الرؤية والأداة في شعر « بسيم عبدالعظيم »، ( لو تطلبين العمر ) أنموذجًا

د. مصطفى محمد أبو طاحون

بعد ديوانه الأول «هموم وأشجان» صدر للأكاديمي المبدع الدكتور«بسيم عبدالعظيم» ديوانه الثاني «لو تطلبين العمر»، يحوي ثلاثة وستين نصًا شعريًا للمبدع(1)، واثنين ليسا له، أحدهما لعبدالرحمن العشماوي «أيا شعب مصر» وقد عارضه بسيم بقصيدته التالية «أيا شاعر الحق»، وثانيهما يقع بآخر الديوان للشاعر أحمد محمد عبدالهادي، وعنوانه «هموم وأشجان»، وهو ثناء على الشاعر وتقريظ لديوانه الأول الذي أهداه للشاعر.

وجميع قصائد الديوان من الشعر العمودي، عدا «في دروب العشق» فهو من شعر التفعيلة، وقد جاء على وزن الرمل.

(1)

وتتجلى رؤية الشاعر متكئة على صابغ رئيسي يتمثل في الإيمان، فللإسلام حضوره الواضح بسائر نصوص الديوان، وللأمة الإسلامية ومصر، وأسرة بسيم حضور بارز كذلك، أما الأحساء فتيمة تلاقح المكان والإبداع، حيث بهاء الجمال وعبق التاريخ.

يفتتح الشاعر ديوانه، بالكشف عن حبه النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول في «يا رسول الله»:

يا رسول الله إني   مخبت القلب منيب أشهد الله بأني   صادق الود حبيب

والشاعر دومًا في معية الله، يفزع إليه، ويناجيه طلبًا للغفران والمعافاة، فهو تعالى حسبه .. يقول ضارعًا حينما ألم به شيء من مرض في «نديم الليل»:

رحلة الأشجان ظلَّتْ   طول ليلي دون ظعن ليس يدري بي أنيس   كان من إنس وجن غير أني شمت برئي   عند ربي فهو حسبي أرتجي منه شفاءً   من مضراتي وكربي يا إلهي جُدْ بعفوٍ   ولترح يا رب قلبي

والشاعر يحيا في شعره ودنياه، قضيته الأولى، إسلامه ودينه، ففي أسعد لحظات حياة الأب، حينما يوفق أبناؤه بالنجاح في الدراسة لا ينسى دينه وأمته .. يقول في «هنيئًا بالنجاح» وقد أبدعها في نجاح ابنه الدكتور محمد:

هنيئًا يا محمدُ بالنجاحِ   وأبْشِرْ بالسعادة والفلاحِ ودمتَ موفقًا في العلم دومًا   لتخدم ديننا في خير ساح فَسَاحُ العلم يا ولدي جهادٌ   وبذل الجهد من أمضى السلاح أعِدُّوا ما استطعتم من سلاح   لرفع الإصْرِ عن شتَّى البطاح

هو كذلك لا ينسى وطنه، حين يبث أسرته عواطفه في «يا ليلة العيد» إذ يقول:

يا رب بارك لنا فيكم وفي وطن   يهفو فؤادي له والعقل يحتار لولا مشقة عيش فيه ما نزحت   منه العقول، ولا للأصعب اختاروا

هو أيضًا، يرى شخصه متلبسًا بمصريته لا ينفك عنها، فحين يهدي رفيقه على درب الشعر الرسالي الرصين، الشاعر السعودي الأكاديمي عبدالرحمن العشماوي قصيدته «شاعر الإسلام» يختمها بقوله كاشفًا عن هويته المصرية الإسلامية:

وإليك مني يا «حبيب» تحية   مصرية، أولستم الأصهارا

ويألم «بسيم» الشاعر الوطني المؤمن لحال أمته حين يعروها الشقاق والتشرذم فيغزوها اللئام والشراذمة، يكشف في «يا عيد» عن عاطفة إسلامية وطنية صادقة، ووعي بالواقع والأعداء، فيقول:

في كل زاوية من أمتي خطر   يا رب لطفك فالإسلام مقهور أدرك شعوبًا تعاني من جبابرة   عاثوا فسادًا فعمَّ القوم ديجور لم يرقبوا إلاَّ فيهم ولا ذممًا   فاخسف بهم ربنا، وليشرق النور وصُن بفضلك يا الله أمتنا   من التشرذم، أمر الله ميسور واحقن دماءً جرت في كل ناحية   تشكو فراعنة أحكامهم زور

وكما أن للأمة أعداء بداخلها ينخرون بنيانها، ويعملون جاهدين على تقويض أركانها، فإن أعداء الخارج، هم من يحركون هؤلاء، ويستخدمونهم في خبث لتحقيق مآربهم .. يقول الشاعر في «يا شباب الدين» واعيًا بأحابيل مكر الآخر للأمة:

رغم «شارون» و «بوش»   كلهم نذل حقير أعلنوا حربًا ضروسًا   جاءنا منهم نذير حملة الصلبان عادتْ   قادها «بوش» الصغير حملة للشر قامتْ   ضالع فيها «بلير»

ووعي الشاعر باللحظة التاريخية الفارقة التي تحياها أمة الإسلام، أملى عليه أن ينصح لها في جمال لغة، وحماسة أسلوب، وواقعية رسالة، وإقناع ملموح .. كما في «طائر الشوق» إذ يقول:

يا أمة الحق جدَّ الجدُّ فانتفضي   هيا أعيدي من التاريخ أوله سنابك الخيل تدوي في مسامعنا   من بدر تسري فيجري الحق سلسله والله لو زأر المليار لارتعدت   فرائص الكفر أنىَّ شاد منزله

وبعقل الأكاديمي، وثقافة المسلم الواعي بروح حضارته، ومجد أمته، يقف الشاعر «بسيم عبدالعظيم» في قصيدته «في رحاب المدينة المنورة» على حجر الزاوية في طريق النهوض واستعادة الأمجاد، ذاك الإنسان وبناؤه المتكامل، فمبدؤه النهوض وغايته الإنسان، إنها أمة غايتها الإعمار عبر صناعة الرجال .. يقول متغنيًا بأمجاد الأمة، ونهج نبيها صلى الله عليه وسلم في بناء الحضارة:

بنى صرحًا عظيمًا من رجال   أقاموا دولة، هي حصن أمن لهم دانت فجاج الأرض دهرًا   وشادوا في الحضارة كل فن فمن صين لأندلسٍ تراهم   نجوم الأرض في حلٍّ وظعن سَلِ التاريخ كان بهم حفيَّا   يسجل عن مآثرهم ويبني

ولرموز الأمة الإسلامية، قضاياها، وحكامها، وأحداثها حضور يملك على الشاعر كيانه، فيصدع بها إبداعه، تنبيهًا إليها، وإشادة بهم، وتسجيلاً لها .

أما قضية قضايا الأمة ففلسطين، يستحث الشاعر أمة المليار لتخليص الأقصى من قبضة الباغي .. الغشوم، فيقول في «حفيد الفاتحين» المهداة إلى الأبطال المرابطين ببيت المقدس وأكنافه:

أرى الأقصى يطالعنا حزينًا   براه الشوق، لم يشف الغليلا يرى الباغي الظلوم يتيه فخرًا   بساحته، ويوسعه كبولا ألا يا أمة المليار هبُّوا   لكسر القيد، كي نرضي الرسولا

ويرى أبطال الحجارة مجددي عز الأمة، من ذوي الجسارة والجدارة، فيقول:

أأطفال الحجارة يا رجالاً   فجرتم بالحجارة سلسبيلا يروِّي أمة عطشى لعزٍّ   فتذكر ماضيًا ألقًا جميلا

ويرى الدكتور «بسيم» خادم الحرمين، الملك عبدالله (غفر الله له ورحمه) «ملك القلوب» يدعو له بالعافية، إذ ألم به مرض، استوجب السفر للعلاج، يدعو له «بسيم» فيقول:

يا خادم الحرمين دُمْتَ موفَّقًا   للخير، سبَّاقًا إلى الإنعام فغمرت شعبك يا مليك بأنعم   عمَّت رضيع القوم قبل غلام فقلوبهم خفقت بحبك سيدي   مستمسكين ببيعة وذمام يتضرعون لكي تعود مليكنا   في صحة، وبقوة، ووئام

وينفعل الدكتور «بسيم» لكل ما يمكنه أن يكون علامة تعافٍ للأمة، تحرز به وإن كان شيئا من ظفر تناله من أعدائها .. يخلد في شعره واقعة قذف .. العراقي منتظر الزيدي بوش بالحذاء في مؤتمر صحفي أذيع على الهواء بثًا حيًا .. فيقول في «قبلة الوداع» على لسان الزيدي:

