلى الجرح يندم

هنياله أليشگ الموت ، يرشف من حلاة السِم

هنياله اليكت بالصيف زخه اعلى الهرش يحلم

يها يلي تشيل اسنين ، باݘر والجرح مالم

باݘرنه ابخيال اليوم ، عرّيس وشموعه الدّم

باݘرنه اعلى جرح الطيف جرح اعلى الجرح بلسم

دشد وشوف ذيݘ اجروف فضه وكل فرس أدهم

تخفگ فوگ هام الليل هلهوله اعلى جنح الطير

يسعدي: انت وجروح الغير تذكاره اعلى ݘف الخير

جرح صبير .

 28/4/1967

 * * *

* الطابع " الكلاسيكي" للقصيدة في أغلب مقاطعها، يرسم لك صوراً رمزية تغيرُ بكَ نحو تخطي مديات الحزن، وتؤشر على فعل مستحضر، يتساوق مع المرموز، من حيث القيمة والاعتبار، كونه شئ محسوس في وجدان الشاعر، يجاهر به أحياناً، وأحياناً يضمّره، لشد المتلقي إليه، ومن ثم إلزام هذا المتلقي على المواصلة والتفكير في محمولات القصيدة ومدلولات الرمز، في آن معاَ، وهذه واحدة من المفارقات العجيبة عند شاكر السماوي، وهو يضعها في بداية تألقه الشعري في العراق، لنتأمل هذا البيت الجميل من القصيدة :

" وَلآوح بس اريد الگيش...وأصدّ وما نفع صدّي " أنظر الفعل" ألاوح" كم هو جميل باستخدامه ومعناه الذي يشير الى " تأشيرة اليد" لطلب النجدة ، و الفعل الآخر" وأصد" أي أنظر الى كل الجهات، ولا أرى أي بارقة أمل من فعل "سياسي" يحتمله التأويل في مضمرات البيت، وتلك أدانة لقوى اليسار الهلامي ، الذي لا يدرك معنى التلويحة والنداء من كل المبدعين - وقتذاك-

أو هذه الإيحائية المتماهية مع الطبيعة السومرية، في تلك الربوع :

" يتباهن بنات اهروش ، تاهت تيهة البردي " هذا الرمز القوي الممتد الجذور بالأرض ، والذي ترمز إليه مفردة" اهروش" لتحوم بكَ نحو خلجات الروح التي تتيه مع هذا الامتداد المائي المخضل بقصب البردي، وكأنه جزء من عروقك.

* تلوح- حالة من الفحولة- في ثنايا القصيدة، والشاعر هنا، يحمل في طيات نفسه، ألق التحدّي الثوري، المشحون بعبق التاريخ وأصالة الفولكلور العراقي وامتداداته السومرية، ضمن البقعة الفراتية : " بعد موعيب تلگي السيف ،مثلوم ابطعن خنجر" أو هذين البيتين الآخرين :

" لݘن العار كل العار على كل سيف لو زنجر "

الجرح نيشان ذاك السيف ݘان لحومته يفتر "

ثم يخاطب الإنسان الذي يريد والذي يتطابق مع روحه الداخلية، ويتماثل معها بالحس والشعور، وكأنه يريده على شاكلته هو :

يها ينته التحط ݘلمات ، بشفاف الفجر لو طر

أخبرك لو بساط الريح ، عافه الريح يتگنطر

وتكاد تكون كل أبيات القصيدة تخضع لمنظورات الشاعر الروحية ، ذات المحمول السياسي، الذي هو يريده وليس ما تريده" الأحزاب التقليدية" بمعنى أنه يريد " المثال" لا الرمز الأجوف، لذلك ترى الشحنات المتوترة ترفع روح التحدّي في كل القصيدة، ويعلم على دور الناس في مسألة رفع وخفض الرمز، فيما إذا تخلّوا عنه، والذي استخدم – معادله الموضوعي- بكلمة" بساط الريح" كرمز للقائد والريح كمعادل للناس، وبدون الريح لا وجود للبساط ، ومن هنا شعرنا ،في عام 1967 من أن شاكر السماوي يحفز فينا روح الإقدام والتمرّد على ما هو سائد، ولا ننسَ أنه شاعر يساري، مشاكس ، بخصوصيته اليسارية لقوى اليسار المخصي والمتعالي على الواقع، بكل خصوصياته، فتراكم حالة الصراع- في نفس الشاعر، وتأثيرات المجتمع، لا تلبي حاجته الثورية، لذلك فكَّ الإرتباط بآصرته التنظيمية مع ذلك اليسار في نهاية الخمسينات، كما أعتقد، ووفق ما أخبرني هو بذلك ، وتحديداً في عام 1959 م ، لكنه ظلّ على إصراره المتحدّي للواقع السياسي ولزوغان اليسار عن مهمته اليسارية الثورية، لذلك نرى أن " حݘاية جرح" تبرز من خلال المضمون والتسمية" للديوان" وهو : موقف معلن من قبل شاكر السماوي ، للتعبير عن ذاته اليسارية، ضد هذا اليسار، وضد الواقع السلبي الذي يتحرك به هذ اليسار العراقي، ف "حجاية جرح" هو ذلك التاريخ المسربل بالآلام والتحديات لكنه يظل معبود لحظته التاريخية، بوصفه حالة التزام ثوري، يستحق هذا الرثاء وهذا الدفاع .

