وقفات عند كتاب أضاحي منطق الجوهر

د. حمزة رستناوي

[email protected]

د. خالد محمد كوكو/ السودان

كتاب ( أضاحي منطق الجوهر ) هدية  تلقيتها من مؤلفهِ الصديق حمزة رستناوي , في زمن باتَ الناسُ فيهِ يُهدون بعضهم الورود و الشوكولا ..  كم هو جميلٌ أن يُهديكَ الآخرون: معارفهَمْ وعصارة تجاربهمْ في الحياة!

جاء العنوان " أضاحي منطق الجوهر " غريبا نوعا فقد  استدعى الى ذهني عناوين كتب التصوف القديمة الصفراء , و على كل حال يتناول الكتاب بالفضح و التعريته لنماذج من الخطاب الاسلامي المعاصر , الخطاب الذي أغرق عدد كبير من شبابنا في مستنقع التطرف و الغلو لدرجة قتل النفس أو الآخرين , فاستسهال قتل الآخرين و العمليات الاستشهادية / الانتحارية سمِّها ما شئت حسب موقعك , دليل على هذا السقوط في أتون الخطاب .

الكتاب يجعلُكَ -في أحيان كثيرة - و أنتَ تقرؤه تبتسم لنفسك , باعتبارك كنت ضحية لفكرة كنتَ تظنّها  جوهر فإذا هيَ  بدأت تخبو أمام عينيك , باستخدام  مساطر المنطق الحيوي. واقتراحي أنّ هذا الكتاب يحتاج الى مُدارسة و مناظرة مع أصحاب كل نموذج مِنْ نماذج الخطاب , و هو كتاب قد يُغني كثيرا من الجمعيات الرسمية عن اصدار الفتاوى الدينية ,أو إصدار القرارات السياسية بتجريم أو تكفير فئة أخرى.

يجب مناقشة الاسلاميين بالحجة و الحوار , فالقوة و الحلول الأمنية  لا تخلق قناعة خصوصا عند مَنْ يعتبرون الموت جائزة و هم يُنشدون  ( والموتُ في سبيلِ اللهِ أغلى أمانينا)!

أضاحي منطق الجوهر من الكتب الفلسفية العميقة , ربّما يحتاج لمختصّين و أكاديميين لتقيمه ,و لكنّي ساترك انطباعي عنه , فهو واحدٌ من الكتب العظيمة يفيد الناس في حل مشاكلهم و يحتوي على طروح تصلح لوضع و اصلاح مناهج التعليم و التربية.

الكتاب في توصيله لنظرية المنطق الحيوي سقط في بركة التكرار و الشرح المُسهب ,بصورة تجعلك تسأل عدة مرات , هل أنا لهذه الدرجة من سوء الفهم ؟!

الكتاب يعرض لمساطر تأخذها معكَ لقياس كل فكره أو شيء , و لكن نتساءل ألا يمكن قياس الكتاب نفسه بهذه المساطر ليشرب من نفس الكأس.

و الكاتب ضمن محاولة ترسيخ فكرة منطق الجوهر و الاسترسال في عرضها  نجده يصدمنا بالأسئلة الممنوعة مثل:

-" ما رأيكم هل الله جوهر أو طريقة تشكل و شكل الهي ؟"

و كذلك يقفز علينا بسؤال آخر بعد عرض الآية الكريمة ( و يسألونك عن الروح , قل الروح من أمر ربي , و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا )

-يقول : "قد تتوقع و يسأل شخص من هو ربي؟ هل هو روح أو مادة , أم هو مادة و روح ..الخ ؟" أسئلة يطرحها الكتاب تثير فينا الرهبة  و تخدش جدار الصمت , تجعلك تتعوذ من الشيطان و تستغفر الله مرات و مرات! و لكنها من جهة أخرى , أسئلة قد تظهر في نفسك مرة و مرات , و تقهرها بالتجاهل.

المنطق الحيوي –وفق الكتاب – هو منطق متعدد اللحظات ,يرفض الثنائيات , و يستخدم تقنية مربع المصالح الذي نجده متكرر على صفحات الكتاب لاستخدامه في المقايسة.

مثلاً : أنا أحبُّ زيد..أنا أكرهُ زيد : هذهِ قناعتي

و لكن عبر مقايسات المنطق الحيوي نجد أربع خيارات لموضوع القناعة.

أنا أحب زيد = أنا أميل أكثر الى حب زيد.

أنا أكره زيد = أنا أميل أكثر إلى كره زيد.

و إذا أدخلنا هذا القياس الى مفهوم الايمان بالله نجد:

أنا أؤمن بالله = أنا أميل أكثر إلى الايمان بالله.

أنا لا أؤمن بالله = أنا أميل أكثر الى عدم الايمان بالله.

و هكذا دخلنا في فلسفة  وحفر للأعماق و احتمالية تمييع الاجابات ,  و خلقنا حولنا جدليات للفهم و الرؤية. إنّ هناك أشياء لا تحتمل خلق حالات من الضبابية حولها ,  فإمّا أن أكون أؤمن بالله أو لا أؤمن , إمّا أن أحب زوجتي أو لا أحب زوجتي

فالقول : أنا أميل أكثر  الى حب ّزوجتي , يزرع الشك في قلبي و ربّما يجعلني أبحث عن امرأة أخرى أحبها فقط بكل ما يعني الحب. و لو اكتفيتُ فقط بمنطق الجوهر الثابتْ ( أنّي أحب زوجتي )  لما احتجتْ لكل ذلك..و هكذا قناعة الايمان بالله ..و عليه قيس.