يا من أصمَّ الأذن دون ندائي   وأباح عرضي واستباح دمائي هل جئت تشمت بي وتعلن هازئًا   عن قهر عزي واغتيال إبائي أنَّى اتجهت بأرض يعرب لن ترى   إلا رجالاً يهتفون ورائي قد وكلوني عنهم في قبلة   لوداعكم هي رمية بحذائي

ولأسرة بسيم بديوانه حضور بارز جدًا، فلزوجه الكريمة، وولديه المباركين أحمد ومحمد، خلصت قصائد كاملة ونتف ومقطَّعات، تكشف الأبيات عن حب صادق، تشرب صاحبه حبًا من معين صافٍ ثرِّ من أبويه رحمهما الله .. يقول في مطلع «رسالة إلى ولدي»:

ولدي أحبُّك هل تعي   إني وهبتك أجمعي

ويقول في نتفة «إلى ولدي محمد»:

محمد يا حبيب القلب أبشر   بتحقيق النجاح والامتحان لأنك يا محمد خير نجل   ومثلك ماله في الجدِّ ثان

وفي نص ثالث يحمل الدال الكاشف عن حميمية علاقته بأبنائه، حين ينسبهم إليه يقول في «يا ولدي» مداعبًا «أحمد»:

صباح الخير يا ولدي   ويا جزءًا من الكبد صباح النور يغشانا   بفضل البر والرشد صباح البر والإيما   ن والتقوى بلا حد

وتتسع دائرة الحب عند «بسيم» للجميع .. من المسلمين، .. يهنئ ابنه أحمد بخطبته لندا فيقول في (أحمد وندا):

هلَّ الربيعُ على الوجود وأشرقت   شمس الجمال، تجود بالأنوار وتجمع الأحباب في حفل زها   بالحب مؤتلقًا وبالأزهار وشدت طيور الروض خير لحونها   طرب الكمان لنغمة القيثار غنى الوجود بأسره فرحًا بكم   فتحركت لغنائه أوتاري لندا وأحمد صغتُ أجمل تحفةٍ   فحروفها نبضي، دمي، أحباري

وود «بسيم» لزوجه الكريمة «كريمة» تنطق بحرارته أبيات الديوان، وتخلص قصائد بكاملها للتعبير عن هذا الحب الصادق، ومن اللافت طول النفس الشعري لقصائد هذا الحب، وصدق لهجتها، وجمال إيقاعها وانسيابيته .. وما ذاك إلا من طرب المبدع بما ولما يقول، ففي «خطاب الحبيب» تتعدد مواضع التهاب العاطفة وجمال الأداء، وصدق اللهجة، واستدعاء الأسلوب، يقول في المطلع:

جاء الخطاب من الحبيب فأُنْعِشَتْ   روحي، وفارقني الكرى وجفاني وأعادني عشرين عامًا للصِّبا   حيث الغرام، فزُلزلتْ أركاني

والمطلع رقيق حالم يقرر حقيقة تتصل بإبداع «بسيم» تتمثل في ارتهان استجابته الإبداعية لقول الشعر بمثير ما يستفز ملكاته الشعرية، يستوي في هذا أن يكون المثير متصلاً بأمته، أو أسرته، أو وطنه، أو عمله، أو رفاق محراب علمه .. لا نعلم ماذا كان بالخطاب .. لكنا نعي هيام «بسيم» بنجمته الكريمة .. تلك التي يصرح بأنها – تأكيدًا لمسألة المثير – ملكت عليه عنان بيانه .. يقول بالنص ذاته متأففًا من غربته ومفارقة «الحبيب»:

يا قلب رفقًا بي فإني مدنف   أضناه بعد الأهل والخلان أضناه بُعْدُ حليلةٍ وخليلةٍ   ملكت برقتها زمام كياني واستأثرت مني بكل محبتي   وسبت فؤادي بالفؤاد الحاني أنسته كل مليحة من قبلها   ملأت بسحر جمالها أجفاني يا ليل إني قد فقدتُ تصبري   وجرعت كأس الهجر والحرمان سامرت بدرك، والنجوم عددتها   حتى مللتُ، وعدُّها أعياني أشتاق رؤية نجمتي من بينها   تلك التي ملكت عنان بياني

وفي الزوج الكريم «كريمة» كانت قصيدة الديوان الأم «لو تطلبين العمر» وفيها يقرر «بسيم» مجددًا كون «كريمة» إحدى أهم مثيرات الإبداع لديه .. لما تملكه من خلال وخصال ولآلٍ نفسية وإيمانية وخلقية وجمالية .. يقول بمطلع «لو تطلبين العمر»:

يا مَنْ أراها في رؤاي وناظري   رمز البراءة والنقاء الطاهر يا ربَّة الحسن البديع تألقي   شلال نور يستثير خواطري يا جنتي الفيحاء يا ريحانتي   محبوبتي يا سرَّ سعدي الغامر يا نور عيني أنتِ من أسعدتني   ومنحتني فيض الخيال الشاعري ألهمتني غُرر القصائد صادقًا   فجمالك الخلاب يسبي خاطري أنت الأصالة والأمانة والتقى   والصدق والإخلاص، نبع مشاعر

والحق أن قليلين هم من شعراء العصر الحديث من بادلوا زوجاتهم حبًا بحب .. كالمرحومون: محمد رجب البيومي، وعبدالرحمن الخميسي، وطاهر أبو فاشا، ومن قبلهم المرحومان عزيز أباظة، وعبدالرحمن صدقي، ولكل منهم ديوان خاص في حب الزوجة أو رثائها. فكثيرون من شعراء العصر يهملون زوجاتهم في شعرهم كشوقي .. وربما هجا بعض الشعراء زوجاتهن كشأن الحطيئة، القائل:

أطوف ما أطوف ثم آوي   إلى بيت قعيدته لكاع(2)

ويبدو أنه (تقل موروثات الغزل في الزوجات أو المدح لهن بصفة عامة) (3).

أما بسيم فعلى استعداد لبذل عمره طائعًأ لليلاه «كريمة» ولن يكون خاسرًا .. يقول:

لو تطلبين العمر مهر لقائنا   لبذلته طوعًا ولست بخاسر فلقاؤنا يا ليلاي عمر آخر   فأفوز منك بأول وبآخر أنتِ الحياة وأنتِ سرُّ نعيمها   يا فتنتي يا نهر حب زاخر يا مَنْ نثرت لي الكنانة عن رضى   فعجمت عوديها بفضل القادر

وربما كانت قصيدة «أين الحبيب» _ وقد أبدعها مغتربًا في «الأحساء» بالسعودية بعيدًا عن زوجه _ ألهب القصائد في التعبير عن حب «بسيم»، وفيها يصرح بحبه على نحو بديع، وقد جاءت مقدمته النثرية لقصيدته شاعرية رقيقة صادقة صريحة، يقول فيها: «إلى حبيبة قلبي، ونور عيني، وأم ولدي، وكاتمة سري، وحارسة بيتي، ومخفية شري، ومعلنة خيري، وغطائي وستري، مع خالص دعواتي بالصحة والعافية، وطول العمر، وحسن العمل، وخير الجزاء من الله في الدنيا والآخرة، إلى حبيبتي كريمة».

وبالنص يقول لها:

من نبع حُبِّك أستمد محبتي   يا ربة القلب الرؤوف الحاني أنتِ الأميرة يا «كريمة» فافخري   وتبوئي عرشًا رفيع الشان هو عرش قلبي يا حبيبة مهجتي   فلتحفظيه على مدى الأزمان وترفقي إني أسيرك في الهوى   رفقًا «كريمة» بالحبيب العاني

وبنهاية القصيدة، التي تعد في رأيي من عيون شعر «بسيم»، يصرح بأنه لا ينام إلا ليزور طيف كريمة أجفانه .. وفي بعده عن وطنه وسكنه .. كرب وانكسار .. يقول متسائلاً حائرًا وحيدًا يعاني ..:

أين الحبيب لكي يؤانس وحشتي؟   فيضمني، وتضمه أحضاني بل أين طيف زارني ثم انثنى   أيُذادُ عني؟ أم تراه جفاني يارب لطفًا بي، وفرِّج كربتي   لأعود مجبورًا إلى أوطاني

إنَّ بسيم ليفتدي «كريمة» عيناه بعينها، وروحه فداها، لا تنال الأيام – أدام الله ودهما ووقاهما شر عين حاسدة .. أو حاقدة – من ودٍّ، صنعه الإيمان يقول في «عيني فدى عينيك»:

عيني فدى عينيك يا أحلى كريمة يا مَنْ لها سكن الفؤاد لأنها أغلى نديمة تفديك روحي يا منى روحي ويا أزكى حليمة من ربع قرن يا حياتي كنت لي زوجاً رحيمة

(2)

يعد موقف الشاعر المعاصر من المدينة أحد أبرز موضوعات الشعر المعاصر، وقد التفت إلى ذلك غير واحد من نقادنا المحدثين، فقد عرض لظاهرة انشغال الشاعر الحديث بالمدينة إحسان عباس، فخصص لها الفصل الخامس من كتابه «اتجاهات الشعر العربي المعاصر» وعرض لمعالجتها في شعر السياب والبياتي والحيدري وحجازي وسميح القاسم وأمل دنقل وغيرهم، ومن أهم ما لفت إليه بعد التأكيد على إحساس الشاعر بالاغتراب كثيرًا داخل المدينة – أن تشكُّل المدينة في التجربة الشعرية المعاصرة، إنما يكون «بحسب الانتماء العقائدي أو الوضع النفسي الفردي، فالمدينة «وعاء» لا يتغير، وإنما الذي يتغير هو البيئة التركيبية في مؤسساتها السياسية أو انتمائها، من خلال العلاقة بينها وبين الشاعر، أو من خلال أزمة تحوُّل يعانيها الشاعر نفسه»(4).

