ثمانون – د. مها يونس : أطباء أكاديميون : رحلة الماضي والحاضر

clip_image002_6a75c.jpg

تهتم دول العالم المتقدّمة بالتاريخ والتوثيق في مختلف مناحي الحياة منطلقة من قاعدة أساسية تستند إلى القناعة بأن كل "حالة" في الحياة الإنسانية تأتي متواشجة ومترابطة مع كل الحالات الأخرى في الأنشطة البشرية المختلفة مهما بدت دقيقة وبعيدة. ولهذا تجد هناك من المؤرخين من يتخصص بحياة شخص معين أو نشاط جزئي تخصصي دقيق جدا ناهيك عن التركيز على الفعل الإنساني في الجوانب المهنية الرئيسية المعروفة. إنّ الثقافة تؤخذ ككل لأن الإنسان نفسه لا يتجزأ على الرغم من أن اتجاهات ما بعد الحداثة صارت تمزّق النشاط الإنساني وتحوّله إلى مجالات "ذرّية" تنقصها النظرة الكلّية. وفي المجال الطبي نلاحظ أن الاهتمام بالتاريخ الطبي كإطار عام وشامل يحكم حركة الإنسان في حقل العناية الصحية التي هي – في النظرة العلمية الإنسانية الجدلية - الصحيحة جزء مركزي من عمل "تاريخي" شامل لكن منتقص المركزية لأن لا تاريخ حين يمرض الإنسان ويموت.

وعندنا حيث الفوضى "المعرفية" تعمّ كل شيء، وحيث العمل التاريخي "لغوي" أكثر منه إجرائي تحليلي، لم يكن المؤرخون الطبّيون الفعليون – وبعضهم لا ينطبق عليهم تعريف المؤرخ الدقيق إذ لا يعني وضع كتاب واحد في التاريخ الطبي أن الشخص صار مؤرخاً – يزيدون على عدد أصابع اليد الواحدة. نذكر منهم – وفي المقدمة – عبد اللطيف البدري وأديب الفكيكي صاحبي الجهد المميز والواسع والكثيف في هذا المجال، والدكتور كمال السامرائي وعبد الحميد العلوجي وغيرهم. والآن يأتي كتاب د. مها يونس "أطباء أكاديميون : رحلة الماضي والحاضر" (الذي صدر عن دار ضفاف الشارقة/بغداد للطباعة والنشر) ليسدّ ثغرة في مجال توثيق "وتأريخ" المسار الطبي وحوادثه وشخوصه في المرحلة المعاصرة ، ومن هنا يحمل امتيازه. فالكتب التي وُضعت عن المرحلة المعاصرة من تاريخ الطب العراقي (في المجال الطبي الباطني) بهذه الصورة الشاملة المعزّزة بالصور والوثائق قليلة جدا.

وقد التفتت المؤلفة في (خاتمة) الكتاب إلى هذا الجانب المرتبط بموضوع (الجدوى) من كتاب من هذا النوع فقالت :

"سألني سائل: وما الفائدة من كتاب كهذا ؟,يمكن أدراج السير الذاتية لاي موظف في الدولة في أي موقع الكتروني فحسب. كان للسؤال صدى في نفسي حيث تساءلت لعشرات المرات عمن سيرغب في قراءة مافعله عدد من الاطباء يحملون نفس التخصص ويعملون في نفس المكان وفي أزمنة مختلفة ؟ فاجبت السائل وأجبت نفسي: أن الشدائد التي مرت على العراق قد ضربت كل موجع فيه ولم يسلم منها مرفق علمي أو ثقافي مما أدى الى محي (كذا !) حقائق تاريخية جسيمة ولعل هذا الجهد المتواضع يحفظ جهود وتضحيات من وضعو (كذا !) اللبنات الاولى للنظام الصحي والتعليمي في زمن كانت الوفيات بالاوبئة والامراض المعدية وغير المعدية تكتسح البلاد كابحة للنمو السكاني ومشاريع الاعمار والتطوير) (ص 210) .

وفي الكتاب – بالإضافة إلى الثراء التاريخي والمعلوماتي والعلمي - متعة "سردية" يحصل عليها القارىء من خلال متابعة وقائع حياة أشخاص (رجال ونساء) وضعوا الركائز الأولى لعلم الطب في الحياة العراقية، وما أنجزوه، وواجههوه من مصاعب وتحدّيات ومفارقات .

هناك لمحات سريعة قدمتها المؤلفة من خلال كتب أو صور يستشف القارىء الكريم الدروس والعبر عبر تأمل مضامينها أو التعليق المثبت اسفلها . على سبيل المثال :

ص 21 : صورة كتاب رسمي عن التدقيق في المصروفات المالية لعميد الكلية أحمد قدري ومطالبته بردها لخزينة الدولة 1936.

ص 22 : صورة كتاب رسمي عن مطالبة الاستاذ علي كمال بتعويض ثمن بعض المفقودات البسيطة 1951.

