الوطن في العربية

هذا البحث محاولة تهدف إلى تعليم اللغة العربية عن طريق الحوار، وكل ما ورد فيه من كلام وتعريفات وشرح للمصطلحات إنما هو منقول من كتب اللغة بنصه دون تغيير أو تحريف، وليس لي فيه سوى عرضه بأسلوب حواري.

وتحدثت فيه عن المعاني اللغوية لمفردات مثل: الوطن، والمواطن والعروبة والوطنية، وتفسير بعض الآيات كقوله تعال: ولا تمش في الأرض مرحاً، وقوله: تدور أعينهم من الموت، وشرح المثل: أضيع من الأيتام على مآدب اللئام، وحق كل إنسان بوطن يعيش فيه، وحرية الإنسان بالاعتقاد وإقامة عباداته وإلا فهو ليس بوطن، ولذلك تحدثت عن الحريات وأنواعها، ثم تأكد لكل إنسان أن الوطن هو مكان إقامة الدين بحرية وإلا فليس بوطن يعيش فيه الإنسان غير آمن، وغير حر.

-1-

 سألت صاحبي عن كلمة الوطن.

فأجابني أن كلمة وطن وضعت أصلاً لمرابض الدواب.

فصحت، وداخلني شيء من غصة: ومن أين أتيت بهذا المعنى؟

فقال: لو ذهبت إلى المعاجم لرأيت أن كلمة وطن وضعت لمرابض الدواب؛ لأن1 صاحب الدابة يربطها في مكان يوطّنها فيه، ثم يذهب يقضي حوائجه، ويعود لحاجة حيواناته في المكان الذي تركها فيه.

فقلت له: ولذلك دائماً تخاطبني ساخراً وهازئاً ومداعباً: أنتم وطنيون، تريد أننا نهتم بقطعة الأرض التي ولدنا عليها، وترعرعنا على منتجاتها (وبرأيك: أعلافها)، وكلما التقيت بك تسألني عن الأعلاف الوطنية لتغيظني.

فقال: أنت تفهمها إغاظة لك، وأنا أقصد به توضيح المعنى.

فقلت: وتسألني عن مرابض الدواب لتشعرني بأنني اخترت هذا الوصف الوطني لنفسي.

ودعاني مرة هذا الصديق الماكر أن أعود للبحث في أصول هذه الكلمة العربية:

فقلت ما أصولها؟

فقال لي: بدأت كلمة وطن بالمعنى الاصطلاحي تنتشر في العالم العربي منذ بدايات القرن العشرين.

فقلت: حدّد بالضبط متى؟

فقال: بعد زوال دولة الخلافة.

فقلت له: ولماذا بدأت هذه الكلمة تنتشر ذلك الوقت؟

فقال: لأن الناس كانوا – قبل انهيار الخلافة- يعبرون عن الوطن بالبلد الذي ولد الإنسان فيه، أو أقام فيه.

فقلت: ومن أين جاءتك هذه الفكرة؟

فقال: ألا تجد النسبة عندهم سابقاً: بالشامي، أو المصري، أو العراقي، أو الدمشقي، أو البغدادي، أو الإسكندراني، أو اليمني، أو الصنعاني، وغيرها؟.

$ $ $

-2-

توقعت أن صاحبي هذا فيه، أو له علاقة بصفات صاحبي القديم وضّاح، ولكنني تجاهلت هذا الخاطر، وقلت أتعامل معه كصديق جديد، فلما وصل إلى الموقع الذي التقينا فيه سابقاً، وجدته سبقني، وجلس ساهماً سادراً، فألقيت سلامي وجلست دون أي تعليق، أو كلام.

وبعد صمت قليل قلت له: سألتك عن كلمة الوطن، فذهبت بي شرقاً وغرباً، وقديماً وحديثاً، ولم تقنع حلمي [عقلي] بشيء.

فضحك وقال: هكذا دائماً أنتم، تريدون الطعام جاهزاً، تماماً، كما...

ثم خفت أن يكون أخذ قالب وضاح، وتسربله، فيبدأ بالسخرية والشطط في الاستهزاء.

فقاطعته قائلاً: ألا ترى أنك أخطأت في إيضاح كلمة وطن منذ بدء خلق الإنسان؟

فقال ضاحكاً: الوطن وُجد منذ وجد الإنسان على الأرض.

فقلت له: إذن هل كان لسيدنا آدم عندما نزل على الأرض وطن خاص به؟

فقال ضاحكاً، وفي عينيه أرى علامات الاستخفاف والعطف:

أصل كلمة الْوَطَنُ: مَكَانُ الْإِنْسَانِ وَمَقَرُّهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِمَرْبِضِ الْغَنَمِ وَطَنٌ، فهل تمدد آدم على الأرض، ولم يبحث عن مكان صالح لعيشه؟

فقلت: لا بد أنه بحث عن مكان يناسب حياته الجديدة.

فقال: وهذا المكان هو الذي توطنه آدم.

فقلت وما علاقة مرابض الحيوان في ذلك؟

فقال: قد يكون أول ما أُطلقت كلمة وطن على مرابض الحيوانات، لأن الإنسان كان يتنقل، ويسافر، ويذهب إلى الصيد أياماً، أو شهوراً، ويبقي دوابه وأغنامه في مرابضها.

فقلت: ولكن كلمة وطن أكبر من أن تكون حظيرة، أو زريبة.

فقال ضاحكاً مستبشراً بالتفوق: لقد أوصلتني إلى النهاية فوراً.

فأخذني العجب، وصحت صارخاً:

أوصلتك إلى أنني وصلت إلى الحظيرة والزريبة؟

فقال: الحظر في اللغة هو الحيازة والمنع، فحَظَرْتُهُ: حزته، ويقال لما حظر به على الغنم وغيرها من الشجر؛ ليمنعها، ويحفظها: حَظِيرَةٌ، أليست هذه هي صفات الوطن، ومنه يقولون: مواطن الإبل؟

$ $ $

 

-3-

جلست أنتظر صاحبي الجديد، واسمه... كيف نسيت  أن أسأله عن اسمه؟، ولكن أخذني التفكير بعلاقة الحيوان والإنسان بمفهوم الوطن، أمن الممكن أن يكون هناك مشتركات بين الإنسان والحيوان؟ ولمَ لا؟ فنحن نأكل، والحيوان يأكل، وهو ينكح ويستقر في مكان يأمن فيه، وهو يبحث ويشقى في إيجاد طعامه وعلفه، وهو يبحث عن أنثاه ليبقي وجوده على هذه الأرض، وقد يدافع عن جرائه (جمع جرو)، وقد يموت في دفاعه عنها!