وفي معرض حديثه عن «الشاعر والمدينة» يرد اهتمام الشاعر بموضوع المدينة في الشعر الحديث إلى (دافع خارجي جاء نتيجة لتأثر الشعراء المعاصرين بنماذج من الشعر العربي وبقصيدة «الأرض الخراب» لإليوت على وجه الخصوص(5)، ثم أكد على أن (استجابة الشعراء المعاصرين لهذا الموضوع تتجاوز حدود التأثر، فلو لم يكن لهذا الموضوع توقع معين في نفوسهم، وما لم يكن له كيانه البارز في واقع الحياة التي يمارسونها، ما ظفر منهم بهذه العناية الفائقة) (6).

ويغلب أنْ يكون موقف الشاعر من المدينة موقف رفض وتأفف وتمرد، إذ يشعر فيها ومنها بالاغتراب والوحشة .. والقسوة.

والمدينة في الشعر الحديث / المعاصر رمز دومًا إلى شيء يتصل بها أو بالشاعر الذاكر لها، يستوي في ذلك أنْ تكون المدينة تاريخية عتيقة، أو معاصرة شفيقة (وبالإضافة إلى المواضع التاريخية التي تشكل رموزًا، أو تستحضر ذكريات معينة، تستند عليها الإحالات الشعرية تمامًا كاستنادها على الشخصيات التاريخية والأسطورية، فقد بدا العدد من الشعراء راغبين .. في استحضار المواضع الجغرافية الحاضرة وسيلة لتحقيق هذه الغاية) (7).

وبسيم واحد من هؤلاء الشعراء المعاصرين الذين عنوا بتجربة المدينة في شعرهم .. إنه قد نشأ في الريف، وانتقل إلى المدينة، ثم غادر وطنه مغتربًا معارًا إلى السعودية، وبها نزل الواحة .. الأحساء (الحسا)، وهي المدينة(8) الغناء، التي تغنى بها شعراء العربية من قديم، ومنذ ابن المقرب العيوني. وقد أصفى بسيم الأحساء وده، وخلع عليها في شعره كثيرًا من ألوان حبه، فتنوعت تجليات حضورها الشعري في «لو تطلبين العمر».

لقد هام الشعراء من قديم بالحسا، لطبيعتها الخلابة، وجمال نسائها الفطري المحتشم، وعيونها ونخيلها، ورقة إنسانها ورقيه السلوكي، ومن قديم بثها ابن المقرب حبه وهيامه، إذ هي بلاد المجد، وموئل أثيل للحضارة والتاريخ المشرف، يقول:

أقول لركب من عقيل لقيتهم   وأعناقها للقريتين تُمَالُ أيا ركب حييتم وجادت بلادكم   غمائمُ أدنى سحِّهن سجال إذا جئتم أرض الحساء وقابلت   قبابٌ بضاحي بَرِّها وتلال فأرخوا لها فضل الأزمّة ساعةً   وإنْ كان أَيْنٌ مسَّها وكلالُ إلى أن توافوا الدرب والمسجد الذي   به الحي حيٌّ والشمال شمال(9)

لقد بدَت «الأحساء واحة النخيل والأدب»(10) قديمًا وحديثًا، فأثارت قرائح الشعراء الذين أحبوها .. ومجدوها .. وكشفوا عن بعض ملامحها الطبيعية والحضارية، وأكثر من ذكروا الأحساء من الشعراء بقصائدهم مزجوها بنفوسهم، وخلطوها بذواتهم، بما يكشف عن بيئة معطاءة محببة إلى ساكنيها ومرتاديها على السواء .. وعند «جاسم الصحيح».

(الحسا) طبقٌ من نخيل

(الحسا) معولٌ خَطَبَ الأرض / من يد أسلافنا الأولين

وما زال يُولِدُها النبع والزرع جيلاً فجيل

(الحسا) ملفعٌ من ملافع أُمِّي / يتوهج فيه الحنان الأصيل

(الحسا) امرأةٌ مِلْؤُ عرش العفاف

بتول المضاجع .. مثقلة بالضفائرِ

دافئة كالهديل

(الحسا) فتنة (الدِّيرم) الغَضّ

يضحك فوق شفاه النساء

و (عِلْك اللِّبان) يغازل أسنانهن بعطر البياض

و (ريحة مشمُومِهنَّ)

تُعيد الرجال من الحقل قبل أوان الأصيل

(الحسا) كل هذا الخليط الجميلْ! (11)

وإذا كانت مفارقة القرية / المدينة تتأسس على تباين الطبع بينهما، والأفضلية في الإبداع الشعري دومًا ما كانت للقرية لسجاياها الفطرية، وحالمية طبيعتها، وطيبة سكانها، واختفاء الصراع عنها، ووحدتها لا تمزقها، وإيمانها لا فجورها كما الحال بالمدينة، فإن من الشعراء من لمس كون الأحساء على عراقتها ومدنيتها تبقى حاملة في جوهرها طابع القرية، فالأحساء عند «جاسم الصحيح»: (ليست سوى سرب من القرى مسافر باتجاه المدينة وآمل له ألا يصل أبدًا) وهو القائل هيمانًا بالحسا حتى ليتمنى أن يفتديها .. وإنْ بعد موته ختاما لقصيدة يبدؤها بتقرير أمومة «الحسا» له وحبه إياها .. يقول:

أُسميكِ أمي كي أوفي لك الاسما   فينكما في نطفتي وحدةٌ عظمى أسميكِ أمي .. والأمومة موطنٌ   بمقدار ما (ننمو) عليه، له (ننمي) أحبك يا (أحساء) في كل كِسْرَةٍ   من الطين شعَّث في يدي قمرًا تمَّا أحبك يا (أحساء) في كل نظرة   إلى الحقل صلت بي إماما ومؤتما وصدري الذي لو ضم كل جميلة   تظل جذوع النخل أجمل ما ضمَّا أحبك حَدَّ الشعر .. والشعر قاتلي   أحبك .. رميًا بالقصائد أو رجما! سأودع في كف الليالي وصية   وأنقشها في وجه هذا المدى وشما: إذا متُّ .. و(الأحساء) في عز بردها   فدسوا رفاتي في مواقدها فحما(12)

أما الدكتور «بسيم عبدالعظيم» فله في «الأحساء» بديوانه (لو تطلبين العمر) شعر كثير كمًّا، صادق فنًا، أشبه بملحمة حب صادقة، وتكاد لا تخلو قصيدة بالديوان من ذكر للأحساء تصريحًا أو تلميحًا ؛ إذ يغطي حضورها من أول ذكر بقصيدة «في رحاب المدينة المنورة» وحتى آخر ذكر بقصيدة «مساء الفل» كامل الديوان تقريبًا، وهو شعر إنْ جمع فإنه يأتي «ديوان شعر أحسائي» يمثل «أحسائيات بسيم» وأكثرها باسم موفق بهي جميل .. على غرار القصائد الأصيلة لكبار شعراء العربية السوالف، حين نظموا مدونات شعرية في مواضع بعينها، «كروميات أبي فراس» و «أندلسيات شوقي».

يبدو حضور «الأحساء» في شعر «بسيم» بالديوان إذن حضورًا بارزًا كمًّا، وجماليًا كيفًا، وفي رباعية متتابعة من قصائد الديوان، تشمل «بلبل الشعر، ومليك الشعر، وفارس التاريخ، وأمير الشعر».