ثم إشارة الكاتبة إلى الحالة الإنضباطية ونظافة اليد والسلوك في المجتمع الطبي العراقي آنذاك بالقول :

(... مثلت هذه الهيئات الوليدة الحجر الاساس في العمل النقابي من منح أجازات مزاولة المهنة الى مراقبة التزام العيادات الخاصة بالضوابط المنصوص عليها حول كتابة لقب الاختصاص أو الممارسة العامة ونوع الشهادة الطبية باللغتين العربية والانكليزية في ورقة الفحص واللافتة الاعلانية عدا عن محاسبة الاطباء في حالة الخطأ بالاضافة الى مهمتها الرقابية على ممارسة المهنة في المستشفيات الحكومية بدرجة عالية من الانضباط والنزاهة الوظيفية.خضعت في بدايتها لوزارة المعارف ثم وزارة الداخلية وتولى أول طبيب عراقي مسؤليتها وهو د حنا خياط مدير صحة لواء الموصل الذي أستحدث مفتشية الصحة العامة ولبث في منصبه حتى عام 1931حيث الحقت بوزارة الشؤون الاجتماعية التي غدت الجهة المركزية لتعيين الاطباء في المستشفى والكلية. تميزت الممارسة المهنية لاطباء العراق بهذا الانضباط في وقت أبكر بكثير من الدول المجاورة وصمدت هذه التعليمات رغم العواصف والتقلبات السياسية وظروف الحروب المتكررة, كان لاكاديميي الطب الباطني في كلية الطب مساهمات في عضوية اللجان التفتيشية والانضباطية لمراقبة وضبط الخروقات القانونية والاخطاء الطبية المتعمدة وغير المتعمدة وفي نفس الوقت تعرض بعضهم للمحاسبة عن أخطاء تمس العمل السريري والذي ندر ان ينجو سجل الممارسات الطبية منها وهذه أشارة صحية أذ لا يمكن قيام نظام طبي وتعليمي سليم بدون الرقابة وأقرار مبدأ الثواب والعقاب ورغم قلة الاطباء نسبة الى حاجة المجتمع فأن السلطات مارست الرقابة والعقوبات كانت في معظمها أدارية وتأخير ترفيع وتتم بعد أجراء لجان تحقيقية محايدة أو أحكام قضائية عند حصول شكاوي متعلقة بالوفيات, أما أوجه الصرف فكانت تخضع للمراجعة والرقابة مما يشير الى روح النزاهة ونظافة اليد والحرص على أموال الدولة). (ص 20)

# كنتُ أتمنى، عملاً بأسس الكتابة العلمية والبحثية، أن تضع المؤلفة (مقدمة) لكتابها توضخ فيها منهجها والغاية من كتابها وطبيعته وغيرها من الأمور التمهيدية التي ترسم للقارىء دليل قراءته .

# وفي هذه المقدمة – وحتى في العنوان الرئيسي أو العنوان الثانوي – كان من الضروري الإشارة إلى أن الكتاب يؤرّخ لمسيرة الطب الباطني في العراق ولا يتناول الفروع الطبية الأخرى مثل الجراحة والنسائية والتوليد والفرعيات الطبية الجراحية كالعيون مثلاً.

# هناك أخطاء متعددة في التواريخ بعضها قد يكون لسبب طباعي فنّي منها الإشارة إلى :

فرحان باقرحسين محمد (1971-1973) (ص 53). ومن المفترض أن التواريخ بين القوسين أمام أي إسم هي للولادة والوفاة .

وكذلك الإشارة :

"أنفصلت عن الجمعية الام التي جمعت الاطباء النفسيين وأطباء الجملة العصبية وجراحة الجملة العصبية عام 1910 لتستقل بهذا الاسم" (ص 26) ، ومن الواضح أن التاريخ 1910 خاطىء .

# وكنت أتمنى أن يُصحّح الكتاب لغوياً بصورة تجنّبه تلك الأغلاط اللغوية الكثيرة التي شوّهت الجانب التعبيري والفني منه. 

# وهناك النواقص في الإشارة إلى المصادر بصورة علمية بحثية صحيحة من خلال ذكر اسم المؤلف وعنوان الكتاب والطبعة ومكان الإصدار واسم دار النشر وتاريخ إصداره. 

# وأتمنى في الختام أن أقف عند هذه المعلومة الخطيرة حيث تقول المؤلفة عن سيرة الدكتور حسين رستم :

"أكتشفت بالصدفة أن احد أبحاثه المقدمة للترقية الى الاستاذية والمقيًمة كبحث اصيل مستلة وبشكل رئيسي من أطروحتي المقدمة للبورد العراقي عام 1992ولم يكن مشرفاً عليها ونشرت كمقال مشترك معنون (المنظور العصابي لطلبة المعهد الطبي الفني بموجب دليل  كراون كرسب التجريبي) في مجلة كلية طب بغداد,مجلد36,عدد1, 1994 ولم يكلف الباحث ولا المحكم نفسه عناء تصحيح الاخطاء العديدة ومنها العنوان المنشور ب (المنظور الوصابي) بدلا من (العصابي) وكنت أحسب أن الترقية للاستاذية تتطلب أبحاثأ ذات قيمة أكاديمية عالية من صلب أجتهاد الباحث نفسه وليس بالاتكال على تجربة طالبة مبتدئة". (ص 62) . وأعتقد أن هذه الحادثة تدخل في سياق "الكوارث" العلمية ، فهذا سلوك خطير وخطير جدا يتطلب التأمل والتحليل والمراجعة ، وراي الدكتور حسين سرتم نفسه.

تحية للدكتورة مها يونس .  

وسوم: 640