وإذ بصاحبي الجديد يظهر أمامي قائلاً:

هل ما زال تفكيرك يسرح في الوطن والحيوان؟

فقلت: أنت الذي أنسيتني وطني، وجعلتني أسرح...

فضحك وقاطعني: كلمة سرح من معانيها: سَرحت الماشية: رعت بنفسها، وسَرَحْتُهَا،  وسَرَّحْتُهَا.

فقلت مغتاظاً: أضعتني، وأنسيتني ما كنت أفكر فيه.

فضحك وقال:

هوّن عليك، فأنت تبحث عن وطن أضعته، وتريد أن تسرح فيه.

فقلت: سامحك الله، أمّا إنني أبحث عن وطني فصحيح، وأما السرح فهذا أمر آخر.

فقال: ما الذي تريده إذن؟

قلت: وطني، هل أقول: هو مربضي ومربط حيواناتي ومرابضها؟، وبلغة العصر: مربض سيارتي إن كان عندي سيارة؟

فقهقه بصوت عالٍ، خشيت أن يثير انتباه المشاة في الطريق، والجالسين في غرفهم، بل حتى النائمين في فرشهم، فما اعتدت هذا الطبع في وضّاح.

فقال: يا جاهل، اعلم أن الْوَطَن: بلد الآباء والأجداد، ومَحَلُّ الْإِنْسَانِ.

قلت: إذن من أين ربطت ذلك بالحيوان؟

فقال: كلمة الحيوان تطلق على كلّ ذي روح، ناطقاً كان، أو غير ناطق، مأخوذة من الحيا، وتدل كذلك في ألفاظ المبالغة: على الحياة الخالدة.

فقلت: أضعتني عن مطلبي.

فضحك وقال:

كم حدثني صاحبي وضّاح عن ضيق عطنك [العطن موطن الإبل، ويعبّر العرب عن الجود والكرم، والسماحة بواسع العطن، وبعكسها: ضيق العطن].

فضحك وقال: حسناً، سأبدأ معك بما تريد، فتجهَّزْ لذلك.

$ $ $

-4-

جلست على الأرض، وقد وطّنت نفسي [هيّأتها، ومهّدتها] على ألا أترك الزمام لصاحبي، يجرني إلى الموضوع الذي يريد من شؤون البحث، [الزِّمام: الْخَيْطُ الَّذِي يُشَدُّ فِي البُرَةِ أَو فِي الخِشاشِ ثُمَّ يُشَدُّ فِي طَرَفِهِ المِقْوَد، وَقَدْ يُسَمَّى المِقوَد زِماماً، وزِمام النَّعْلِ: مَا يُشَدُّ بِهِ الشِّسْع. تَقُولُ: زَمَمْتُ النَّعْلَ. وزَمَمْتُ الْبَعِيرَ: خَطَمْته... زمّ الأُنوف، وَهُوَ أَن يُخْرَق الأَنفُ، وَيُجْعَلَ فِيهِ زِمام كزِمام النَّاقَةِ ليُقاد بِهِ].

فما إن وصل حتى بادرته:

ألن تخبرني عن الوطن، ومعناه؟

قال: كأنك تخاف أن ألوي [واللّي: الفتل، والإمالة: يقول تعالى: ﴿وإن تلووا أو تعرضوا﴾] عنقك عن الموضوع الذي تريد؟

فقلت: هذا ما أخافك فيك.

فقال ضاحكاً: تقول العرب: أَوْطَنْتُ الْأَرْضَ: اتَّخَذْتُهَا وَطَنًا، فهو مَنْزِلُ الإِقامَة.

قلت: وهذا يتفق مع ما أفهم عن...

فضحك وقال:

لا تعجل، انتظر.

قلت: أكمل؟

فقال: اسْتَوْطَنَ المكان: اتَّخَذَهُ وَطَناً، واتَّخذهُ محلاً وسكناً يُقيم فِيهِ.

قلت: وما معنى: وطّن نَفسه على الْأَمر، وَل؟

فقال: حَمَلهَا عَلَيْهِ، فتَوْطِينُ النفس: تَمْهِيدُها، وتَوَطَّنَها: تَمَهَّدَها.

قلت: ولذلك يقولون: ووطّن نَفسه على كَذَا مهدها لَهُ، ورضّاها.

فقال هامزاً ولامزاً وغامزاً [الهمز: التعييب، وهمزات الشياطين: خطراتها، واللمز: كالهمز وزناً، ومعنى، وهو الإشارة بالعين ونحوها، والغمز: مثلهما ولكن بالعين وبالي.

قال: ما شاء الله، صرتَ تفهم.

فأسرعت بالقول قبل أن يتمادى بصَلَفِه [تجاوز حدّه، وتكبّر] وغروره:

وما علاقة هذا بكلمة الوطن التي شرحتها؟

فقال: اسمع يا جاهل، هذا يعني أن الإنسان لِيَسْتطيعَ أن يقيم في وطن، لا بد له من تذليله، وتهيئته للسكن والإقامة.

قلت: يعني؟

قال: الوطن: مَكَان إِقَامَة الْإِنْسَان، ومقره، وَإِلَيْهِ انتماؤه، ولد بِهِ أَو لم .

قلت: من أين جئت بهذا المعنى الأخير؟

فقال وعيناه تبرقان [البرق: التلألؤ] بالعطف علي: ألم يَرِد في الْحَدِيث النبوي: «أَنَّهُ نَهى عَنْ إِيطَانِ المساجِد.

قلت: وكيف توطن المساجد؟

قال: أَيِ اتّخاذِها وَطَناً، ومكان إقامة.

قلت: هل ورد مثل هذا في غير هذا الحديث؟

قال: نعم، ألم تقرأ يا جاهل الْحَدِيث فِي صِفَته e أنه «كَانَ لَا يُوطِنُ الأمَاكِن» أَيْ لَا يَتَّخِذُ لِنفْسِه مَجْلِساً يُعْرَف بِهِ!.

$ $ $

-5-

قلت لصاحبي:

بعد كل هذه المقدمات التي أضعتني بها، وأثقلتني بما فيها، فما هو الوطن الأصلي؟

فقال مبتسماً ابتسامة ساخرة: الوطن الأصلي: هو مكان مولد الرجل، والبلد الذي هو فيه.

فقلت له: إذن: ما وطن الإقامة؟

فقال وكأنه يخاطب طالباً في المرحلة الابتدائية:

يا عيني، ويا قلبي، ويا روحي، وطن الإقامة هو: موضع يُنوى أن يُستَقَرَّ فيه خمسة عشر يومًا، أو أكثر، من غير أن يتخذه مسكنًا.