يبدو جليًا، ومن عتبات النصوص في عنواناتها ارتباط الشعر بالأحساء، فهي موطن الشعر والطرب، يقول في الأخيرة من رباعيته، وفي رديف مطلع «أمير الشعر»:

أمير الشعر في الأحساء إني   أتيت مبايعًا أشدو الأغاني

ويخاطب في حشوها الشاعر «مبارك بن إبراهيم بو بشيت» وقد أهدى «بسيم» القصيدة له، كاشفًا عن حضور الشعر بندوات الأحساء:

وفي الندوات بالأحساء تشدو   بشعر ما له في الحسن ثاني بمنظوم ومختار جميل   (مبارك) أنت أم أنت ابن هاني

و «بسيم» يعلن عن حبه الأحساء، ويقرر إنعامها إليه، حين أثارت شاعريتَه طبيعتُها، ومنادماتُها الشعرية، فيقول: وقد قضى عقدًا من زمان بالأحساء، وهو إذ يحكي عن ذكرياته بها، تلمح صدق الحب، وجمال التعبير، وتدفق الإيقاع وسلاسة اللغة .. وهو بالنهاية، ولما بذل للأحساء وأهلها يرى نفسه واحدًا من أهلها، يشرف بنسبة «الأحسائي» فيقول:

نادمتُ فيها سادةً قد رُشِّحوا   بجدارة للمجد والعلياء في ندوة الشيخ المبارك أحمد   هي معهد للنقد والأدباء ومجالس الأدباء طاب أريجُها   وفشا ليغمر سائر الأنحاء بمزارع ومنازل معمورة   أربابُها من خيرة النبلاء يتسابقون لنشر كل فضيلة   أنْعِمْ بهم من سادة فضلاء أما بناتهمو فسلني أُنْبكُم   علم وأخلاق ونبع صفاء قد أثمر التعليم في غاداتهم   طاب الغراس لجودة الأنداء شجعتهن على الكتابة فانتضوا   أقلامهن تجاوبًا لندائي ما زلت أسعى بينهن معلمًا   ومُوجهًا حتى أضأن سمائي بنجوم أشعار ونثر مونق   من قصة وخواطر ومرائي يا لائمي أقصر فرأيك فائل   فلقد شرفت بنسبة الأحسائي

وأهم ما يأسر الإنسان .. الشاعر .. في الأحساء، مبعثه طبيعتها الساحرة، المباينة إلى حد كبير لطابع بيئة الجزيرة العربية إجمالاً، فواحة الأحساء، هي العامرة بعيون الماء، والنخيل الأشم الطوال، وهي الغنية بكل ما تفتقر إلى بعضه قريناتها الحجازية .. يقول في واحدة من أجمل وأصدق نصوص «الشعر الأحسائي» لبسيم عبدالعظيم:

طيور الحب تصدح بالأغاني   وهذي الشمس تشرق بالأماني وأحساء النخيل بدت عروسًا   تحلت بالعقيق مع الجمان فهذا النخل يزهو في شموخ   إلى العليا على طول الزمان عيون الماء كم فاضت بحورًا   وأنهارًا تدفق في الجنان رأيت الحسن فيها مستقرًا   فأصل الحسن أحساء المغاني هي الأحساء تأسر عاشقيها   وإني بالحسا صَبٌّ أعاني حللتُ بدوحها فشعرت أني   بحضن الأم ينضح بالحنان

و «بسيم» في واحدة أخرى من أحسائياته الشعرية البديعة، يجعل الأحساء، لما تجمعه من جنسيات عربية مختلفة، منتدىً عربيًا بامتياز، إذ هي تظل العرب جميعًا بنخيلها الحاني .. يقول في (أغنية وحسناوان):

وقدمتُ للأحسا فهاج مشاعري   بُعدي عن الأهلين والخلان لكنني عوضت منهم أخوةً   «ملكوا عليَّ مشاعري وجناني» من كل قُطْرٍ في العروبة أقبلوا   وبأرضها انتظموا كعقد جمان من تونس الخضراء أو مصر التي   عزت، ومن شام، ومن سودان ضَهَرَتْهُمُ الأحساءُ فوق رمالها   وأظلَّهم فيها النخيلُ الحاني

وجمال غادات الحسا، ينبت بقلوب الشعراء أنبل المشاعر، ويفجر أنبل أحاسيس البراءة والجمال، فيثير الإبداع، ويتنبه المبدعون .. يقول «بسيم» في (مساء الفل):

ويا رِيمَ الحسا رفقًا بقلبي   فبين شِغَافِهِ سكن الغرامُ طويت ضلوع صدري فوق حُبٍّ   له في القلب وَقْدٌ واضطرام وليس يعيبني أني محبٌّ   وأني فيه للقوم الإمام

لقد أحب «بسيم» الأحساء، وانفعل لجمالها إبداعيًا، فكان شعره الأحسائي صادقًا .. ولما أحبه أهلها؛ إذ أحبهم، صارت الديار داره، ومن ثم فلا اغتراب .. لا نفسيًّا ولا إيمانيًّا .. يقول في (شاعر الإسلام):

أحساء جاءت نحوكم تتبارى   يا من نظمت بحبها الأشعارا ترنو لباحتكم بعين محبة   كالغيث يهطل سلسلاً مدرارًا قد عشت فيها بين أهل مودة   صاروا لنا أهلاً وصارت دارًا

والأحساء في (أغنية وحسناوان) لبسيم توأم الأوطان .. يقول عنها:

هي واحةٌ غنَّاء طاب مُقامُنا   فيها فكانت توأم الأوطان «حتى ظننتُ بأنني من أهلها   نبتت جذوري أثمرتْ أفناني ونقشتُ رسمي فوق خَدِّ أديمها   «فالأهل أهلي والمكان مكاني» ورقمت اسمي في سجل خلودها   ولحبِّها أهديتها ديواني فلتهنئي أحساءُ حُبُّكِ مُلْهِمٌ   للعاشقيكِ على مدى الأزمان فإذا حييتُ غَمرْتُ ذكرك بالسنا   وإذا قضيتُ فأنت في وجداني

و «الأحساء» هي المحبة لمن أخلص لها، وبادلها حبًا بحبٍّ، أما من ينكر فضلها، فإنها تجليه عنها، كأنها الأميرة المترفعة، تنفي عن جوارها كل خبيث .. يقول «بسيم» في هجائيته اليتيمة بالديوان، في قصيدته (الدامغة الصغرى) وقد أردف عتبتها الرئيسة بعتبة ثانوية، وأنها «أبلغ البيان في الرد على مفلوت اللسان» يخاطب شانئه، ومهجوه، فيقول:

تقابلني، فتضحك مِلْءَ شِدْقٍ   وما علمي بما جَنَّ الحَشَاءُ وتنكر فضل «أحساء» عليكم   ستعرفنا وتنكرك الحساء إذا ذكرتكمو يومًا بهجوٍ   فإن نصيبنا منها الثناء رفعنا ذكرها في كل سفر   وضقت بها فكان لك الجلاء .. هي الأحساء تنفي كل خَبثٍ   وتبقي نافعًا، برح الخفاء

إنَّ «بسيم» يرى العظماء المباركين فقط من أهل «الأحساء» هم من يستحقون الانتساب إليها، ويرى هذا الانتساب في ذاته إكليل فخار يعلو هامات أهليها .. ويعمد «بسيم» إلى كثرة ترديد العلم (أحساء) ومرادفاته «الحسا» بكثير من قصائده، فيبدو العلم لحبيب، يسعد المبدع بترديده، وسماعه، وكتابته، واستدعاء ذكرياته .. فهو على كل حال، وفي كل موضع باعث بهجة، ومثير لذة، وصانع حالة من الانتشاء والتجلي والإبداع، وهو في قصيدة (مليك الشعر) يردد (العلم) بالمطلع فيقول:

أشهر الصوم يا خير الشهور   غمرت سماء «أحساء» بنور

ثم ينسب مخاطبه «الشاعر الكبير عبدالله بن محمد الرومي» إلى الأحساء، فيقول:

أنابغة الحسا، سبعون عامًا   من الإبداع والشعر الغزير قرأتُ كتابكم فازددت حبًا   لكم، قد هالني صدقُ الشعور

ويختم نصه ببيان فضل مخاطبه، وآثاره، ونبله .. كل ذلك مقرونًا بالأحساء ؛ إذ كان للأحساء وفي الأحساء .. يقول «بسيم»:

عن الأحساء نافحتم كثيرًا   وكنت لأهلها خير النصير عشقت نخيلها والورد فيها   رويت ثراه بالماء النمير وعن شوقي دفعتم قول غِرٍّ   يحاول سلبه لقب الأمير عرفتم للألى سبقوك قدرًا   فحق لكم بها لقب القدير هنيئًا يا أبا جبريل حفلاً   به الأحساء تنعم بالسرور

وتبدو «الأحساء» في كثير من إبداعات «بسيم» الشعرية، هي موطنه الذي يحبه، ويتولاه، وينتمي إليه، يختم «في رحاب المدينة المنورة» فيقول:

من الأحساء جئنا وفد خيرٍ   كعبد القيس كانوا وفد زين أتوا طوعًا لساحة خير دين   وجئنا للزيارة والتمني

وقد يضيف «بسيم» (الحسا) إلى ضمير المتكلم، فتبدو الأحساء موطنه على الحقيقة، ذاك في قوله من قصيدته (أبا سعود) يخاطب عبدالعزيز بن سعود البابطين:

بالأمس زرت حَسَانَا   وبالقدوم سعدنا جئنا نرد جميلا   من فضلكم طُوّقْنا

وحب «بسيم» للأحساء يجيء في شعره، كما في نفسه، لا بديلاً، ولا متعارضًا مع حبه مصر، الوطن والمآل .. وإنْ طال الغياب، ولذا فالأحساء ومصر يتجاوران بـ «أحسائيات بسيم» في غير موضع، يقول بالقصيدة ذاتها مخاطبًا البابطين:

نادي الحسا قد أتاكم   في نخبة ها  حضرنا ومصرُ قد أوفدتني   إليك أنشد لحنا هل تقبلن نشيدًا   في حبكم قد كتبنا

إن «بسيم» يبدو في «أحسائياته» موفد مصر العلمي لها، وبأحسائياته، تجاور مصر الأحساء بطبيعتها الخلابة، يقول في «سلطان القلوب» المهداة إلى الأمير سلطان بن عبدالعزيز:

تقبل عن بني مصر دعائي   بأن تبقى لنا قمرًا منيرا فواحات النخيل هفت إليكم   لتخطب ودكم وتشع نورا وآبار «الحسا» من فرط حب   لكم راحوا يشبون البخورا وبدر أميرها يزجي التهاني   لمقدمكم وقد شكر الحضورا وفدت عليك م الأحساء أسعى   فكدت لفرط شوقي أن أطيرا

إنَّ مصر لتبدو مع الأحساء في «أحسائيات» بسيم در تؤام، كما في قوله بـ «أغلى وسام»:

دعوت الإله يديم الوداد   فمصر وأحساء دُر تؤام

ويبعد «بسيم» بتوأمة مصر والأحساء إلى بعيد .. حين يشير إلى تنبُّه أبي العلاء المعري إلى تواعد مصر والأحساء من قديم(13)، ويرى جذورًا تراثية أصيلة، تدعم حبه الأحساء .. يقول بسيم في خطابه لمن وعدته حفظ شعره بفؤادها في «قالت سأحفظ شعركم بفؤادي» وهي من «عيون أحسائياته».

يا درة الأحساء فاح عبيرها   فتعطرت أرجاء هذا الوادي وتعانق النيل العظيم مع الحسا   فتهامسا وتلامسا بسُهاد يا شمس أحساء المعالي أشرقت   جادت بأنوارٍ على الورَّاد ستظل مصر على المدى أنشودة   بفم الزمان لذيذة الإنشاد ستظل حصنًا دافئًا لأحبة   تسخو لهم بالحب والإسعاد وتضيء درب السالكين إلى الهدى   بالعلم والإيمان والإرشاد قال المعري من قديم حكمة   مصر وأحساء على ميعاد أيقنت في صدق المعري حينما   أحببت أحسائي كحب بلادي

واستنادًا لذلك فقد مثلت الأحساء وبعض مدن مصر، ممن آثرت وأثرت الأحساء بخيرة علمائها ثنائيات عربية، تتجلى شعريًا كما بين الفيوم المصرية والأحساء السعودية، وكلتهامها واحة وسط صحراء، إذ تتنازع حبهما قلب العالم، ويحمل فؤاده ولاءً لهما معًا؛ فهما عربيتان: المصرية موطن النشأة والعودة، والأحساء موضع العطاء والأمل .. في «نجم النقد» يكشف «بسيم» عن إنسانية المدينة ومقام العالم الرفيع «أ.د ربيع عبدالعزيز» فيقول:

إني أرى الفيوم ترقب أوبةً   وأرى الحسا تبكي دمًا لوداع

ولئن أسرت «الأحساء» بسيم، بحب أهلها وكرمهم، وجمالها وثقافتهم، فقد بات «بسيم» فيها كالمأسور إيهامًا في موضع وحيد بالديوان، ذلك حين أراد دفعًا لمظنة تقصير في حضور تهنئة .. ربما رُمي بها، إذ لم يغادر لمكان التهنئة الأحساء فقال:

روحي تحوم حولكم في فرحة   والجسم في الأحساء كالمأسور

على أن «بسيم» وإن لم يمل الأحساء أو يهملها، فقد استبد به الشوق لأسرته وأهله، وديار قومه، فقال يعلن هذا الشوق في «طيف الحبيب»:

أيا أحساء فكي قيد عان   براه الشوق للأحباب مني بذلت لك القصائد مهر عتق   فجودي يا حساء ولا تضني أما يكفيك عشر سنين دأبًا   وهبتك كل إخلاصي وفني لقيت من المكائد ما دهاني   ومن حقد اللئام المستكن ولكني صبرت على أذاهم   وأعلنت الهوى لك فاطمئني فما أنا بالذي ينسى جميلاً   به طوقني وأثرت لحني ففيك نظمت أشعاري كأني   بدوحك بلبل فرح يغني جمالك يا حساء سبى فؤادي   وعيني، أنت كالرشأ الأغن نخيلك يا حسا يبدي شموخا   وأهلك كالنخيل بغير من بناتك يا حساء ذوات دين   وأخلاق حسان كاللجين لهن الهمة الكبرى، فعلمٌ   وآداب تحاكي النيرين ذريني يا حسا أمضي وعهدٌ   علي بأن أسدد بعض ديني

ويعد «بسيم» الأحساء بأن يظل لها وفيًا، ولعهدها الرغيد ممتنًا، فيقول في ختام «أدام الله صحبتنا»:

ولن أنسى الحسا ما دمت حيًا   فقد عشنا بها زمنًا رغيدا

يؤكد وعده بهذا الوفاء، وإن فارق بدنه أرضها، إذ سيظل على عهده رغم ابتعاده، فيقول في «قالت سأحفظ شعركم بفؤادي» كاشفًا عن فضل الحسا، وقبح الحُسَّاد:

كم ألهمتني الغيد فيك قصائدًا   خلدنني بحواضر وبوادي وحفظن شعري فانتشت مغردًا   رغم الوشاة، وكثرة الحساد يا غادة الأحساء حسبك أنني   سأصون عهدك رغم طول بعادي

(3)

في «لو تطلبين العمر» ما يقرر سرعة استجابة المبدع لكل مثير، يحمله على قول الشعر، فبسيم بالديوان اجتماعي من الطراز الأول، لا تفوته فرصة يمكنه أن ينظم فيها الشعر إلا اهتبلها، وأمسك بها .. وربما بدا لهذا عند بعض أن بسيم يعوزه حتى يقول الشعر ما يثيره من خارجه، وفي هذا كثير من الحق، لكن حسن استقبال بسيم ولباقته الإبداعية الحاضرة دومًا .. والتي لا يستعصي عليها الشعر إلا نادرًا جدًا حق كبير أيضًا.

في «لو تطلبين العمر» كثير من الإخوانيات، وبعض مساجلات شعرية، ومعارضات.

أما شعره في الإخوانيات، فدال على خلق المبدع، وهويته الثقافية، وتقديره للإنسان ولقيمة الصداقة والقرابة .. والزمالة أيضًا. وأعظم ما يملكه أخلاق الأحرار التي يستمسك بها، يقول في «رصعت جيد الشمس» يخاطب صديقه فواز عابدون:

يا صاحب الخلق النبيل تحية   لك من أخ أسعدته بجوار إني اصطفيتك يا أخي لصداقتي   إذ شمت فيك شمائل الأحرار ولمست فيك خلائقًا محمودة   تسخو بها في الجهر والإسرار أصل كريم حيث «غالب» قدوة   للعابدين وثلة الأخيار

يجامل «بسيم» في إخوانياته، حين الترقية «أغلى وسام» أو العودة إلى ديار الوطن «بلبل الشعر»، و«النهر المعطاء» أو التحول عن الأحساء إلى غيرها من مدن المملكة «طيور الحب» .. ونادرًا ما كانت إخوانياته للاعتذار وليس لكبره، وإنما لأنه لا يقترف ما يدعو إلى الاعتذار إلا نادرًا .. يقول في «رائدك الغزالي» معتذرًا لصديقه عبداللطيف الجوهري عن عدم مقابلته:

يعز عليَّ ألا ألتقيكم   بأحساء العراقة والجمال وتشفع لي محبتكم وأني   بكم أزهو لما لك من خصال فنبل ثم إخلاص وحب   لدين الله رائدك الغزالي

ومن قوله يهنئ «عديله» الدكتور زين العابدين محمود حسن بعمادة آداب القاهرة في «عميد الآداب»:

عرائس الشعر ميسي في بساتيني   ونضدي لي ورودًا مع رياحين حتى أقدمها باقات تهنئة   فقد ترقى أخي «زين العبادين» صار العميد لآداب بجامعة   أربت على مئة في العلم تهديني أرست قواعدها مصر لتخرجها   من نير رق إلى أنوار تمكين

