من همسات الذاكرة

كنت أزمعت أن أكتب منشورًا، بل قل خاطرة عن لوحة خبأتها لي الذاكرة في أبهائها الواسعة، هذه اللوحة تعود إلى عام ١٩٦١م إذ أقيم آنذاك مهرجان ضخم على مدرج كلية الطب في جامعة دمشق عن حجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله، وشارك في هذا المهرجان نخبة من رجال الفكر المختصين في هذا الشأن. ورأيتني قبل الشروع في الكتابة مرجحًا أن أستخدم في موضع معين من هذه اللوحة الفعل (صَفَحَ) لأنني وجدت أنه فعل شديد المناسبة قوي الأداء لرسم زاوية من زوايا هذا المشهد، ولكنني ترددت وأحجمت وقلت في نفسي: لم لا أستشير المعاجم قبل الشروع وأسأل أهل اللغة عن سلامة هذا الاستعمال، فلغتنا محصنة بقوانين ثابتة لا أبيح لنفسي ولا لغيري إهمالها والتطاول عليها، مع قناعتي بأن لغتنا برغم هذه القوانين طيعة سلسة لا تتأبى عند ذوي البصيرة اللغوية على التوسع والمجاز.

جاء في (المحيط): صفح القومَ، وورقَ المصحف: عرضهما واحدًا واحدًا، كتصفَّح.

وفي (اللسان): تصفح الأمرَ وصفَحَه: نظر فيه.

إلا أن صاحب (الأساس) يقول: أتيت فلانًا في حاجة فصفحني عنها، أي ردَّني.

ولن أستعرض أكثر من ذلك لأن المعاجم كررت هذا الشرح بما لا يخرج عن المعنى. 

ثم إني لن أتوقف عند الفعل (تصفح) فمن المقرر أنه يعني قراءة الكتاب صفحة صفحة بتأمل وفهم، على العكس من استعمالنا له اليوم، إذ نقصد أننا قرأنا الكتاب قراءة مستعجلة. وهذا ما تنبه إليه صاحب (معجم اللغة العربية المعاصرة) إذ أورد المعنى الموروث للفعل ثم أتبعه بالمعنى الحديث: نظر في صفحاته ولم يقرأه بتمعن، قرأه قراءة سطحية. وكنت أتوقع من هذا المعجم أن يتعرض أيضًا للفعل (صفح) فيكشف لنا عن تطور طرأ على استعماله، فلم يفعل.

وكذلك لم يفعل من قبله صاحب (التاج).

وهنا، وأرجو أن تحتملوا مني هذا الاستطراد الذي قد يبدو مملًا، أعرض خبرين اثنين ورد فيهما الفعل (صفح) على خلاف ما قرره أرباب اللغة.

أولهما: جاء في (المنتظم) ١٣/١٣ لابن الجوزي في وفيات سنة ٢٨٩هـ: لما ولد فَهُمٌ (لا تعجبوا من هذا الضبط) - يعني والد الحسين بن فَهُمٍ - أخذ أبوه المصحفَ فجعل يَصْفَحُ، فجعل كلما صَفَحَ ورقة يخرج (فَهُم لا يعقلون، فَهُم لا يعلمون، فَهُم لا يبصرون، فَهُم لا يسمعون..) فضجر، فسماه (فَهُمًا).

وثانيهما: جاء في (معجم الأدباء)١٨٧٨/٤ في ترجمة القاضي علي بن محمد التنوخي: ... فقال: كم حفظتَ من القصيدة؟ فقلتُ قد حفظتُها بأسرها، فغضب وقدَّر أني قد كذبته وقال: هاتها، فأخرجت الدفتر من كمي فأخذه وفتحه ونظر فيه وأنا أنشد، إلى أن مضيتُ في أكثر من مائة بيت، فصَفَحَ منها عدة أوراق وقال: أنشد من هنا، فأنشدت مقدار مائة بيت، فصَفَحَ إلى أن قارب آخرها بمائة بيت وقال: أنشدني من ها هنا، فأنشدته من مائة بيت فيها إلى آخرها. فهاله ما رآى من حسن حفظي، فضمني إليه وقبَّل رأسي وعيني...

ما الذي نفهمه من الفعل (صَفَحَ) في هذين النصين؟ 

ألا يتظهَّر لنا أن المراد به: قلب عدة صفحات وتجاوزها ولم يقرأها وردَّها إلى الطرف الآخر من الكتاب؟

ألا نرى أن هذا الفعل تشرب معنى التجاوز من (الصَّفْح) الذي هو: العفو والترك والإعراض عن الذنب والتجاوز عن المذنبين؟ أوَليس هذا من قبيل تحرش الأفعال بعضها ببعض حين يكون الجذر واحدًا؟

والآن يبدو أن علي أن أعود إلى مهرجان الغزالي قبل أن أشرد فأنسى ما كانت قد نبهتني إليه الذاكرة، فترتد عني خائبة ساخرة. نعم في خمسة الأيام البهيجة تلك حرص أساتذتنا في كلية الآداب ألا يفوتوا عليهم المتعة في حضور هذه التظاهرة العلمية فتعطلت معظم المحاضرات لهذا السبب، وتوجه عدد من الطلاب إلى مكان الحفل طمعًا في مشاهدة رجال طالما سمعوا بهم أو قرؤوا بعضًا من كتبهم، وأذكر أن من بين المشاركين في هذا المهرجان الدكتور عبد الكريم عثمان الحموي الأصل الذي قدم بحثًا قيمًا عن (النفس عند الغزالي) فكنت أصغي إليه وأتخيلني لا أزال طالبًا أمامه في ثانوية هنانو يوم كان يدرسنا مادة الفلسفة، فنرى فيه المدرس الوقور الذي يصلح أن يكون قدوة في العلم ومثالًا في الخلق. 