قلت: فقط؟

فقال متابعاً: وطن الإقامة: البلد الذي نوى فيه الإقامة مدة لا يصح له فيها قصر الصلاة، من غير أن يقيم إقامة دائمة فيه.

قلت: إذن: ومن أين أتوا لنا بالتعريف الحديث للوطن؟ فقال: لأن الوطن: بلد الآباء والأجداد.

قلت: يعني: أجدادي قد يكونون من قبيلة محددة، وبقيتْ ذراريهم تتنقل من مكان إلى آخر، فهل فقدتُ وطني لأنني لم أنشأ في مكان القبيلة الأصلي؟

فقال وقد فغر فاه ضاحكاً ساخراً كادت أن تصل زوايا فمه المستبشرة إلى أذنيه:

يا جاهل، بل يا غافل: الوطن: مكانُ الإنسان ومقرُّه، وإليه انتماؤه.

قلت: يعني أن وطني في المكان الذي عشت فيه، وأخذت قراري وسكني فيه؟

فقال: الوطن هو الذي يستقر فيه الإنسان، وُلِد به أو لم يولد.

قلت: وماذا يقصدون قديماً بقولهم: وطن سُكنى.

فقال وكأنه شيخ معمم خرج من قبره: وطن السكنى يا ولدي هو: البلد الذي يقيم فيه مدة يصح له فيها قصر الصلاة...

ثم غادرني، وكأنه عاد إلى قمقمه الذي خرج منه.

$ $ $

-6-

قلت لصاحبي:

هل كان الناس يدافعون عن أوطانهم قديما.

فقال: وهل سمعت أن قبيلة عربية نزحت عن مضاربها إلا لكلأٍ، أو هربٍ من إبادة؟

قلت: ولكنني لم أسمع أنهم اتخذوا وطناً، بل كانوا يرحلون من مكان إلى آخر.

فقال: ينطبق عليك قول الشاعر الخليع.

قلت ومن هو هذا الشاعر، وماذا قال؟

فقال: إنه أبو نواس، عندما خاطب زعيم المعتزلة إبراهيم النظام.

قال له:

قل لمن يدَّعي في العلم معرفةً   علمتَ شيئاً وغابتْ عنك أشياءُ

ألم تسمع يا جاهل بوقوف الشعراء الجاهليين على الأطلال [وهي ما بقي من آثار الديار والخيام والناس]، وكيف كانوا يبكون عليها، وكيف كان الشعراء الجاهليون يقفون على أطلالهم يبكون ذكريات قضوها في هذه الأماكن التي اضطرتهم الظروف أن ينتقلوا عنها، أو انتقل عنها أحباؤهم، وهذا ما حدث مع نبينا محمد ♥ عندما خرج من مكة وقف على مكان قريب منها كما روى أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ ♥ عَلَى الْحَزْوَرَةِ [الحَزْوَرَةُ، كقَسورةٍ: الناقةُ المُقَتَّلَةُ المُذَلَّلَةُ، والرابيةُ الصغيرةُ]

فَقَالَ: (عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللهِ U، وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)، وهو صحيح الإسناد وله روايات كثيرة، وفي بعضها قوله: (أَمَا وَاللَّهِ لأَخْرُجُ مِنْكِ وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ؛ وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مَا خَرَجْتُ).

فقلت: وهل تعتبر مثل هذا حباً للوطن.

فقال منفعلاً: ما كنت أظن أنك فسل [الفَسْلُ الّرَدِيءُ] الرأي إلى هذا الحد.

فقلت: ولِمَ تنسبني إلى الفسولة؟

فقال: ألم تسمع قول بلال t عندما هاجر إلى المدينة؟

قلت: وماذا قال؟

فقال صاحبي:

قال بلال متشوّقاً إلى مكة ومواضعها:

أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً   بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ   وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

إذخر وجليل: نبتتان في مكة، ومجنة: اسم مكان،  وشامة وطفيل: جبلان من جبال مكة.

وَقَالَ بلال: اللهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ e: (اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ.

فقلت: إذن كلنا يحب وطنه.

فقال:  ولذلك كان الإنسان دائماً يدافع عن الوطن الذي استقر فيه، وبشكل خاص إذا وجد فيها أمناً، وحرية في تفكيره، ودينه، وعبادته، وحفظ حياته، ولذلك يقولون: مات في سبيل وَطَنِه.

فقلت: وهذا يؤيده قول الحديث النبوي: (حب الوطن من الإيمان).

فضحك وقال: علمك بالحديث النبوي كعلم عنترة بن شداد بالهاتف الجوال.

فصرخت في وجهه مستنكراً ثائراً فائراً:

ما هذه السخرية التي تعدّت العقول والتفكير والأدب، بل أوصلْتني بها إلى أماكن الحَجْر [وليس الحجز]، ألا تتقي الله، أتريد أن تتهمني بالجنون، أو قريبٍ منه!.

فقال هادئاً بصوت عاطف مُشْفِقٍ: هوّن عليك، وخذ شهيقاً يعطيك راحة، وطمأنينة، وبعد ذلك أحدثك حديث (حب الوطن من  الإيمان).

$ $ $

 

-7-

التقيت بصاحبي، وقد أثارني في اللقاء الفائت، وأحسست بتعالمه، وشعوره بالفوقية المتعالية، وخصوصاً عندما ذكر أنه سيحدثني عن حديث (حب الوطن من الإيمان)، وبدأت أحس بالضيق من هذه الصفات الفاسدة النابذة للذوق والأخلاق العالي.

وإذ به يفجؤني بقوله: (حب الوطن من الإيمان) أليس كذلك؟

قلت: نعم.

فقال: حب الوطن مغروس في نفوس وقلوب الناس.

فقلت: وما معنى كلمة حب؟ فقال: اللُّزُومُ وَالثَّبَاتُ، والحب مأخوذ من حَبَّة الْقَلْبِ، وهي: سُوَيْدَاؤُهُ، وَيُقَالُ ثَمَرَتُهُ.

قلت: إذن لم ترفض الحديث؟

فقال: المشلكة ليس بالرفض أو القبول، فالذي يرفض الحديث النبوي يجب أن يجدد إيمانه، فما أرسل الله رسوله إلا ليطاع.

فقلت: أليس الحديث هو السُّنة، والسنة ليست كالواجب والفرض.

فقال: زادك الله فقهاً، وعلماً، وفهماً.

فقلت: أتسخر بي؟

فقال: بل أقصد ما أقول، ألم تقرأ قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: 64].

قلت: حسناً، لا تضيّع علي حديثي.

فقال: ولكن الجملة هذه (حب الوطن من الإيمان) لم يجدها علماء الحديث في دواوين الحديث المعتمدة، بل هو قول تناقلته الألسنة، واعتبروه من الأحاديث الموضوعة.