* هذه القصيدة، هي التي كانت "جواز السفر الأول" للدخول الى حومة ميدان الشعر الشعبي العراقي، بقوة واقتدار، ومحايثه واحتكاك لكل القمم والقامات الموجودة فيه، لذلك أراد شاكر السماوي أن يقدّم نفسه لهذا الوسط الثقافي- الشعري، بهذه القصيدة،، والتي ولدت" الديوان الأول" باسمها ، فيما بعد، إذ صدر هذا الديوان عام 1970 م ، ومما يلاحظ على القصيدة من بدايات انطلاقاتها كانت تحمل روح التحدّي الأدبي والسياسي :

ونݘان السهم مض بيك، عيب اعلى الجرح يندم -1-

هنياله أليشگ الموت ، يرشف من حلاة السم -2-

هنياله اليكت بالصيف زخه اعلى الهرش يحلم -3-

يها يلي تشيل اسنين ، باݘر والجرح مالم -4-

باݘرنه ابخيال اليوم ، عرّيس وشموعه الدّم -5-

باݘرنه اعلى جرح الطيف جرح اعلى الجرح بلسم -6-

هذه الأبيات الستّة، تحمل بمضمونها كل صور التحدي وبروح فروسية عالية، بل فيها من إصرار على تجاوز الواقع، والتسامي فوق الجراح، وخلق" تعويذة الروح المقاومة" البيت 1 – والإصرار على الإقدام برشف" كأس السم" بوصفه "مضغة" لفطم روح الإندحار- البيت 2- على اعتبار أن حامل سني النضال- البيت4- والناظر نحو الغد" باݘر" هو صورة ذلك " العريس" الذي يعلّم- بوصفه ثوري- أن شموع العرس من الدم- البيت5- لكن هذا الإصرار للتحدّي هو الذي يرسم " الطيف" أو الحلم القادم ، من خلال "تراكم الجروح" على بعضها يولد "البلسم" الشافي لها – البيت6-

* في عام 1966م ، كان شاكر السماوي قد انتقل الى بغداد من محافظته الديوانية لإكمال درسته الأكاديمية في " الأدب الإنجليزي "وهذا يعني تراكم وازدياد الخبرة المعرفية في شؤون الثقافة، من خلال دراسته الجامعية في بغداد، والاحتكاك في المجتمع البغدادي ونخبه الثقافية ، وكان للشعر فيه النصيب الأوفر، فما من حارة في بغداد إلاّ وفيها فنان أو شاعر أو مغني أو مسرحي أو أكاديمي، كما هي طبيعتها العباسية ، منذ أن أنشأها أبو جعفر المنصور عام 144ه/762م .

إنّ ظهور ديوان شاكر السماوي الأول" حجاية جرح" عام 1970م ،بطبعته الأولى، هو مغامرة قوية تحتاج لعناد المواجهة الشعرية من جهة، ومن جهة ثانية، توكيد ثبوت اليسارية في الانتماء السياسي، إذ أن هذه الفترة، ساد فيها الشعر السياسي على مضامين الجمال في النظم الشعري، هذا أولاً، وثانياً، كان مظفر النوّاب قد سيطر على الساحة الشعرية في العراق بأسلوبه الحديث في نظم القصيدة الشعبية، بمعنى أن مواجهات الشعر- في السبعينات- خلقت أنماطها الخاصة، من حيث التلقي والتذوّق ورغبة الجمهور" السياسي" لسماع القصيدة السياسية، وتفضيلها على غيرها، وهذه الإشكالية، جذّرت من أساليب القصيدة السياسية في العراق وفرضت إيقاعها على المشهد الشعري، في القصيدة الشعبية، إن لم نقل في عموم الأدب العراقي، لكنها- بنفس الوقت- أدلجت" النظرية الجمالية" في الرؤية والتقييّم للنظم الشعري، مما ولد نقداً هزيلاً، سيد أحكام الأيديولوجيا على الأدب بعامة، وعلى الشعر بخاصة، ومن ثمّ أبعد هذا الحال، الكثير من الشعراء من ساحة المواجهة الإبداعية في الشعر، لكن الفحول من الشعراء أثبتوا قدرة فائقة على البقاء والتحدّي والإبحار في ظلّ هذه الموجة العاتية للأدب اليساري في العراق، وأسدل الستار على بعض" الشعر الكلاسيكي" وخصوصاً في الإعلام، وبقى هذا الأدب حبيس المجالس والأخوانيات والشعائر الدينية، وخصوصاً المناسبات الحسينية في المحرّم من كل عام ،بعبارة أوضح، تسيد الشعر الشعبي الحديث على اللوحة الجماهيرية والمشهد الإعلامي، وانحسر مد القصيدة الكلاسيكية .