وكثيرًا ما تسعفنا «إخوانيات» بسيم في الكشف عن رؤاه الخاصة، واختياراته، وتفضيلاته النقدية، فهو في «بلبل الشعر» زاهد في الحداثة، يعافها، كما نفهم من ثنايا ثنائه على صديقه الشاعر الفلسطيني «بسام دعيس» إذ يقول:

يا بلبل الشعر أنشدنا لتشجينا   فقد أصم نعيب البوم نادينا حداثة عافها من كان ذا أدب   ومن يحب رسول الله والدينا فشعرك العذب يا بسام يطربنا   وينعش النفس أنغامًا وتلحينا

ويبدو في «إخوانيات» بسيم إكباره لقيم الإسلام، وأكثر ما يعجبه منها أن يعيش المرء لغيره، فيعمل من أجل أمته .. وأهله، يحابب أخاه الدكتور عبدالرحمن العشماوي في «شاعر الإسلام» فيقول:

كم شاعرٍ في كل وادٍ هائمٌ   لكنك اخترت الرشاد مسارا يا من حملت شجون أمة أحمدٍ   وبعثت شعرك صارمًا بتارا أيقنت أنك شاعر الإسلام في   زمن طغى فيه الجبان وجارا أعليت رايته بشعرك دائمًا   كم غُصت فيه مجليًا أسرارا ودفعت عنه فكنت أنبل فارس   صد الغزاة وحصن الأسوارا

وبالقصيدة يتجلى صدق المبدع، وحرارة عاطفته نحو أخيه، وفيها تأكيد على هوية بسيم الإسلامية التي تلازمه دومًا في إبداع وحياة. إنه المعنيُّ بأمته، المعنيُّ بآلامها، يثني على «فارس التاريخ» الدكتور فهمي مقبل، إذ هو:

حمل الهموم همومة أمة أحمد   - لم يلتمس عذرًا – بغير شكاة ومضى يحاول جاهدًا ومجاهدًا   ليصد عنها عاتي الهجمات

ملمحان أخيران اتسم بهما شعر بسيم في «إخوانياته» يحسبان له .. أولهما حرصه الدائم، على الانتقال من الخاص إلى العام، تقريرًا لقيم حضارية ملحة، فدفع بذلك عن شعره زمنية أو آنية، تدفع به إلى مجاهل النسيان، وتقصره على طرفي الإخوانية، إذ ترقى به إلى التجارب الحية القابلة للبقاء، فبعد أن هنأ ابنته منة الله زين العابدين بتعيينها معيدة بشعبة العبري بآداب القاهرة، في «عروس الآداب» إذ قال:

يا منة الله يا أحلى الجميلات   أهديك أزكى سلامي مع تحياتي في يوم عُرس العلم أعلن فرحتي   بعروسة الآداب بنت لغات هي منة الله التي نزهو بها   وسط المحافل، نجمة الحفلات

ينتقل إلى العام، الذي هو شأن الأمة والوطن، فيقول:

فتمسكي بالدين واعتصمي به   وتألقي كالنجم في السموات وتضلعي من علم أعداء لنا   ردي المكائد من ألد عداة أبناء صهيون اللئام فكم طغوا   وبغوا فكانوا هم أشر بغاة شهد الإله لهم بسوء سريرة   كثعالب مردت على السوءات

وفي تهنئة للدكتورة «إنصاف بخاري» بمولودتها «مرح» يخاطب ابنتيها: مرح ومرافئ في قصيدته «مرح: في منبع النور» فيقول، مطوفًا بمشكلات الأمة المسلمة:

أوصيكما خيرًا بطاعة والد   وببر والدة بقلب طهور وتقبلا مني تحية عمكم   ولتغفرا إن خانني تعبيري فمشاغلي كثرت وقلبي مثقل   بهموم أمتنا فيالشعوري فالظلم يرفع فوفقها راياته   متبجحًا، والظلم شر مبير هل من صلاح الدين يرفع إصرها   ويقودها لـ «مرافئ» التحرير ويزيل أحزانًا تعكر صفونا   ليظلنا «مرح» بلا تكدير

ومن الجلي حسن استثمار علمي الفتاتين، حين طوعهما المبدع بذكاء، وهما ما يرتبط بالخاص ليشكلا روح العام الذي تغياه «بسيم».

أما ثاني الملمحين اللذين يحسبان لبسيم، ففي العجز الثاني من المقطع السابق ما يكشف عنه ؛ إذ عمد «بسيم» كثيرًا إلى تقديم اعتذاره عن عدم التجويد في شعره الإخواني، الذي يبدو أن بسيم أحسَّ بإمكانية تجويده إن أتيح له وقت كافٍ، يستوي في ذلك أن يكون الاعتذار بخاتم النص، كما في «نجم النقد» إذ يختمه بقوله:

عذرًا أخي إن كان شعري عاجزًا   عن وصفكم، قد جف حبر يراعي فلجأت للدمع السخين لعله   يطفي لظى حزني، فزاد لياعي لكن عزائي «يا ربيع» تواصل   ومحبة في الله أكرم راع

أو أن تكون بمطلع النص كما في «تحية إلى فاروق شوشة» التي يبدؤها ذكيًا وواعيًا بقوله:

يا سيد الشعر هب لي منك معذرة   إما كبا قلمي أو زاغ إبصاري أنوار شعرك يا فاروق تبهرني   فأنثني خجلاً من ضعف أشعاري نفائس الدر تجلوها بلا صدف   من ذا يساوي دراريكم بأحجاري

لكنه الحجر الكريم يا «بسيم»، وهل الدر إلا حجر كريم؟

مظهر ثانٍ مختلف يتصل بإخوانيات «بسيم»، تمثل في «مساجلات شعرية» تعاطاها مع محبيه من الشعراء، وألمح في هذه المساجلات، ما يجعلني مطمئنًا إلى الإيمان بأن «بسيم» يعوزه في غالب الأحيان ليصوغ شعره شرارةُ بدءٍ، هي دومًا عنده متصلة بقيمة إنسانية نبيلة، تعني بالإيمان أو الحب أو الوطن أو التسامح أو المجاملة. يرد على الشاعر السوري فواز عابدون في (سقط القناع) فيقول:

تهنيك عاطفةٌ وجرحٌ ينزف   يا من لأفضال الكنانة تعرف يا شاعر الشام الأبية لا تخف   أرض الكنانة بالطغاة سَتُخْسَفُ فواز قد عرف الأباة طريقهم   كُشِف القناع وخلته لا يُكشف سقط القناع عن الذين استأسدوا   فإذا بهم كالهِرِّ بل هم أضعف

ولبسيم في «لو تطلبين العمر ..» معارضات، مع الشاعرتين نبيلة الخطيب، وبشاير محمد، ومع الشاعر عبدالرحمن العشماوي. يعارض نبيلة الخطيب في قصيدتها «عاشقة الزنبق» التي تقول فيها:

ماذا أتى بك؟ قال: الوجد والوله   فطرت زهوًا وخلت الكون لي وله

يعارضها بسيم بقصيدته: «طائر الشوق» وفيها يقول:

يا طائر الشوق هب لي منك معذرة   قد فاض مني الهوى والنأي أشعله لكن عزمي ضعيف رحت أشحذه   بالله حتى أرى الأقصى وأسأله عن أمة نسيت تاريخ عزتها   فالذل من فوقها أجرى أبابله هذا أبو حفص الفاروق كان له   فضل عظيم وللإسلام أدخله وذا صلاحُ لدين الله يرجعه   وهيكل الكفر في حطين زلزله واليوم مالي أرى المليار لاهية   ترى العدو وتأبى أن تُنازله

ويعارض «عبدالرحمن العشماوي» في قصيدته «أيا شعب مصر» والتي يقول فيها:

تهب الرياح ولا مهرب   فأرض الكنانة لا تلعب

بقصيدته (أيا شاعر الحق) وفيها يقول «بسيم»:

أيا شاعر الحق لا مهرب   فشعب الكنانة لا يلعب صدقت فمصر بتاريخها   ينابيع خير فلا تنضب وشعب الكنانة خير الجنو   د، بسوح الجهاد فلا مهرب

وتحتاج معارضات «بسيم» إلى دراسة مستقلة هادئة، تقف على حقيقة الإبداع بموازنة القصائد في حياد.

(4)

في «لو تطلبين العمر» للمبدع الأكاديمي الدكتور «بسيم عبدالعظيم» ظواهر أسلوبية خاصة نادرة .. كاشفة، بخلاف خصائص أسلوبه البارزة، التي تتكرر كثيرًا ويتكئ عليها في تشكيل تجربته وتحقيق مقاصد شعره.