وقال الإمام السخاوي ؒ: «(حُبُّ الْوَطَنِ مِنَ الإِيمَانِ): لم أقف عليه».

أي: لم يجده في أي كتاب من كتب الحديث، مع واسع علمه بهذه الكتب.

فقلت: هل من المعقول؟

فقال: المعقول ألا نقبل بإلصاق أي جملة، أو حتى كلمة إلى النبي e إلا بإسناد صحيح، ورواية صالحة عند العلماء.

قلت: حسناً، أكمل كلامك حول: (حب الوطن من الإيمان).

فقال: وقال السخاوي في موضع آخر: ومعناه صحيح.

قلت: إذن الجملة ليست منكرة!.

فضحك وقال: ليست منكرة كجملة من أنواع الحكم، أو جميل الكلام، وأما في الحديث النبوي، فهذا مخيف؛ لأنه يقع تحت طائلة الحديث النبوي في: صحيح البخاري: عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ e يَقُولُ: (مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ).

فقلت في نفسي: ألتزم الصمت، وأخرج من الموضوع قبل أن يصل بي أمره إلى أن يخرجني من....

$ $ $

 

-8-

قلت لصاحبي: هل تحدث العلماء، أو الأدباء، أو بعضهم عن موضوع حب الوطن؟

فقال ضاحكاً: انبرى كثير منهم يتحدثون عن موضوع حب الوطن، والحنين إليه.

قلت: مثل من؟

فقال: قال أبو حنيفة الدينوري: سمعت أعرابياً يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل، فانظر كيف تحنّنه إلى أوطانه، وتشوّقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه.

قلت: هذا كلام جميل.

فقال لي: انتظر حتى ينتهي كلام الدينوري.

قلت: وماذا قال؟

فأجابني صاحبي بأسلوب ساخر:

ومن طريق الأصمعي أيضاً قال: قالت الهند: ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوان: الإبل تحن إلى أوطانها، وإن كان عهدها بها بعيداً، والطير إلى وكره، وإن كان موضعه مجدباً، والإنسان إلى وطنه، وإن كان غيره أكثر نفعاً.

فقلت: هذا كلام رائع، ولكنه رأي الهنود!

فقال: الشاهد هنا هو الإنسان، وليس عنصره، أو دينه.

فقلت:  كلنا في هذا العصر يحب وطنه، ويفخر به، وينتسب إليه.

فقال: ثبت ظني بك حقاً، أنك ضيّق العطن، فدائماً تجرؤ [الْجُرْأَةُ: الشَّجَاعَةُ، وَالْجَرِيءُ: الْمِقْدَامُ، وَجَرَّأَهُ عَلَيْهِ تَجْرِئَةً فَاجْتَرَأَ، والمتسلِّط غير الهيَّاب] على الكلام دون حساب.

فسكتُّ على مضضٍ [أَمَضَّهُ الْجُرْحُ: أَوْجَعَهُ، وَمَضَّهُ وأمضه بمعى، وَالْكُحْلُ يَمُضُّ الْعَيْنَ أَيْ: يُحْرِقُهَا، وَالْمَضَضُ: وَجَعُ الْمُصِيبَة]، وامتعاضٍ [معض: غَضِبَ، وشَقَّ عليه، وأمْعَضَه ومعَّضه، فامْتَعَضَ]، واستياءٍ من هذا الصَّلَفِ [مُجَاوَزَةُ قَدْرِ الظَّرْفِ والملاحة وخفة الدم، وَالِادِّعَاءُ فَوْقَ ذَلِكَ تَكَبُّرًا واختيالاً، فَهُوَ رَجُلٌ صَلِفٌ].

فقلت: امض [أمْضاهُ: أْنْفَذَه، ومَضَيْتُ على بَيْعِي، وأمْضَيْتُه: أجَزْتُه ووافقت عليه] في كلامك.

فتابع كلامه قائلاً:

طالما حنّ الإنسان إلى منزله الأول، ومسقط رأسه حيث ما حلّ وارتح.

وفي الأمثال الشعبية: «مسقط الرأس غالٍ».

قلت: أنت تريد أن تعلمني العربية، أم تعطيني دروساً في الأخلاق، والواجبات؟

فقال منتفشاً:

وهل تتعلّم العربية إلا من خلال أصحابها؟ أم تظن أن اللغة كحبوب الأطباء [البرشام: فيقال: برشم الشَّيءَ: أحكم إغلاقه، ومنه سميت الحبوب الطبية بالبرشام لإحكام إغلاقها، وعدم نفاذ ما فيها منها] تأخذ منها برشامة، وتنام نصف ساعة، ثم تصحو عالماً بالعربية؟

فقلت ثائراً في وجهه، وقد زادني حنقاً وغيظاً بهذا التعالم:

وكيف أتعلم العربية إذن؟ وأنت دائماً تجعل اللغة حاجزاً بين الأفكار التي تبحثها؟

فقال: المشكلة أنكم عَرَب، ولا تعرفون لغتكم، فإذا أراد أحدكم أن يتكلم بالفصحى ينطق بألفاظ لا عربية، ولا غيرها، وأنت طالبتني من أول حواراتنا أن تتعلم العربية، فماذا نفعل منذ مدة نحن؟

ثم يتابع حديثه:

ألسنا نبحث في هذه اللغة، وتراكيب مفرداتها، واستعمالاتها حتى في كلمة واحدة ككلمة: وطن، لنتعلم البحث عن أصول مفردات اللغة، وعن استعمالاتها؟!

فقلت: بلى، فعلنا، ولكن ما الذي حدث أخيراً حتى خرجت بي عن الموضوع؟

فقال مهملاً لاهتمامي، ومجمعاً على إغاظتي:

إذن نتابع استعمالات الأدباء والعلماء لهذه الكلمة حتى تتعلم الإنشاء [التعبير في لغة العصر]، والاستعمالات اللغوية.

قلت: هات ما تريد.

فقال متابعاً: قال الشاعر:

كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى   وَحَنينُهُ أَبَداً لأَوَّلِ مَنزِلِ نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى   ما الحُبُّ إِلا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ

$ $ $

-9-

وبعد إنشاد صاحبي للبيتين السابقين:

كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى   وَحَنينُهُ أَبَداً لأَوَّلِ مَنزِلِ نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى   ما الحُبُّ إِلا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ

قلت له:

أليس هذا من شعر أبي تمام الشاعر العباسي؟

فقال ضاحكاً: ما شاء الله، ها أنت تعرف علوماً .

فزاد امتعاضي، وغضبي، ولكنني أمسكت نفْسي وأنفاسي، وقلت:

تابع بارك الله فيك.