* وشاكر السماوي، كان واحداً من أبرز شعراء العراق، ممن ساهم في سيادة نمط القصيدة الحديثة في الشعر الشعبي العراقي، بتساوق وبموازاة الشاعر مظفر النوّاب، وهذه الحالة فرضت عليه " حالة تحدّي" أخرى نظراً لقامة النوّاب الشامخة، حينما وضعه النقاد في هذه المنزلة الأدبية الرفيعة، وقد كان أهلاً لها بكل اقتدار وشموخ، ودون تردد، بمعنى آخر، أن شاكر السماوي بدأ يهجس لقصيدته الشعبية وضرورة تمايزها عن قصيدة النواب تحديداً، لأن النوّاب هو المسار الوحيد الذي يوازيه في سكة الشعر الشعبي، لذلك بدأ شاكر السماوي يركز على" بنيان" قصيدته الخاصة ، بكل ماتعني الخصوصية الشعرية، من حيث البناء والمفردة والتشكيل والرؤية والإيقاع والموضوعات والفرادة في النظم، من دافع يدركه السماوي ذاته هو: أن معيار القصيدة هو قدرتها على البلوغ لفؤاد المتلقي والتأثير فيه، وخلق " ذائقة خاصة" عند متلقي شعر السماوي ونقاده، أي أنه يريد من الناقد أن يخضع لذائقته الحسية المتولدة منه/ أعني شاكر/أي أنه يريد أن يكون المعيار النقدي للقصيدة يكون الذوق فيه هو الغالب، من حيث مواطن الجمال في القصيدة والشعور بقوة الفكرة، من حيث المضمون، أي كما يقول صديقنا الناقد يوسف سامي اليوسف " إن أوّل واجب من واجبات القصيدة هو أن تخلق شعورً أصلياً في وجدان المتلقي"-أنظر القيمة والمعيارص16 - وشاكر لصيق بهذه الفكرة ويلحّ عليها، لذلك أن نقاده قلة، ويتهيبون الخوض في مسارات شعره ، إضافة الى وجود " خصوصية" في نظم قصيدته لا تخضع لميزان نقدي معين بل تخضع لإرادته هو، ضمن السياق الشعري الذي يرتئيه وضمن ضوابطه وشروطه، لذلك نرى أن نقاد شعره قليلون، بالرغم من سعة انتشاره، وسطوع نجمه العالي ، وبالرغم من أن " نقاد الأدب الفصيح قد تناولوه ، لكنهم لم يسبروا غوره .

* كيف ينظم شاكر السماوي قصيدته ؟

1- الإيقاع المتوالي المنفلت من هيمنة التقفية والوزن:

برزت هذه الناحية عند شاكر السماوي منذ قصائده الأولى، وظهرت حتى في قصائده الكلاسيكية، بمعنى أن " الإيقاع" هو الصوت الأعلى في نظم القصيدة السماوية، ففي قصيدة- كلاسيكية- نظمها شاكر في 28-3-1968 م كانت بعنوان "همس الخواطر" نظمها على شكل( رباعيات) يقول في الرباعية الثانية:

غيمة نور اتطوف بدمي ... وتمطر گمره

يغسل ظيمي وظيم اظنوني... بخمرة سرّه

واصحيت من الصحوه وگلبي... امحير بامره

شاف الروح بݘف الدنيا... جمره بجمره

هذا الإيقاع الراقص، هو الذي سيحدد مسارات شاكر السماوي الشعرية، في أغلب قصائده الحديثة ، لاسيما وأن حرية النظم للشعر الحديث تساعد كثيراً في التخلص من ربقة القافية والوزن .

