أحادي اللون رباعي الأبعاد (في الذكرى الأولى لوفاة الشاعر محمد مفتاح الفيتوري )

clip_image002_1f4a5.jpg

مثل نسمة من " ريح تمر" ( [2]) والجنينة اسم على مسمى قرية خضراء مطلة على النيل في غرب السودان وعاصمة لدار مساليت (  [4]) التي تقع على الساحل الغربي من ليبيا ينتمي الى قبيلة الفواتير ومن هنا تأتي تسميته  بالشيخ مفتاح رجب الشيخي الفيتوري شيخ سجادة صوفية وخليفة من خلفاء الطريقة الشاذلية( [6] ) الأسمرية ( [8] ) . وهي ابنة ل  ( علي سعيد بن يعقوب الشريف ) جد الشاعر , الذي  "كان تاجر رقيق وعاج وذهب وحرير. وكانت له

صلات بسلاطين أفريقية والسودان ,( [10]) التي تربط ما بين السودان وليبيا ."

أما جدَّته لأمه وتدعى (زهرة)  فأصلها من قبيلة فرسان وهي أميرة سوداء جميلة ابنة شيخ  احدى أهم القبائل ما بين الجنوب السوداني وغربه, 

 وتحديدا من منطقة بحر الغزال في قبيلة (القرعان) , تم اختطافها عنوة في سن  9  سنوات من خلف الكثبان الرملية(  [12] )   وهي عزيزة والدة الشاعر(  [14] ) هذه الجدة الجارية المخطوفة, المهداة الى تاجر رقيق هي التي ستوقظ مارد التناقضات من قمقمه, وستُشعل لاحقاً بقصصها ومأساتها جذوة معانى ضِرام العبودية , في كيان الحفيد الطفل ,لتسطع في مآقيه  وقلبه الصغير أقباس مرآة الآلام الافريقية بأقدارها الجريحة وكلومها النازفة  ,فيكبر ويجد نفسه كما يصف بكلماته " واقفا على صراط  ما بين الحرية والعبودية.. هذه الجدة مستعبَدة .. هذا الجد تاجر رقيق.. وأنا طفل صغير لا يعرف معنى العبودية ولا معنى الحرية ..اعتقد أن هذه السيدة هي التي بذرت هذه البذرة التي لا أقول انها سوداء ,  وإنما البذرة النارية في روحي.. البذرة التي أشعلتني"([16]  )." ثم هاجرت هذه الأسرة الجديدة الى مصر وبالتحديد الى الإسكندرية منشأ الفيتوري( [18] ) وقد التحق بهذه المدرسة في سن كبيرة نسبياً أي بعد أن تجاوز الحادية عشرة من عمره(  [20]) فيخلد الفيتوري الى المنزل لكن مع سقوط نظام القذافي تسحب منه السلطات الليبية جواز السفرالليبي  فيستمر في الاقامة بالمغرب مع زوجته المغربية (رجات ارماز)  في ضاحية سيدي العابد في الرباط ( [22]).

وفي تاريخ 24.4.15 يفارق الحياة في مستشفى الشيخ زايد بالرباط ويدفن في مقابر الشهداء في الرباط

وشعر الفيتوري  رباعي الابعاد ( الزنوجة ) (الثورة ) (العروبة) (الصوفية ) لا يضم تحت اجفانه القارة السوداء فحسب بل  كل الوطن العربي بأزماته وأفراحه وتطلعاته ؟  أو كما يصفه  الكاتب اللبناني عبده وازن  " شاعر التخوم ,لا ينتمي الى وطن نهائي, فهو يقيم على تخوم الخارطة العربية والافريقية وعلى تخوم العروبة والزنوجة أيضا "(  [24] )

مستخدما كل ما يخص المجال الافريقي وطوطميته الطبول , والغاب , والنار , والسفينة :

"كافريقيا في ظلام العصور

عجوز ملفعة بالبخور

وحفرة نار عظيمة

ومنقار بومة

وقرن بهيمة

وتعويذة من صلاة قديمة"([26] ).