إحدى جلسات هذا المهرجان ترأسها الدكتور إبراهيم مدكور، ولم أكن من قبل قد عرفته أو سمعت به، ثم تبين لي فيما بعد أنه أحد أعلام اللغة والأدب، ثم أصبح بعد عشر السبعين رئيسًا لمجمع اللغة العربية في القاهرة، ولما صدر له كتاب (في اللغة والأدب) سارعت فاقتنيته وكتبت عنه مقالًا نشرته في مجلة (الأديب) اللبنانية. وفي هذه الجلسة كان الحاضرون تتوثب نفوسهم وتتشوف أبصارهم إلى رؤية  ذلك العلم الشامخ والفيلسوف المتمكن الذي يتزاحم المثقفون في جميع أرجاء الوطن العربي ويتسارعون إلى مطالعة كتبه في الفلسفة أو الأدب، ألا وهو الدكتور عبد الرحمن بدوي.. وبكلمات كلها ثناء وإطراء قدمه الدكتور مدكور ودعاه إلى المنصة، فعم القاعة صمت مهيب حين برز بجثته الضخمة ومشيته المترنحة وخطواته الوئيدة متوجهًا إلى المنضدة. 

وقد جرت العادة في مثل هذه المؤتمرات أن تنحصر الجلسة في ساعة واحدة، وأن يكون المشاركون فيها ثلاثة محاضرين يخصص لكل منهم عشرون دقيقة قد يتسامح فيها ببضع دقائق أخرى، فما بال الدكتور بدوي قد تأبط ملفًا سميكًا تحتاج قراءته إلى أكثر من ساعة واحدة! هذا ما أثار دهشة رئيس الجلسة والمشاركيَن الآخرَين، أما الحضور فلم يكن يعنيهم هذا الأمر، لأنهم كانوا مهيئين للاستزادة من سماع حديث الدكتور بدوي دون أن يفكر أحدهم أبدًا بالنظر إلى ساعته. 

كم أنا آسف لأنني لا أذكر موضوع بحث الدكتور بدوي آنذاك، فقد بدأ بصوته الهادئ الرزين ونبرته الواضحة المعبرة يتنقل من فكرة إلى فكرة دون أن يخلَّ بمنهجيته الحميدة وآرائه السديدة. وانقضت العشرون دقيقة كأنها لمحة من طرف أو ومضة من ضوء، وامتدت بعدها ست دقائق أو سبع، فما كان من الدكتور مدكور إلا أن أمسك بيده القلم ونقر به نقرات خفيفة على المنضدة الخشبية ينبهه إلى أن حصته من الوقت قد انقضت، فالتفت إليه الدكتور بدوي مبتسمًا وأمسك بمجموعة من أوراق البحث و(صَفَحَها) قائلًا بنبرة كلها مزاح ومداعبة: ودِي على شانك دكتور مدكور!! فغشيت وجوه الحاضرين ابتسامة خفيفة تفاعلًا مع هذا المشهد الفكاهي العابر، ثم تابع القراءة غير مكترث إلى أنه تجاوز حصته أكثر من سبع دقائق أخرى.. وطرقت أسماع الحاضرين نقرات الدكتور مدكور مرة ثانية وكأنها صرخة تأنيبية كان من حقه أن يطلقها دون تحفظ أو احتشام، فكانت أعتى من الأولى وأشد، وأبلغ في التعبير عن حدة الانفعال التى اجتاحت أعصاب الدكتور مدكور، أوَليس الصوت الذي يلامس آذاننا ضربًا من ضروب الإشارة والإشارة شكلًا من أشكال البيان! والتفت الدكتور بدوي إليه مرة ثانية دون أن يتململ أو يهتز، وأمسك كذلك بطبقة من أوراق بحثه فـ(صَفَحَها) وأعاد قوله مبتسمًا: ودِي على شانك دكتور مدكور!! إلا أن المدرج في هذه المرة ضج بالضحك ترافقه همسات لا تفسر إلا بأنها تفاعل مباغت مع هذه المشاهد من مسرحية تفكهية رفيعة المستوى يبرع في أدائها إخواننا المصريون. ثم لم يلبث الدكتور بدوي أن طوى أوراقه وختم بحثه وسط عاصفة من التصفيق. 

أيتها الذاكرة.. نتوسل إليك أن تشفقي علينا بمثل هذه اللوحات البهيجة، ولا تصدمينا بما تخفين في أبهائك من لوحات مؤلمة!!