2- هيمنة الانفعالات الشعرية في لحظة ولادة القصيدة :

 يقول شاكر السماوي في أحد حواراته: "إن معظم قصائدي، بما فيها متوسطة الطول، كنت أنتهي من كتابتها في جلسة واحدة"-

وهذا يعني أن هيمنة موضوع القصيدة يحرّكه الإنفعال الشخصي، فيما يرسم الإيقاع مسارات هذا الإنفعال في نظم القصيدة، وهذه الحالة تكاد تتنمذج عند شاكر السماوي في قصائد الستينات من القرن المنصرم، حيث يتفاعل فيها جمال الصورة الساحرة المتساوق مع هذا الإيقاع، يقول شاكر في إحدى مقاطع قصيدته" مع الوجه الثاني" والتي نظمها بتاريخ 24-2-1968م في بغداد :

تهت بالنور.. يا بو النور

دهاك العين.. دخذها اوياك

دليها اعلى نبع النور

بلݘي العين من تندل... تدليني

هنا نلمس وندرك أن الإيقاع هو الذي يقود الشاعر الى مساراته، والشاعر يتيه بروحه مع آفاق الصورة لتنداح مع مَديات الخيال، دون الإلتفات الى( قانونية النظم الشعري) ضمن ضوابطه الفنية" الخليلية" بمعنى أن – بذرة الإيقاع- تنمو بقوة عند شاكر السماوي وتفرض هيمنتها على مسارات قصيدته .

 سألته يوماً، من خلال التليفون: " هل أنت تقود القصيدة أم أن إيقاع القصيدة يقودك!؟ أجابني: بمجرّد التماع الفكرة في ذهني، فإن الإيقاع يدفعني للتمرّد حتى على المرض، كي أنهض وأكتب القصيدة ضمن هذا الإيقاع" والإيقاع عند شاكر أحياناً طويل وأحياناً قصير، وموضوع القصيدة عامل مؤثر في شكل الإيقاع، يقول شاكر في إحدى مقاطع قصيدته" الوداع عند الفجر" والتي كتبها في 18-2-1969م

مشى بينا الوكت خطوات

يعت بيها الدرب وتعت

مشى وشما مشى بينا... نظل نمشيه

يارفت دليلي ورجفة اجفوني

من يحݘي الگلب وياك... وآنا أسكت

لاحظ هدوء الإيقاع يخضع لهدوء الانفعال، بحكم الصورة الشعرية لمخاطبة وجدان المتلقي، وهو هنا( الحبيب الغائب) ورمزياته .

3- بقاء الإيقاع ناظماً حتى عند الانتقال من فكرة لأخرى، في كل الصورة الشعرية ، قصر أو طال هذا الإيقاع

يقول شاكر السماوي، في مقطع آخر، من نفس القصيدة أعلاه :

يبيّ أسكت.. بعد واسكت

واهدي الشوگ

لݘني اشما سكتت واسكت

ألگى الشوگ .. يبوگ الروح مني

وعالجفون يجيك... يحݘيني

 * * *

اشكثر واشگد

يدولبني الظنون وما جزيت الحد

اشكثر واشگد

يبعدني غناي

صدح شوگي

على قيثارة ضلوعي

وما سمعني احد

اشكثر وشگد شربني اغناي

ولا خليت بيني وبين

جرحي سد .

كم هي جميلة هذه النقلات، بين صورة وأخرى،، وإلى كم تماهى الإيقاع مع هذه النقلات الروحية، رغم أن تكرار بعض المفردات في الأبيات الشعرية، الاّ أن هذا التكرار خدم البعد النفسي في شفافية الشاعر للتعبير عما يجوس في داخله من مشاعر تريد التعبير عن محبوساتها في هذه الإيقاعية الناظمة لمسارات الصورة الشعرية وتموسقاتها، مع ملاحظة أن شاكر السماوي بدأ في هذه المرحلة من الستينات يخلع معطف القصيدة الكلاسيكية، وكان الإيقاع، في قصائد تلك المرحلة من العوامل المهمة والقوية في هذا الخلع الفني .

4- جمالية الصورة في النظم تتهادى والإيقاع المموسق عند شاكر السماوي .

تؤشّر- نهاية الستينات- على شعر شاكر السماوي بنوع من النضج المتماسك، في إبراز الصورة المندلعة من طبيعة الأشياء والمصوّرة شعراً في مخيلة الشاعر، والتي يقتنصها من الغموض المغلغل في صميم الكينونة، حيث يلتقي الروحي بالوثني في معادلة الطبيعة المعكوسة شعراً في وعي المبدع، إذ تتشكل صورة الطبيعة عند شاكر السماوي بشئ من محمولاته الشعبية، كموروث قوي الحضور في بديهية الوعي عنده، حينما يعبر عنها- جمالياً- ضمن إيقاعه المنفرد في نظم القصيدة الشعبية ، يقول السماوي في مقطع من قصيدة" الوداع عند الفجر" الآنفة الذكر:

ويطفينه الصبح.... والطين

يبرج زيبگه بطينه

 وتطفينه...