فقال: وقال أمير الشعراء:

وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ   يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ

فقلت: ومن أمير الشعراء هذا، ومن أمّره على الشعراء؟

فقال: وكأنك تريد أن تخرجنا من موضوع الأوطان، لأحدثك عن الشاعر أحمد شوقي الذي بايعه شعراء عصره عام 1927م بأنه أمير عليهم، كأفضل شاعر فيهم.

قلت: هذا شاعر حديث، ولا أظن أن هناك من الشعراء القدامى من تكلم في هذا الأمر.

فضحك صاحبي، وصاح مستبشراً هازئاً:

إنك بين الفينة والفينة [جمعها: الْفَيْنَاتُ، وهي: السَّاعَاتُ، يُقَالُ: لَقِيتُهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، أَيِ: الْحِينَ بَعْدَ الْحِينِ] تثبت لي جهلك في علمك بالحديث أو القديم، وكأنك تعيش خارج الثقافة العربية.

فقلت: ولمَ هذا الغمز واللمز، واللت[اللت: هو بلُّ الشيء بالماء، ولَتَّ الرَّجُلُ السَّوِيقَ لَتًّا: بَلَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَاءِ، واللُّتَاتُ بالضّمّ: مَا فُتَّ من قُشُور الخَشَبِ، وقيل: مَا أَبْقَى مِنّي إِلاّ لُتَاتاً، كأَنّه قَالَ: مَا أَبْقَى مني المَرَضُ إِلا جِلْداً يَابسا كقشْرَةِ الشَّجَرِ]، والعجن [يقالُ للرَّجلِ: عَجِينَةٌ وعَجِينٌ، وللمرْأَةِ عَجِينَةٌ لَا غَيْر، وَهُوَ الضَّعيفُ فِي بَدَنِه وعَقْلِه، ويقالُ: إنَّ فلَانا ليَعْجِنُ بمِرْفَقَيْه حُمْقاً]، والطعن في ثقافتي وذاكرتي؟

فقال ساخراً:

ألم تسمع قول الشاعر العباسي ابن الرومي:

ولِي وطنٌ آليتُ ألا أبيعهُ   وألا أرى غيري له الدهر مالكا وحبب أوطان الرجال إليهمُ   مآربُ قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهمو   عهود الصِّبا فيها فحنّوا لذلكا

فقلت: أكمل حديثك عن قضية الوطن.

فقال: قال ابن أبي السرح:

قرأت على حائطٍ بيتَيْ شعرٍ، وهما:

إن الغريب ولو يكون ببلدة   يجبى إليه خراجها لغريب وأقل ما يلقى الغريب من الأذى   أن يُستذلّ وأن يقال كذوب

فقلت: هذا هو الصحيح، وهو كما يقول العامة: «كل ديك على مزبلته صيّاح.

فقهقه ضاحكاً، واستبشرت أساريره قائلاً:

كنت تتهمني أنني أحاصرك في مرابض الغنم، وحظائر الحيوان، وتغضب، فإذا بك توصلك نفسُك إلى مزابل الدِّيَكة، فهنيئاً لك ما أردت ووصلت إليه.

فقلت والحنَق [الحنق: تَضَايُقُ الشَّيْءِ، وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ الْحَنَقُ فِي الْغَيْظِ، لِأَنَّهُ تَضَايُقٌ فِي الْخُلُقِ مِنْ غَيْرِ نُدْحَةٍ وَلَا انْبِسَاطٍ] يملأ قلبي:

تابع كلامك كما تريد.

فقال: قِيْلَ لَمَّا أَنْشَدَ أَبُو تَمَّامَ هَذَيْنِ البَيْتَيْنِ سَمِعَتْهُ جَارِيَةٌ ظَرِيْفَةٌ شَاعِرَةٌ، فَقَالَتْ فِي الحَالِ:

إِلْهَجْ بِآخرِ مَنْ بُلِيْتَ بِحِبِّهِ   لَا خَيْرَ فِي حُبِّ الحَبِيْبِ الأَوَّلِ أُنْبِئْكَ فِي أَنَّ النَّبِيِّ مُحَمَّدًا   خَيْرُ البَرِيَةِ وَهُوَ آخِرُ مُرْسَلِ

هنا وقف بي الحال أمام هذه الجارية الظريفة التي ربطت الحب بالنبي ♥، وليس عندي متسع أن أناقش، أو... أو أماري (المراء: جدال فيه شدة]، فقلت:

دعك من هذه المماراة اللغوية، وقل لي: ما معنى الوطن في هذا العصر الذي نعيش فيه، فهو الذي نريد.

فقال ضاحكاً:

دائماً تهربون من الحقائق اللغوية، مع أنكم تدّعون العروبة أصلاً ولغة.

فقلت: هل يعني هذا أنك تنفينا عنها، أو تنفيها عنّا؟

فقال ساخراً: الأمر سواء، أما الأصل، فأنا متأكدٌ أنكم تخرصون [تحزرون، وتظنون، وتدّعون، ولكن مع شك خفيّ...

قلت: دعك من الفذلكات [الفَذْلَكَة: جُمْلَةُ عَدَد فُصِّلَ، وشُرح بإسهاب وتعداد]، وأخبرني عن ادّعائنا العروب.

فقال ضاحكاً: أرأيتم يا دعاة العروبة والعربية، كم تعرفون عن قومكم، ولغتكم، وأدبكم؟

$ $ $

 

-10-

لما التقيت بصاحبي قلت له مستغرباً:

أين كنا في حوارنا، وأين أوصلتنا في كلامك هذا؟ نتكلم عن اللغة، وعن تعلُّمها، فإذا بك تنأى بي [النَّأْيُ: الْبُعْدُ، يُقَالُ: نَأَى يَنْأَى: ابتعد، وَالْمُنْتَأَى: الْمَوْضِعُ الْبَعِيدُ، فتنأى بي: تبعدني].

فقال: ألم تلاحظ أن مدعي الانتساب لهذه الأمة [العربية]، ومدعي العروبة هم أخطر من شعوبيي العصر العباسي!؟

فقلت: أعوذ بالله منك ومن أفكارك الفِجّة [الفِج – بكسر الفاء-: غير الناضج، وأصله في البطيخ، فَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْبِطِّيخِ وَالْفَوَاكِهِ لَمْ يَنْضَجْ فَهُوَ فِجٌّ بِالْكَسْرِ].

فقال بتعالٍ وتكبرٍ لم أشهده فيه من قبل:

الشعوبيون في العصر العباسي كانوا أعداء للعروبة، ومع ذلك كانوا من كبار الأدباء والشعراء باللغة العربية.