أما النادرة فثلاثة تقرر جميعها، امتلاك «بسيم» أداته، ومطاوعتها له، كلما أراد هبط عليه طائر الشعر، أما أولها، فأنه نظم العمودي والحر، ولئن تمثل الحر في نص وحيد رملي، هو «في دروب العشق»، فواحديته بذاتها دالة على امتلاك القدرة .. ثانية الظواهر الخاصة، تقنية إسقاط الروابط، ومن ذلك قوله في «أحمد وندا»:

إذ أسقط روابط العطف بالعجز، فتسارعت وتيرة الإيقاع.

لندى وأحمد صغتُ أجمل تحفة   فحروفها نبضي، دمي، أحباري

وأخيرًا فإن «بسيم» يمكنه أن ينظم في الموضوع الواحد، أو الحدث الواحد أكثر من نص، تتفق في الوزن غالبًا، وتختلف في الروي والقافية، وكأن المطلع في ذاته هو من يقود في تجربة بسيم الشعرية بقية النص .. فلقد قدم «بسيم» لنصه «سلطان القلوب» الرائي، بنصه «أصيل الحب» اللامي، وكلاهما على الوافر، وكان في حضرة «ولي العهد» السعودي الأمير سلطان بن عبدالعزيز .. يقول في اللامية:

أصيل الحب أملاني فكانت   مشاعر صغتها لحنًا جميلا فخذها يا ولي العهد مني   تصافح سمعكم جيلاً فجيلا فمصر جميعها قد أوفدتني   لتهنئة وقد حُمِّلْتُ نيلا

ويقول في الرائية:

أتى سلطان فانتعشت نفوسٌ   به تحيا وتقبس منه نورا له في كل قلب مُستقرٌ   يطمئنه، فيمنحه السرورا إذا ضاقت بنا الدنيا وجدنا   به شهمًا وزيرًا أو أميرا

أما الظواهر الأسلوبية الأكثر ترددًا، وفاعلية في تشكيل رؤية الشاعر في «لو تطلبين العمر» فتمثلت في ثلاث هي:

التكرار

التناص

الإيقاع

( 4 / 1 )

يعد التكرار(14) تقنية إيقاعية ودلالية، من تقنيات الشعر الحديث الأثيرة، ويكثر ترددها بالشعر الرسالي القاصد إلى البيان أو الإصلاح، إذ يعمد المبدع عبر التكرار إلى الوضوح ابتغاء حسن نقل رسالته، والوفاء بحق التجربة .. ويكرر «بسيم» الدال المفرد كما في الجار «من» في نصه «نديم الليل» كاشفًا عن تعدد عن وحدته وعن مثيرات حزنه .. ومنغصات لياليه .. يقول:

يا نديم الليل إني   دائمًا في الليل وحدي من ذبول الزهر أبكي   من جفاف النبع عندي من ظلام يحتويني   من سكون لي حزين من شباب لي سجين   واغتراب وحنين علة في الجسم راحت   تضجر الروح وتضني

ومن الجلي تمركز (من) بمواقع الصدارة في أشطر خمسة، وكأنها نبضات ينطلق منها المبدع في كل مرة إلى جديد يستكمل به ركنًا من أركان مأساته!

وقد يكرر «بسيم» الدال لذات الغاية، مضافًا إليها طربٌ خاص، ورسالة يتغياها من تكريره، هي المداعبة، وتطييب الخاطر(15)، كما في «يا ولدي»، إذ يكرر فيها الدال (صباح) في خمس أيضًا من مفاتح أبياته .. يقول:

صباحُ الخير يا ولدي   ويا جُزءًا من الكَبِدِ صباح النور يغشاها   بفضل البر والرَّشَدِ صباح البر والإيما   ن، والتقوى بلا حدِّ .. صباح المكرمات غدت   بلا حصر ولا عدِّ صباح العلم نطلبه   ولو في الصين والهندِ

وقد يكرر «بسيم» بالقصيدة الواحدة، لمعنى ألحَّ عليه، ورآه محوريًا بتجربته شطرًا بكامله .. يمثل مرتكزًا في رسالته، كما في «تحية للمنتدى الأسري» وقد بهره الشباب بجهده الوافر وحسن خلقه، إذ يقول مكررًا للصدر:

(2) أما الشباب فقد تحصن جمعهم   بفضيلة ومودة ووفاء (7) .. أما الشباب فقد تفانى جمعهم   في حسن أخلاق وطيب لقاء

أما في «النهر المعطاء» وقد أهداها الدكتور محمد أرباب، حين قاطعه في حفل تكريمه عريفُ الحفل أثناء كلمته .. فقال يخفف عنه:

(2) لا تلق بالاً يا صديـ   ـق، لما لقيت من الجفاء (20) لا تلق بالاً يا صديـ   ـق، فأنت أهل للثناء

وقد يكرر «بسيم» الشطر بعجزي المطلع والمقطع، فيتحقق ببنيته وموقعه تعزيز لدلالة الشطر، وفتح للنص على معنى الشطر قبل غيره .. ذلك ما نلمسه في «رسالة إلى ولدي» إذ يبدؤها بقوله:

ولدي أحبك هل تعي   إني وهبتك أجمعي

ويختمها بقوله:

وتذكرن يا نجلنا   إني وهبتك أجمعي

وربما ألح معنى بعينه على ذات المبدع، فكرره في أكثر من موضع من ديوانه .. لقد طوف المبدع بخياله وفكره في دنيا المسلمين، فوجد طغاة لا يرقبون في رعاياهم إلاً ولا ذمة .. يقول عنهم في «يا عيد»:

لم يرقبوا إلاً فيهم ولا ذممًا   فاخسف بهم ربنا وليشرق النور

ويقول عنهم في «يا ليلة العيد»:

لم يرقبوا فيه لا إلاً ولا ذممًا   فحسبنا الله، إنَّ الله قهار

( 4 / 2 )

أما التناص، فمواضعه بالديوان كثر، ومصادره متنوعة، وهي بالمجمل إسلامية، ما بين قرآنية – كما مرَّ – ونبوية، وتاريخية، وأدبية .. وفي تناصه ربما تعاون أكثر من معين بالموضع الواحد. ويحتل معين الأدب العربي الإسلامي قائمة مصادر التناص بالديوان، ومنه قد ينصص بيت شعر مشهورًا لواحد من أعلام العربية، كما في قوله بمطلع «الدامغة الصغرى»:

تكذبنا ولست بأهل صدق   فكاذبنا لصادقنا الفداء

إذ ينقل عن حسان بن ثابت قوله يخاطب أبا سفيان؛ بعد بدر، وكان إذاك ما زال مشركًا:

هجوت محمدًا فأجبت عنه   وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفء   فشركما لخيركما الفداء

ومن ذلك قول «بسيم» في «خنساء مكة» يخاطب إنصاف بخاري:

أرسلت بيتًا فريدًا في تحيتها   لسيد الشعر كم غنت به البيد ما زال يصدق في وصف انتكاستنا   «عيد بأية حالٍ عدت يا عيد» يا أيها المتنبي تلك حالتنا   عبر القرون، فما في الأمر تجديد

إذ ينقل عن «المتنبي» قوله:

عيد بأية حال عدت يا عيد   بما مضى أم لأمر فيك تجديد

والسياق بين النصوص البكر، والمضمنة متفق في كلٍّ، على نحو ما نجد في قوله أيضًا بـ «أغنية وحسناوان» وفيها يقول «بسيم»:

قال الرشيد كما أدعوا في شعره   ملك الثلاث الآنسات عناني ويقول «بسام» الحبيب معارضًا   «صهر الفؤاد مثلث النيران»

والبيتان ينقلان عن شاعرين، خليفة مسلم قديم هو الرشيد(16) ومعاصر هو بسام دعيس.

وعن «شوقي» الوحيد الذي نصص عنه من شعراء العصر الحديث، يقول «بسيم» في «نجم النقد»:

كم كنت أوثر أن تصوغ وداعي   يا من له في النقد أطول باع

إذ ينقل عن شوقي من رثائه لحافظ إبراهيم قوله:

قد كنت أوثر أن تقول رثائي   يا منصف الموتى من الأحياء

وقد يستدعي «بسيم» في تنصيصه الأدبي لشخصية أدبية تمثل رمزًا ما يسعفه على بيان مراده، وإيصال رسالته، كما في استدعائه لرموز الحب العربي، في قوله في «بلبل الشعر»:

يا بلبل الشعر أنشدنا لتشجينا   فقد أصم نعيب البوم نادينا .. إن قلت في الحب صار الحب ملحمة   كثيرٌ أنت؟ أم حاكيت مجنونا؟ لو قلت في الزهد، أضحى الزهد غايتنا   أبنُ المبارك؟ أم أنت ابن سيرينا؟

ومثل ذلك قوله في «فارس التاريخ» يمتدح بيان الدكتور فهمي مقبل:

هو في البلاغة قس أو سحبانها   فيريك نثر الدر في الكلمات

ويمتدح شعر «فاروق شوشة» في تحيته له، فيقول له:

في الشعر حاكيتم أعلام أمتنا   حسان والمتنبي وابن عمار

يأتي المعين النبوي ثاني مصادر تناص الديوان في مرات التردد، ومعه يقبس «بسيم» من نور النبوة ما يزين به شعره، ويدعم رسالته، يقبس من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله لأناسًا، ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى، قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إنَّ وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ هذه الآية: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» رواه عمر في سنن أبي داود.

