رسائل من أحمد الجدع ( 40 )

رسائل من أحمد الجدع ( 40 )

أحمد الجدع

العالم اللغوي : أبو بكر بن دريد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هكذا اختصروا اسمك ، وبهذا الاختصار شُهرت ، أما اسمك كما هو مكتوب على كتبك فهو : أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي .

ألفت كتباً كثيرة منها : جمهرة اللغة ( معجم لغوي ) ، كتاب الاشتقاق ، أدب الكاتب ، الأمالي ، تقويم اللسان، اللغات في القرآن ، وديوان شعر .

قالوا : " إنك أشعر العلماء وأعلم الشعراء " وهذا إطراء بليغ .

من شعرك المعجب في الحمام ، وقد أولع الشعراء بالحمام ، فقالوا فيه شعراً كثيراً وجميلاً :

أقول لورقاوين في فرع نخلةٍ
وقد بسطت هاتا لتلك جناحها
ليهنكما أن لم تراعى بفُرقةٍ
فلم أر مثلي قطَّع الشوق قلبه   

 

وقد طفل الإمساء أو جنح العصرُ
ومال على هاتيك من هذه النَّحرُ
وما دبَّ في تشتيت شملكما الدّهرُ
على أنه يحكي قس
اوتَه الصَّخرُ

وأشهر شعرك مقصورتك التي التزمت برويها الألف المقصورة ، وقد أحطت فيها بأكثر الكلمات المقصورة في لغتنا العربية، وقد بلغت أبياتها مئتين وثلاثة وخمسين بيتاً، وقد كانت هذه القصيدة المقصورة سبب شهرتك لأن فيها من البراعة اللغوية ، والمقدرة الشعرية ، والإشارات التاريخية والأدبية ، والحكم المنثورة ، والنفثات الشخصية ، ما يرفعها إلى درجة عالية .

ولما قدمنا فقد ذاعت شهرة قصيدتك ، فعني بها الأدباء ، والشعراء ، فكانت شروحها خمسة وثلاثين شرحاً، وعارضها وخمّسها عدد كبير من الشعراء .

الشعراء الذين نظموا قصائد مقصورة كثيرون ، وكلهم حاولوا أن يحتذوا حذوك ، إلا أن مقصورتك بقيت متفوقة ، لم يدنُ منها شاعر ممن عارضها .

قد يتساءل سائل عن معنى المعارضة فنقول له : إن معارضة القصيدة هي محاولة من شاعر آخر يحاول أن ينظم قصيدة يتفوق فيها على القصيدة الأصلية .

يا أبا بكر : بدأت مقصورتك بالأبيات الآتية :

إمّا تَرَيْ رأسي حاكى لونه
واشتعل المبيضُّ في مسودِّه
فكان كالليل البهيم حلَّ في
وغاض ماء شرتي دهرٌ رمى   

 

 

طرة صبحٍ تحت أذيال الدّجى
مثل اشتعال النار في جزل الغضى
أرجائه ضوء صباح فانجلى
خواطر القلب بتبريح الجوى

 

وأراك تستعرض ثقافتك التاريخية في مثل قولك :

إنّ امرأ القيس جرى إلى مدى
وخامرت نفس أبي الجبر الجوى
واخترم الوضاحَ من دون اللتي
وسيفٌ استعلت به همته
فجرَّع الأحبوش سُماً ناقعاً   

 

 

فاعتاقه حِمامه دون المدى
حتى حواه الحتف فيمن قد حوى
أمَّلها سيف الحمام المنتضى
حتى رمى أبعد شأو المرتمى
واحتل من غمدان محراب الدُّمى

 

وأنهيت مقصورتك بأبيات منها هذان البيتان :

كأن نَوْرَ الروض نظم لفظه
من كل ما نال الفتى قد نلته   

 

 

مرتجِلاً أو مُنشِداً أو إن شدا
والمرءُ يبقى بعده حُسْنُ النثا

 

تقول سيرتك أنك ولدت سنة 223 هـ ، وتوفاك الله سنة 321 هـ ، وممن رثاك جحظة البرمكي ، ومما قاله في رثائك :

فقدت يا بن دريدٍ كلَّ منفعة
وكنت أبكي لفقد الجود مجتهداً   

 

لما غدا ثالث الأحجار والترب
فصرت أبكي لفقد الجود والأدب

وبعد يا بن دريد

قال أبو نصر الميكالي : تذاكرنا المتنزهات يوماً وابن دريد حاضر ، فقال بعضهم : أنزه الأماكن غوطة دمشق، وقال آخرون : بل نهر الأُبلَّة ، وقال آخرون : بل سغد سمرقند ، وقال بعضهم نهروان بغداد ، وقال بعضهم : شِعب بوّان بأرض فارس ، وقال بعضهم : نوبهار بلْخ .

قال ابن دريد : هذه متنزهات العيون ، فأين أنتم من متنزهات القلوب ؟

قلنا : وما هي يا أبا بكر ؟

قال : عيون الأخبار للقتبي ، والزهرة لابن داود ، وقلق المشتاق لابن أبي طاهر .

ثم أنشأ يقول :

ومن تك نزهته قينة
فنزهتنا واستراحتنا

 

وكأسٌ تحثُّ وكأس تُصب
تلاقي العيون ودرسُ الكتب

هذه المعلومات نتيجة مطالعة كتاب شرح مقصورة ابن دريد للخطيب التبريزي الذي نشره المكتب الإسلامي في بيروت في طبعته الأولى عام 1380 هـ 1961 م أي قبل خمسين سنة .

أبا بكر بن دريد : رحمك الله ورحمنا معك .