بهذا الرفض للمقايسات المنطق الحيوي ,  قد يعتبرني الكاتب ضحية لمنطق الجوهر , و لكن  المنطق الحيوي ما يرعبنا فيه , إمَّا أن نأخذه كله , و نخضع له كل فكره أو قناعة أو خطاب فكري أو عقائدي أو حتى عاطفي ,  أو نتركه كله ونمضي في استسلامنا لمنطق الجوهر ربّما كضحايا حقيقتين. و لكن لنسأل أنفسنا و الكاتب لماذا لا نجعل هناك جواهر مطلقة مقدَّسة لا يأتيها القياس و مساطر المنطق الحيوي كالإيمان بالله  و نجعل المساطر تجري على ما دون ذلك . حيث يبقى الايمان بالله و الدين حقيقة و جوهر ثابت لا يقبل الجدل و لا يقبل المساطر. و لكن الممارسة لهذا الدين هو من يجب أن يقايسه المنطق الحيوي , فالأفعال التعبدية لهذا الدين و السلوك و الممارسة الحياتية لهذا الدين تختلف من مجموعة الى أخرى..

فمثلاً : تنظيم القاعدة لديهِ قناعة  تختلف عن غيره و يتبنّى منطق القتل على الهويّة فهذا صليبي و هذا كافر و هذا فاسق ..يؤمنوا بالاستشهاد أو الانتحار كوسيلة لنصرة الدين مثل أن تفجر مجمَّع تجاري يذهب ضحيّته الابرياء نصرة للمسلمين المُضطّهدين في فلسطين ؟!  فالدين هي جوهر سامي لا يمكن مقايسته ,و لكن ممارسات تنظيم القاعدة و أفكاره هي التي يمكن أن يقايسها المنطق الحيوي,فالدين  جوهر و التدين شكل و حالة تشكُّل. و يبدو لي أن الكاتب الرستناوي نفسه يعي هذه الاعتراضات  حيث يورد في ص 23 " أنا هنا لا أقايس الاسلام كدين ,فلا وجود لإسلام مجرد " و أكثر من ذلكَ يترك لقارئه الخيار قائلاً : "هل تريد مخرج الضحايا أم الأضاحي؟..هل نحن ضحايا .." .

و في الرد على الكاتب أقول : إن الاسلام هو دين له أركان و أسس , و له قرآن و أحاديث و شريعة و طقوس فهذا هو الاسلام ,هذا هو الجوهر الذي ينطلق منه الخطاب الاسلامي المعاصر ,فإذا أراد الكاتب مثلا مقايسة و تفنيد خطاب بن لادن على سبيل المثال , يكون الكاتب قد ترك مقايسة الدين الاسلامي كجوهر ,و لجأ الى مقايسة الشكل أو التشكل و التحول و الصيرورة الحركية للإسلام الذي اعطاه  ابن لادن , و بالتالي نحن لسنا ضحايا منطق الجوهر كما يزعم ,  بل ضحايا منطق العارض و منطق الشكل و منطق الافكار التي تشخصها ذاتنا القاصرة و التفاسير لنصوص الدين.

الكتاب في تناوله لنماذج الخطاب الاسلامي المعاصر كنت أتمنى أن يتناول خطاب الحركة الاسلامية في السودان ,و شيخها حسن الترابي ,كتجربة شاءت لها الاقدار أن تجد طريقها الى السلطة لفترة تقارب خمسة و عشرين عاما, مارست فيه الجهاد في جنوب السودان , و جعلت من روسيا و أمريكا أعداء(أمريكا و روسيا ..) و هي واحدة من الشعارات التي عاصرتُها و كانَ يُهتف بها في اللقاءات العامة , و لكن الكتاب تناول بشكل عابر في معرض صفحاته فكرة الجهاد  في جنوب السودان ,و الصراع مع دول الجوار.

أكثر مقايسة لفتت انتباهي في الكتاب هي مقايسة خطاب أسامة بن لادن , لأنه شخصية شغلت الدنيا و الناس , و هتف له الناس ,  و وقف ضده آخرون..فخطابه عندما تقرأه او تسمعه قبل المقايسة يأسركَ و قد تسقط ضحية لمنطق الخطاب ,  و لكن بعدَ المقايسة تجد قناعتك قد اهتزت. بشكل عام  لا أستطيع أن أعاكس ما جاءت به نتائج المقايسات لسببين : الأول : كوني أقف مع الكاتب في نتائجه , و السبب الثاني أنّ لكل خطاب اسلامي مناصرين , هم أجدرُ بالمرافعة عنه.

خلاصة القول:

الكتاب محكم جدير بالاقتناء , جريء  سلس اللغة يمكن القارئ البسيط التجاوب معه ,و يمكن للمثقف العميق أن يجادله و للأكاديمي الضليع أن يجد ضالته فيه. و هذا الكتاب من جنس كتب التنمية البشرية  مثل كتب الاستاذ ابراهيم الفقي , فهو  يصلح  لتطوير القدرات البشرية و تخفيف مشكلة سوء التفاهم البشري , خاصة في ظل انتشار التطرف حول العالم.  والكاتب على امتداد صفحاته  يحاور نماذج من الخطاب الاسلامي المعاصر مثل خطاب ابن لادن –القرضاوي - الخميني –التيجاني السماوي - جودت سعيد - محمد شرور - ابن باز - فرج فودة . و قد يخرج القارئ من الكتاب بقناعة و أفكار جديدة , لقد وفِّق الكاتب بكثير من المقايسات , بما يجعلها صراحة نماذج يحتذى بها في محاورة أي فكرة , و الوصول بها الى شاطئ آمان , يحرر معتنقيها من عبودية الفكرة و التضحية بأنفسهم و بالآخرين. و بسطر واحد : هذا الكتاب يجعل القارئ يتحرر من قيود , و من أي فكرة مسيطرة على ذهنه , و يبدأ هو بالسيطرة عليها.