يقول «بسيم» في «بلبل الشعر»:

وأشهد الله ربي أنني لكم   أخ محب، فكونوا لي محبينا حتى نلاقي رب الكون خالقنا   على منابر من نور تلاقينا

وينقل عن حديث سباب المسلم فسوق(17) قوله في «الدامغة»:

سباب المسلمين صريح فسق   فلا تحقرهم فيصبك داء وكف عليك يا مسكين عضوًا   يكبك في جهنم، ذا رجاء

وينقل عن حديث الغثائية(18) قوله في «في رحاب المدينة المنورة»:

رسول الله جئت إليك أشكو   غثاء في الشدائد ليس يغني وما من قلة ذلوا ولكن   كثير كالغثاء بكل بطن وقد نزعت مهابتهم وهانوا   فصاروا يوصفون بكل وهن

ومن تناصه التاريخي ما ورد في «يا ليلة العيد» إذ يقول:

أين الألى ركزوا أعلام عزتنا   في الخافقين، وجند الله كرار هذا صلاح وذا سيف العلا قطز   بل أين خالد سيف الله بتار أين الرشيد ومأمون ومعتصم   أين الخلائف من للعرض قد ثاروا فمن لنا اليوم حيث العرض منتهك   فأين معتصم والجيش جرار؟

وإذا كان «بسيم» هنا إسلامي، لا يعتد بغير ماضي أمته الإسلامية، فإن من تمام كمال هويته كمصري، اعتزازه بحضارة أمته المصرية، ساعتها يتآزر معين التاريخ المصري مع الإسلامي كاشفين عن هوية لا تتجزأ للمبدع المسلم المصري، إذ يقول في «أيا شاعر الحق» يمتدح جنود مصر:

فمن عهد فرعون تلقاهم   تساموا فليس لهم مطلب سوى المجد يبنون أهرامه   فتسمو كما قد سما الكوكب هموا أدبوا كل مستكبر   عتلاً وطاغية أدبوا وسل عين جالوت حيث ارعوى   هولاكو وجيش له مرعب وحطين تشهد دحر الغزا   ة، دعاة الصليب ومن ألبوا

 ( 4 / 3 )

يكثر «بسيم» في «لو تطلبين العمر» من النظم على الكامل تامًا فمجزوءًا وعلى البسيط والمتقارب والوافر .. وقد حرص على موسيقاه الداخلية معتمدًا على التقسيم وتكرار التركيب، ومن الأول قوله في «عميد الآداب»:

دامت أخوتنا / زادت مودتنا   فاقبل تهانينا / يا زين عابدين

وقد استغرق كل قسم من الرباعية تفعيلتي بسيط (مستفعلن فعلن) فيحقق انسجام دلالي إمتاعي، طربًا من المبدع بما يقول، وحسنًا وقع التقسيم بالمقطع، في أقصى مراحل التوهج الإبداعي بالنص.

أما تكرار التركيب فأثره الإيقاعي لا يخفى، وقد تعددت مرات ترددت، كما في مفتتح بيته في «أغنية وحسناوان» إذ يقول:

ونقشت رسمي فوق خد أديمها   فالأهل أهلي والمكان مكاني ورقمت اسمي في سجل خلودها   ولحبها أهديتها ألحاني

ومثل بمختتم بيته في «أنا والمرايا»:

وتصرمت كل الحبال سحيلها   أو مبرم، وبحبل رب شددت أزري وجميع أنواري انطفت لم أكترث   في ظلمتي، وبنور رب أضأت دربي

ومن ذلك قوله في «يا شباب الدين»:

حملة الصلبان عادت   قادها «بوش» الصغير حملة للشر قامت   ضالع فيها «بلير»

وبعد فالحق أن الديوان في حاجة إلى مزيد بحث، يجلي خافيه من خصائص الأسلوب، وما أرى الديوان إلا صورة من ذات المبدع المسلم العربي الشاعر.

مصطفى أبو طاحون

شبين الكوم في 26/5/2016م

الهوامش

1 – هي أربعة وستون نصًا من الوجهة الكمية .. لكن نص «نديم الليل» يتكرر مرتين في ص 77، ص 171.

2 – ديوان الحُطيئة، برواية وشرح ابن السكيت، تحقيق نعمان محمد أمين طه، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1987، ص 330.

3 – في هجاء الزوجات، هالة فهمي، المجلس الأعلى للثقافة بمصر «الطبعة الأولى»، 2008، ص 7.

4 – اتجاهات الشعر العربي المعاصر، إحسان عباس، عالم المعرفة «يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت»، العدد الثاني، فبراير 1978، ص 135.

5، 6 – الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، عز الدين إسماعيل، دار الفكر العربي بالقاهرة، الطبعة الثالثة 1978، ص 326.

7 – تجربة المدينة في الشعر العربي المعاصر، صنعاء نموذجًا، عبدالسلام الشاذلي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006، ص 21، 22.

8 – تضم مدينة الأحساء مدينتي: الهفوف والمبرَّز، بالإضافة لعدد من القرى الشرقية والقرى الشمالية، ويكثر فيها النخيل، وعيون الماء، فهي واحة زراعية بشرق المملكة بالقرب من الخليج العربي.

9 – ديوان ابن المقرب، تحقيق: عبدالفتاح محمد الحلو، مكتبة التعاون الثقافي بالأحساء، المملكة السعودية، الطبعة الثانية 1988م، ص 435.

     القريتان: موضعان معروفان، يقال لأحدهما القرية العلياء، والأخرى السفلى.

     السجال: المنصب، أو الذي ينصب تارة بعد أخرى، القباب: معروقة على ملوك الأحساء بالمقبرة. الأين: الإعياء. الكلال: التعب.

10 – عنوان الملف الرئيسي للمجلة العربية، العدد 474، الصادر في إبريل 2016، عن المملكة العربية السعودية.

11 – الأحساء طبق من نخيل، ضمن مقالات «المجلة العربية» العدد (474)، ص 49.

     الديرم: شجر طبيعي، مثل منذ القديم مصدرًا من مصادر جمال حواء ؛ إذ يستخدم لحاءه كأحمر شفاة .. تتعدد أسماء الشجرة في البلدان العربية، فهي بالسعودية: الديرم أو الديرمة أو الديرمان، وفي ليبيا «لوز خزانين» وفي مصر «عين الجمل» وفي المغرب «جرجع» وفي تونس «زوز».

12 – الأحساء طبق من نخيل ص 49.

13 – لا أدري أين أجد هذا التواعد بشعر المعري.

14 – أحيانًا ما يتكئ «بسيم» على المقابلة، وهي قليلة بالديوان، ربما لتوافق ذات المبدع مع الوجود في غالب حياته .. ولا تكون المقابلة في «لو تطلبين العمر» إلا في مواضع مفارقة، يبدو فيها الحدث، مبهرًا أو محزنًا، هو حدث مفارق، لا تقليدي في كل الأحيان .. يقول كاشفًا عن تباين مسلكه ومسلك مهجوه، في «الدامغة الصغرى»:

إذا ذكرتكمو يومًا بهجو   فإن نصيبنا منها الثناء رفعنا ذكرها في كل سِفْرٍ   وضقت بها فكان لك الجلاء حلفت بأنني سببٌ لهجر   كذبت فذاك زعم وافتراء هي الأحساء تنفي كل خبث   وتبقي نافعًا، برح الخفاء

يستخدم المقابلة أيضًا في «حفيد الفاتحين» وقد أدهشته بطولات رجال الحجارة في القدس .. يقول:

أأطفال الحجارة يا رجالاً   فجرتم بالحجارة سلسبيلا يروي أمة عطشى لعز   فتذكر ماضيًا ألقا جميلاً

15 – قدم الشاعر لقصيدته بقوله: «هذه رسالة جوال إلى ابني البكر .. بعد حوار ساخن دار بيني وبينه في الهاتف».

16 – ورد في «اعتلال القلوب» للخرائطي .. أنشدني عمران بن موسى المؤدب لهارون الرشيد في حظيات كن عنده، وهن: قصف، وضن، وخنث:

ملك الثلاثُ الآنسات عناني   وحللن من قلبي بكل مكان مالي تطاوعني البرية كلها   وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى   وبه ملكن، أعز من سلطاني

17 – من الحديث المتفق عليه (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر).

18 – عن ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها، قلنا: من قلة بنا يومئذ ؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ينزع الله المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).

وسوم: العدد 687