" ولدت فوق عتبات الصمت والغضب

أنا تمرد التعب

أنا تجسد الذهول "(  [28]  ) شخصية متوترة استفزازية غاضبة حانقة  متمردة  ثائرة على كل شيء , اللون,  الشكل,  التمييز العنصري , الحب ,الاسترقاق , الاستعمار ,الهوية المذوّبة , الشعر , المكان, الزمان . ثورة عارمة متأججة بنار ما تتغذى عليه من ومما يختلج وجدانه من تناقضات , الاسترقاق والسيادة , الأسود والأبيض , العبودية والحرية , الوطن والمنفى. شاعر مطبوع بموهبة متوهجة متدفقة الوجدان والوجد , الهدوء والعنف , وحمى السؤال والتخبط.

لا يقتصد الشاعر في احضار كل الرموز الثورية والشخصيات : لومومبا ونكروما قائد ثورة العبيد  والسلطان تاج الدين ومانديلا وعمر المختار والكردي  وجميلة بوحيرد وستانلي فيل  , وهاييتي, والكونغو  :

  

" لا تطرقي رأسك يا جميلة

 لا تخفضي جبهتك النبيلة

خُوّف جنود الإمبراطورية

قفي بوجه العذاب

شامخة بالعذاب

لا تدعي نقتهم تقتلك

لا تدعي رحمتهم تغسلك

إنك قبر الإمبراطورية (  [30]  ) ولد في السودان ونشأ في القاهرة وعاش في ليبيا وعمل في بيروت واستقر في  المغرب وورِي الثرى فيه .

لقد تنبه وعيه على الحياة بكل مناقضاتها,  بكل الآمها , كيف لا وهو الذي خبر العديد من المجتمعات واحتك بكل العرب , مطلعا على أزمات الامة العربية  , يشارك بالأحداث المتفجرة في المنطقة , مواجها اياها  بإدراك إنسان معاصر متعاملا مع احداثها بفكر متحضر كاشفا عن مسار وعي سياسي جديد للفيتوري ,ينم عن تعايشه  وتفاعله مع الاحداث اليومية على المسرح السياسي العربي في المنطقة , يتصادم مع الأنظمة العربية  تارة , ويثور تارة اخرة ويهادن مرة ثالثة , مجتهدا في التعبير عن خلجات الامة من خلال مشاعره الفردية واحاسيسه  ,فتارة تراه يهاجم عبد الناصر في مصر  وتارة يرثيه , ويمجد بن بللا في الجزائر, ويمدح الشابي التونسي وينشد للعراق , ويرثي عبد الخالق محجوب ورفاقه  ,ويهجو الصادق المهدي في السودان, ويكتب عن حرب بيروت, وأطفال الحجارة في فلسطين , والقذافي في ليبيا , فالجماهير عنده " مصدر الفن والفكر والحياة والتاريخ , وهي تيارات نهر الإنسانية العظيم  الذي لا يتوقف " ( [32] )

ويضيف:

" في غبار الحرب الكونية  ( 1939-1945) تلاشى وهج كل ايديولوجيات النظم العربية القديمة , وفي نكبة 1948 دقت نواقيس افلاس النظم العربية القائمة. وفي هزيمة 1967 تكرس عجز الجيل العربي الحاكم عن قبول التحدي ومكانية المواجهة . وفي السبعينات أمكن للخيانة وحدها , ولروح الهزيمة أ، تسود الساحة , وأن تشق لها طريقا متعرجة عبر طريق النضال المسدود . ومع تتابع حلقات سلسلة النماذج  أو المواقف المفرغة , تستفحل ظواهر عقمنا الفكري والسياسي , ويزداد الواقع العربي ضعفا وفسادا , بانتظار قدوم الثورة الاجتماعية , والشاعر العربي العظيم. "(  [34] )

ويتغنى الفيتوري بكل المدن التي عاش فيها او مر منها حتى القدس وفلسطين التي لم تطأها  قدمه :

" ليبقى كل بطل مكانه

ولتصعق الخيانة

ولتخرس الرجعية الجبانة

فالشع سوف يغسل الإهانة"( [36] )