قلت: هذا كلام لا دليل عليه، واترك عنك هذا التعالي والتعاظم كضفدع تنق في قاع البئر، فيرنّ صوتها في أذنها، فتظن أنها أسمعت العالم كله.

فضحك ساخراً وقال:

ما شاء الله، زادك الله بلاغة وأدباً، وانظر إلى من نسبوهم إلى الشعوبية، فتعرف صحة كلامي.

فقلت: هاتِ الدليل.

فقال: أقدم من نسب إلى الشعوبية: ابن المقفع، وسهل بن هارون.

ومن الشعراء: بشار بن برد، حماد عجرد، ووالبة بن الحباب، ومهيار الديلمي، وهم من كبار وشعراء وأدباء العربية في عصرهم.

فقلت حنِقاً:

سامحك الله، نسيت ما كنا فيه.

فقال: كنا في دعاة العروبة، وهم أبعد الناس عنها، فهم أقلّ قيمة من دعاة الشعوبية الذين تعلموا اللغة العربية، وكانوا من كبار كتابها، وشعرائها، وهم ضدها.

قلت: وما المشكلة؟

فقال: المشكلة أن دعاة الشعوبية كانوا يدّعون الإسلام؟

قلت: وهل ادعاء الإسلام له علاقة بالشعوبية؟

فقال ضاحكاً:

يدعون الإسلام، وأنهم من شعوبه، ويهاجمون العرب، ليحاربوا الإسلام؟

قلت:  ما علاقة العرب اليوم؟

فقال: يا جاهل، دعاة العروبة اليوم يهاجمون الإسلام باسم العروبة، وهم لا يعرفون منها وعنها شيئاً.

فقلت: لم أرَ ما تقول عنهم.

فقال: ترى داعية للعروبة، لم يتعلم لغتها، ولم يتعلم فضائلها، ولم يتعلم ما رآه فيها شعراؤها من غير المسلمين منذ العصر الأول.

ويأتيك اليوم دعاة للعروبة، لا يقيمون كلمة، وإذا كان [مثقفاً، والمثقف من: ثَقُفَ الرَّجُلُ: صَارَ حَاذِقًا خَفِيفًا ؟] فتراه يخاف من استقامة لغته، وتقويم اعوجاج لسانه، ولا يقبل أن يتقن قراءة آية من القرآن، أو يحاول تقويم لسانه لقراءتها، وهو العربي الصميم كما يدّعي [الصميم: صَمِيمُ الشَّيْءِ: خَالِصُهُ، وَصَمِيمُ الْحَرِّ، وَصَمِيمُ الْبَرْدِ: أَشَدُّهُ].

فقلت: ما أدري لمَ كل هذه الحملة على هؤلاء الذين تقول أنت عنهم جهلة؟

فقال وقد أشعرني بأنه يستخفّ بي [اسْتَخَفَّهُ: ضِدُّ اسْتَثْقَلَهُ، وَاسْتَخَفَّ بِهِ: أَهَانَهُ]: كما قلت أنت: هم جهلة، ومن جهل شيئاً عاداه، وهؤلاء جهلوا العروبة، وجهلوا اللغة، فصاروا أعداءها، وهم يظنون أنهم دعاتها وأهلها.

قلت: ما هذا التفسير الغريب للأمور؟

فقال ساخراً:

هم يدّعونها بألسنتهم، وواقعهم يثبت أنهم أعداؤها، وأشدّ المحاربين لها باسم الدفاع عنها، وكما يقولون: ومن الحب ما قتل، والمرء عدو لِما جهِل.

$ $ $

-11-

قلت لصاحبي وأنا مشفق [يقال: أشفقت من الأمر، إذا رَقَقْت، وحاذَرت] من إجاباته التي تكويني بلسعاتها [اللسع للحيات، فلَسَعتْه الحيّةُ تَلْسَعُه لَسْعاً، ويقال: لسَعَه بلسانِه]:

يا صاح [صاحبي]، ما رأيك بقول الشاعر:

وكلما ذُكِر اسم الله في بلدٍ   عددتُ أرجاءه من لُبِّ أوطاني

فابتسم، ومن عادته أن يُظهر سخرياته بابتسام أشعر فيه بصفراوية غريبة [والضحكة الصفراء: الضَّحْكَةُ الصَّادِرَةُ هُزْءاً، وَتَهَكُّماً، أو نِفَاقاً] وقال:

ألا ترى، وأنت على ما يظهر جاهل بما ترى، أو لا ترى، أن الشاعر ربط الوطن بحرية الاعتقاد، وحرية التديّن، وإن شئت قلت بأن وطنك هو الذي تستطيع أن تعيش فيه وأنت حرّ الفكر، والحياة، ولا تكون لكعاً [اللكع: الضيِّق الصدْرِ، القليلُ الغَناءِ، الذي يؤَخِّره الرجالُ عن أُمورهم، فلا يكون له موْقِعٌ]، ولا إمعة [الإمَّعة: الذي يتبع كلَّ ناعقٍ، ويقول لكل أحد: أنا معك; لأنه لا رَأْي له يرجع إليه]، فعندما يكون الرجل بعيدًا عن هذين الوصفين في المكان الذي يقيم فيه، فيكون قد فقد وطنه.

فقلت، وقد أثار فيَّ فضول السؤال:

هذا فهمته الآن، ولكن هل هذه فقط صفات الوطن؟

فقال وقد برقت أساريره [وهي جمع أسرار، والأسرار: جمع السرر، والسر أيضاً، وهي خطوط الراحة، وتكون أكثر وضوحاً في الوجه]:

ألا تدري، وأظنك لا تدري، أن الوطن ليس المكان الذي ولدت فيه فقط.

فقلت متعجلاً:

وماذا إذن؟

فكلَّمَني على طريقة المؤدِّبين، والمعلمين:

اصبر، ولا تكن ضيِّق العَطَن، كما سبق وقلت لك.

فقلت: لا تؤاخذني على ما بدر مني من تهوّر [التهوّر: الوُقُوعُ في الشيء بغيرِ مُبالاةٍ، ولا رَوِيَّةٍ].

فقال: هي علة فيك، وأشفق عليك منها.

قلت: حسناً، أكمل ما بدأت، أو أوضح ما تريد أن تقول.

فقال: إن ما يجعل الوطن حبيباً إلى القلوب...

فقاطعته: إذن تعترف بأن الوطن حبيب للقلوب!

فظهرت عليه سيما [السيما: العلامة يعرف بها الخير والشر، قال الله تعالى: ﴿تَعْرفُهم بسيماهم﴾] الغضب، فقال:

ألا تستطيع الانتظار لتفهم، أم أنك تظن نفسك أنك تفهم؟

فأردت أن أقطع عليه الكلام، فابتدرني بغضب:

اسكت حتى تفهم.