وعلى ظلمة ضوه الدنيا الدرب رَد نا

 رماد... ويَ الرماد الريح تحدينا

و وَدعنك رفيف دماي

أودعنك واخلي لكَ على الثيل

خيالي طارش ومكتوب

ما شايل عناوينه

يخبرك..... يارفيج الروح

تراه الشوگ... عندي شوگ

عذري بكل نياسينه

أخاذة هذه الصور، وخارق هو التوصيف لخلجات النفس الداخلية بهذا الإسقاط الشعري، وهذه الحالة المتقدمة في النظم عند شاكر السماوي، هي التي أهلته بامتياز لأن تكون قصيدته ، في سبعينات القرن المنصرم فريدة في نظمها وشكلها، ومضمونها، وجرسها الخاص .

* شاكر السماوي في سبعينات القرن العشرين :

قلنا، أنَّ فترة السبعينات، من القرن المنصرم ، في العراق، هي أخصب فترات الإبداع الشعري، فصيحاً كان أو عامياً، إذ برزت طاقات شعرية ، لم تتكرر فيما بعد، حتى سقوط الديكتاتورية في العراق عام 2003م ، وقد كانت قصيدة شاكر السماوي" العشگ والموت وبنادم" التي كتبها في مطلع عام 1972م ، واحدة من أشهر قصائد تلك الفترة ،حتى أنها أصبحت حديث الشارع العراقي برمته، بل وانتقل تأثيرها على أوساط النقد الأدبي في بعض الجامعات العراقية، وأحدثت هزّة مضادة في إعلام السلطة البعثي، حيث أصدرت رئاسة الجمهورية/ مرسوما / منعت فيه كل وسائل الإعلام العراقية من نشر" الشعر الشعبي، حفاظاً على سلامة اللغة العربية" كما تدّعي الدولة .

ولهذه القصيدة الشامخة حكاية طريفة ، وتداعيات سياسية وثقافية، مازالت عالقة في الوجدان العراقي ، حتى هذه الساعة ، تقول القصيدة:

العشگ والموت وبنادم

النور غافي ،

والشوارع، ݘن شرايين انتهت بيها العمر

والشعارات العتيگة...

إتذب ضواها

إتذب حݘيها

إتذب تعبها

وتغفى بعيون اليُمر

والحياطين العتيگة الݘودرت فوگ الصبر

إتثاوبت بيها صورها، المنطقي بيها الحِبر

إتبسمرت بيها جثثها

بلام لاذت من تعبها

بوحشة اِخيال الجسر

* * *

النور غافي،

والحياطين الجديدة إتشرعبت شاهد گبر

إتحنط الصاحي بسحر

إتحنط الغافي بسحر

إتحنط الدنيا بتعبها

اِلطش تعبها بكل كتر

وآنا بيها، ريه تتنفس حݘيها...

من الظنون

من العيون

من الشبابيݘ التغشت بالستاير والحصر

* * *

النور غافي،

والندى السهران يرسم كل ضوه الدنيا فجر

والنسيم يمر عليّ,

اشراع بايگ روحه من كل السفن

والسكوت اليمشي بيّ

گمره تسجني بضميري

سفرة واحلام وحزن

وآنا خطوة، حطها جدمي بتالي نيته

تراب شط عافه النبع

وآنا خطرة ، طشطشتني فوگ وجدان العمر

كاولي عافه السِّمع

وآنا وحشه ...

تكبر بعين اليمر

تكبر بدمي گبر

تكبر بروحي كفر

وآنا بيها ادروب تسهر ،

تنتظر جية غريب

ينتظر ما ينتظر !!

* * *

دمي حكمة، تعبتها وتعبتني

وتعبت كل من يمر

وآنا واليعبر حبر

وآنا واليعبر نشد

يلهث بكلّ الحبر

نشدنه...[ والنّشد إحنه ]

نشدنه... [ والنشد محنه ]

نشدنه الجدَم والسݘه والنيه ...

لا نيه الدرت

لا سݘه الدرت

ولا جدم الدرى اشيدري !

 نشدنه من الوكت:

 هلبت ...؟

طلع ما مش وكت يدري

نشدنه الصنطه ... ما تدري!

نشدنه الݘلمة ... ما تدري !

ونشدنه اليدري ... ما يدري !

وللقصيدة تحليلات قادمة ، تكملة للبحث .