البعد الصوفي في شعر الفيتوري

بعد نكسة 1967 كتب الشاعر الفيتوري مجموعه (معزوفة لدرويش متجول)أراد من خلالها ان يصور رحلة هذا الدرويش في الطريق الصوفي  حين ينتابه القلق والشك  , مما يجعله يفكر في وحدته وضياعه تماما مثل المريد الذي يتعلق بشيخه رغبة منه في المعرفة  يقول الدكتور ابو الوفا الغنيمي التفتازاني التصوف فلسفة حياة تهدف الى الترقي بالنفس الإنسانية أخلاقيا وتتحقق بواسطة رياضات عملية معينه تؤدي الى الشعور في بعض الأحيان بالفناء في الحقيقة الاسمى , والعرفان بها ذوقا وعقلا وثمرته السعادة الروحية ويصعب لتعبير عن حقيقته بألفاظ عادية  لأنها وجدانية الطابع وذاتيته ( [38])

ولو وضعنا تعريفا للتصوف باعتباره سلوكا , في مقابل تعريفه باعتبار فلسفة  او نظرة في الحياة لتبين لنا ان التصوف في جانبه السلوكي هو اقرب الى التصوف الديني , واما تعريفه باعتباره نظرة او فلسفة حياة فهو فكر وفلسفة كما نراه عند الفيتوري , فعندما تخلص الشاعر من عقدة اللون ومن نبشه في الذات الافريقية المعذبة واشتعال احاسيس الحقد والنقمة والغضب دخل الى عوالم الوجدان الصوفي , وراح ينظر في داخله , ليفجر ما بداخله من قوى روحية مؤسسة على  تراث ثر  مثل مجموعة (معزوفة لدرويش متجول) أو (ابتسمي حتى تمر الخيل) وراح يصعد بالإنسان نحو الإلهي, راح يرفع الناسوت الى اللاهوت محاولا ترقية درجة  العبد من مكانته الى درجة تليق بمقام الانسان في حضرة الله عز وجل , وهو ليس بغريب على من نشأ في بيت تتلى به الأذكار وتقام فيه الحضرات وهو ابن شيخ السجادة الشاذلية العروسية الاسمرية:

"في حضرة من أهوى

عبثت بي الاشواق

حدقت بلا وجه

ورقصت بلا ساق

وزحمت براياتي وطبولي الآفاق

عشقي يفني عشقي

وفنائي استغراق

مملوكك لكني سلطان العشاق "([40]) والفيتوري يرغب في خوض التجربة ويبحث عن طريق الضياء والنور:

"قنديل زيتي مبهوت في اقصى بيت في بيروت

أتألق حينا ثم أرنّق ثم أموت"(

[2]   محمد الفيتوري ملامح من سيرة مجهولة احمد سعيد محمدية دار العودة  الطبعة الأولى 2008  ص 31 هذا ما تشهد به زوجته السودانية آسيا عبد الماجد وبحسب ما أخبرها به حموها الشيخ رجب مفتاح الفيتوري ( فيما يزعم الفيتوري وآخرون ان عام الولادة 1936

[4]   تكتب زليتن وفي بعض الأحيان زليطن وتعني ظل التين لأن المدينة تشتهر بأشجار التين وتقع في منظقة عبور القوافل وتشكل مكانا للراحة واللقاء بين القوافل وكانت في عهد ما تتبع قضاء مصراتة حيث ينطق الساكنة هناك حرف الظاء بالزاي المفخمة  كما يعرف باللغة الأمازيغية  هذا ما ورد في موقع ويكيبيديا ar.m.wikipedia.org  تحت كلمة زليتن.