فأُصبت بشيء من الغضب والحزن والضيق، ولكنني ضبطت نفسي وسكتُّ.

فتابع قوله: الوطن جميل بمن يقيمون معك فيه، من أرحام، وجيران، وأصدقاء.

اسمع إلى الشاعر حيث يقول:

يا دار أين البيض والآرام   أم أين جيرانٌ عليّ كرام راب المحبّ من المنازل أنّه   حيّا، فلم يرجع إليه سلام

وقال شاعر آخر:

فراق أخلائي الذين عهدتهم   يوكل قلبي بالهموم اللوازم

وقال أيضاً:

نكرت نحولي وهو من فرط الأسى   لفراق إخوان عليّ كرام وتعجبت للشيب، لا تتعجبي   هذا غبار وقائع الأيام

فقلت له:

كأنك صددت عن العلم، والتعريف العلمي، وبدأت تنشد الأشعار.

فقال: إن الوطن هو علاقة الإنسان بالأرض، وإذا ما ثارت عليه أرضه، وخرج فيها الأفاعي من جحورها، والعقارب من سكوكها [السُّكُّ: جُحْرُ العَقْرَبِ والعَنْكَبوتِ، ولُؤْمُ الطَّبْعِ، والضَّيِّقَةُ من الدُّروعِ، كالسَّكَّاءِ، و من الطُّرُقِ : المُنْسَدُّ]، واحتوشته الوحوش [حُشْتُ عليه الصيدَ، وأحْوَشْتُ، أي: أخَذْنا مِنْ حواليه لنَدفعَه إلى الفخ، ويقال احْتَوَش القومُ فلاناً، أو تحاوَشوه أي: حاصروه، وجعلوه وسطهم]، وضيّقوا عليه السُّبُل [الطُّرُق]، فأخرجوه منها، كما فعل كفار قريش بسيد العالمين ♥، فقال وهو يخرج منها كما في الآثار الواردة: والله إنك لخير أرض الله، وأحب بلاد الله إلي، ولو لا أن أهلك أخرجوني ما خرجت.

وهكذا يبتعد الناس عن أوطانهم، إذا ضيَّقها عليهم أهلُها [أهلُه]، وأما إذا ضيَّقها عليهم أعداؤها، قاتل أعداءها، حتى لو كان في ذلك حتفه [الحَتْفُ: الموت، والجمع حُتُوفٌ].

ونحفظ من أقوال نبينا ♥ قوله: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».

وهذه الأمور كلها هي من تعريف عناصر الوطن.

$ $ $

 

-12-

قلت لصاحبي وقد ساورني الشك في أنه يبتعد بي عما أريد:

أريد معرفة اللغة العربية، ولكن عن طريق الحياة الجديدة، والعصر الحديث، ولا أريد أن تغرقني باللغة القديمة، والمفاهيم القديمة.

فانبرى ساخراً، وقد برقت عيناه ببريق شعرت بخبثه، فقال:

هذه مشكلتكم في هذا العصر، اللغة عندكم ماتت، فإذا كان الخطاب فصيحاً اعتبرتم لغته قديمة.

فقلت: ألا ترى أنك أغرقتني بشروح المفردات اللغوية، حتى كاد حوارك ينقلب إلى قطع من المعاجم العربية؟

فقال: ألا ترى أنك تثبت مرة بعد مرة أنك لا تملك من اللغة العربية إلا اسمها، ويضايقك رسمها وفهمها؟

فقلت: لمَ تحب تعقيد الأمور؟

فقال: من أعجب ما في هذه الدنيا أن كل البشر يتكلمون لغتهم إلا العرب!

فقلت مشدوهاً: هذا كلام كبير، العرب لا يتكلمون العربية؟!!

فضحك وقال: في كل لغات العالم فصيح وعامي، ولكن الناس يفهمون فصيحهم، ويتكلمونه بتفاوت فيما بينهم، إلا العرب، قد يفهمون شيئاً من الفصحى، ولكن قلّما تجد من يتكلمها.

قلت ساخراً أنا هذه المرة:

هذا أمر منك عجيب، ألا ترى إذاعاتنا، وقنواتنا الفضائية، وعلماء الدين عندنا، كل هؤلاء يتكلمون الفصحى، ونفهم عليهم ما يقولون؟

فقال: إذا أردت أن تعرف مقدار صحة لغتهم، فانظر إلى أفصحهم، وهم أكثر من ينسبون إلى الدين وعلومه، فإذا استمعت إلى تفسيرات كثيرين منهم للقرآن الكريم، يأخذك العجب من تخبط الكثيرين منهم في فهم آيات القرآن، واستخلاص الحكم منه، أو من الحديث النبوي، والذي يحترم نفسه منهم يطلع على تفسير الجلالين، مع شيء من بعض التفاسير الأخرى لينقذ نفسه من هذه الهوّة التي سقط فيها.

فقلت وقد أثارني غروره وتفاصحه:

فعلاً إنك لَغوي [اللام هنا للتأكيد، وهي التي يسميها النحويون: المزحلقة، وليست من أصل الكلمة] مبين.

فضحك وقال:

أضعت وقتي ووقتك، فما الذي تريده الآن.

فقلت: قضية الوطن في هذا العصر لم تحدثني عنها، بل جعلتني سائحاً بين المعاجم.

فقال: حسناً ماذا تفهم أنت من هذه الكلمة.

فقلت: الوطن في عصرنا: مركز شرعيّ منسوب للإنسان، وفيه عادةً مركزُ عمله، ومحل إقامته، أو موضع سكنه، معتَبرٌ قانونًا، فالمكان الذي يحقّ فيه للمواطن ممارسة حقوقه السياسية والاجتماعية والإدارية والاقتصادية و...

فصاح: على هونك، اهدأ قليلاً، ارحمني من هذا التعداد.

فقلت وقد أخذني شيء من الغرور أنني أنا الذي أثرته ونخسته [النَّخْسِ: الدَّفعْ والحَرَكة، ويقال أكثر ما يقال: نَخَسْتُ الدَّابَّةَ: طَعَنْتُها بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهَاجَت] وتابعت الكلام مزهواً بما قلت:

والقيام بواجبات الوطن، والأرض التي يعيش عليها.

وبعد أن سمع صاحبي كل ما ذكرته، أراد زيادة إغاظته لي، وسخريته بي ومني، فقال لي:

إذن أنت مواطن، قَبِلتَ النسبة إلى الزريبة التي أطلقت عليها اسم الوطن.