[6]     هي طريقة صوفية متفرعة عن الشااذلية وتنسب الى مؤسسها أبي العباس أحمد بن عروس الذي ولد في تونس ومات فيها عام 868 هجري ويرجح بعض الباحثين بقاء العروسية قوية أمام مد الطرق الصوفية الأخرى في ايبيا , خاصة في غرب البلاد الى ارتباط الطريقة بقبيلة الفواتير وهي قبيلة كثيرة العدد ينظر اليها على انها "معدن الولاية والبركة" حسبما ورد في "تنقيح روضة الأزهار ومنية السادات الابرار " للمؤلف  محمد مخلوف 1941-1863

[8]     من حديث شفاهي باح به الشاعر الفيتوري للأستاذ منيف موسى  وإذن له بنشره المرايا الدائرية دار الفكر اللبناني طبعة أولى 1985 ص 53 والجهمة : " معجم قبائل العرب القديمة والحديثة " عمور رضا الجزء الأول الطبعة الثانية دار العلم للملايين بيروت 1968 ص 214 .

[10]     طريق تاريحية تصل مصر بالسودان تشتهر بتجارة الابل تبدأ من دارفور  السودان وتنتهي عند امبابة في محافظة الجيزة المصرية وكان للطريق دور ديني في حركة الطرق الصوفية من  دول غرب افريقية مرورا بالسودان وانتهاء بمصر  وقد ذكرها المؤرخون في معظم ما كتبوه عن مصر بمن فيهم ابن بطوطة . تعود تسميتها بالأربعين الى قوافل الجمال التي كانت رحلتها تستغرق  أربعين يوما للوصول الى  محطتها الأخيرة في مصر لبيعها .

[12]         محمد الفيتوري شاعر الحس والوطنية والحب منيف موسى دار الفكر اللبناني طبعة اولى 1985 ص 53

[14]             محمد الفيتوري شاعر الحس والوطنية والحب منيف موسى دار الفكر اللبناني طبعة اولى 1985 ص 53

[16]           محمد الفيتو ري شاعر الحس والوطنية والحب منيف موسى دار الفكر اللبناني طبعة اولى 1985 ص 53

[18]       أذكريني يا أفريقيا محمد الفيتوري دار القلم القاهرة1966 ص 6 . كذلك "تجربتي في الشعر" مجلة الآداب 1966 العدد الثالث آذار ص 6

[20]     الشطي عبد الفتاح شعر محمد الفيتوري المحتوى الفن دار قباء للطباعة والنشر 2001 ص 43

[22]   المصدر ذاته ص 43

[24]         الفيتوري محمد الديوان  : دار العودة بيروت طبعة أولى 1972  من قصيدة أنا زنجي ص 80

[26]     محمدية احمد سعيد " محمد الفيتوري ملامح من سيرة مجهولة دار العودة 2008 طبعة اولى بيروت ص 91

[28]     محمد علي شمس الدين في مقالة بعنوان " محمد الفيتوري شاعر الفيتوري الطوطم الافريقي" جرسدة الحياة 26.4.2015

[30]   محمود امين العالم: مقدمة ديوان محمد الفيتوري اعاني افريقيا دار العودة بيروت طبعط أولى 1972 ص 41

[32]   محمد الفيتوري : اقوال شاهد اثبات  من قصيدة (قلبي على وطني) منشورات الفيتوري الثقافية الخرطوم طبعة رابعة 1988

[34]   محمد الفتوري الديوان من مجموعة البطل والثورة والمشنقة  قصيدة القادم عند الفجر في رثاء عد الناصر دار العودة بيروت 1972 طبعة أولى ص 641

[36]     محمد الفيتوري الديوان من مجموعة معزوفة لدرويش متجول ومن قصيدة (مقاطع فلسطنية) دار العودة بيروت 1972 طبعة أولى ص 514

[38]   عبد الوهاب البياتي البحث عن ينابيع الشعر والرؤيا دار الطليعة للطباعة والنشر 1990 ص 19-20

[40]   محمد بن عبد الجبار النفري المواقف والمخاطبات , تحقيق اثر آريري تقديم دكتور عبد القادر محمود الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985 ص 130

[41]     محمد الفيتوري الديوان: من مجموعة  وقصيدة معزوفة لدرويش متجول دار العودة بيروت 1972 طبعة اوى ص 454

وسوم: العدد 665