فقلت له:

ابتعد بي عن سخرياتك و(هبلك) [هَبَّلَهُ اللَّحْمُ تَهْبِيلًا: إِذَا كَثُرَ عَلَيْهِ وَرَكِبَ بَعْضُهُ بَعْضًا] في فهم الأمور، فكل إنسان يحنّ إلى مكان ميلاده [مسقط رأسه]، وإلى الأرض التي أكل منها، وعاش في ظله.

فيصيح بي ساخراً: لقد كان أعراب البادية في الجاهلية يفهمون الأمور بأحسن منكم بكثير.

فسألته ما سبب ذكر الأعراب في هذا الموضوع؟

فأجاب: الأعراب يضربون أطنابهم [الطُّنُبُ حَبْلُ الْخِبَاءِ]، ويقيمون على أرض فيها مراعٍ لهم، ولدوابهم، وفيها أمان لهم ولدوابهم، فإذا شعروا بنقص في أمر من هذين الأمرين، انتجعوا [النُّجْعَةُ: طَلَبُ الْكَلَأِ فِي مَوْضِعِهِ] مكاناً آخر، ورحلوا إليه، وهكذا.

وهذا لأنهم عرب، لا يقبلون الضيم، ولا الموت جوعاً أو ذلاً، وكم من حرب أقاموها لهذه الأسباب.

فقلت له:

هذا يدل على أنهم غير متحضرين، فلا يقبلون بنظام، ولا يتحملون الحضارة في الإقامة والترتيب، وطاعة القانون أو النظام.

فقال مستنكراً ما قلت:

يكفي الأعراب أنهم لا يذلّون لأحد، ولا يستطيع أحد أن يحرمهم طعامهم، أو حرياتهم، أو استقلالهم، كما يحدث لكم أيها الحضريون، حتى استأنسوكم، وأخرجوكم من حدة الجواد الأصيل الجامح، إلى طبيعة الأغنام الهادئة الجميلة، المرتاحة لِما تأكل، مع أنها متيقنة أن نهايتها سكين صاحبها ليأكلها هنيئاً مريئاً.

فقلت له:

بعد هذا كله، لم تشفِ غليلاً، ولم تروِ صديانَ [عطشان]، فهل وطن أعيش فيه مليء بالخوف، وأعيش فيه الذل، وأعيش فيه بلا طعام؟

فقال: هوّن من غلوائك [غُلَوَاءُ الشبابِ: أَوَّلُه وشِرَّتُه، والغلواء في الأمر: المبالغة والزيادة بقوة وشدة] في الكلام، ألم تسمع قول الله تعالى: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: 4].

فقلت: وما علاقة هذا بموضوعنا؟

فقال ضاحكاً: لقد وصف الله نعمه على أهل مكة، ومنها: حرية العبادة والاعتقاد [فليعبدوا رب هذا البيت]، وحفظ أهلها من الجوع، والإنعام عليهم بإبعاد الخوف عنهم.

فقلت: إذن هذا أمر كان في الجاهلية.

فقال: وسيبقى، وبقي بعد الإسلام، وبقي المسلمون لا يعرفون الوطن إلا بهذا التعريف، وإلا فقد الوطن معناه، وأصبح المعنى اللغوي الأصلي هو المعنى الذي يعيشه كثير من الناس.

فقلت: لم أفهم ما تقصد.

فقال: يا جاهل، ألا ترى الناس اكتفوا من أوطانهم بالحاجات الأساسية للحيوات [كُلُّ مَا هُوَ حَيٌّ جَمْعُهُ حَيَوات].

قلت: زدتني غموضاً.

فقال ساخراً:

أدركت موقعك في الحياة، حيث أصبحت المشتركات بين الأحياء واحدة، لا فرق بين الإنسان وغيره، وتذكّر يا صاحبي دائماً أنك من كل هذه الأحياء تسمى إنساناً، أو ابن آدم، ولك كرامة وهبها الله لك، فانظر أين تضع نفسك بين الحيوات.

$ $ $

 

-13-

بعد الحوار الذي دار بيني وبين صاحبي أحسست أنني بحاجة إلى إعادة النظر في أمور عدة، ومنها ماذا يقصد بكلمة مواطن، وما موقعنا في هذا الموضوع.

فقلت سأمسك زمام الكلام بيني وبين صاحبي، ولا يسوقني في حديثه كيف يريد، وها أنا أبصره قادماً متهادياً يميناً وشمالاً، ويمشي مختالاً كمشية الطواويس، فقلت في نفسي:

سأبتدره بالسؤال قبل أن يبتدرني.

فسألته: ما لي أراك تتهادي في مشيتك، وتختال كطاووس أكل وشبع، وتهادى بين إناثه متربعاً عرش مملكته.

فضحك وقال:

كأنك تريد أن تنتقم مني؟

قلت: كيف؟

قال: بئسما شبهتني بالطاووس، وهو حيوان، ومع ذلك أختال على عباد الله؟

فقلت: هكذا بدا لي قدومك من بعيد.

فقال: كأنك تلمزني بقوله تعالى:

﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: 37]، وأخرجتني من صفةٍ جئتُ لأحدثك عنها.

قلت: ولكن ماذا أردت من ذكر الآية القرآنية؟

فقال: لما كان الكِبْر والأنفة أعظم موقف يبعد الداعي إلى كل خير عن العلم...

قلت: ما معنى هذا؟

فقال: يا جاهل، ألا تعلم أن الكبر هو بسبب مرض الجهل، الحامل على كل شر؟

فقلت: أتمم ما ترى في الآية: فقال:

{ولا تمش}: أي مشياً ما،

{في الأرض}: أي جنسها.

قلت: ما معنى جنسها؟

قال: أي كل ما تطؤه قدمك، سواء كان تراباً، أو زفتاً، أو بلاطاً، أو قشاً، أو صخراً، أو خشباً، أي شيء تدوسه هو أرض.

فقلت: ما المرح؟ أليس هو اللعب، والبسط والسرور؟.

فقال ضاحكاً:

أي لا تمش بمَرَح، أي: حالك ذو مرح، وهو شدة الفرح والعجب الذي يُلزم النفس الخيلاء والكِبر.

قلت: وما المشكلة؟

فقال: لأن ذلك من رعونات النفس، وطيش الهوى، وداعي الشهوة، وما طبعت عليه من النقائص.

قلت: لماذا؟

فقال: يا جاهل، ألا تعلم أن هذا المرح والسرور والغرور لا يحسن إلا بعد بلوغ جميع الآمال التي تؤخذ بالجد، ولن يكون ذلك لمخلوق.

قلت: وما دليلك على هذا؟

فقال: ألا ترى أن القرآن جعل علة ذلك بقوله تعالى: {إنك لن تخرق} أي ولو بأدنى الوجوه .

{الأرض} أي تقطعها سيراً من مكانك إلى طرفها.

قلت: كيف يكون هذا؟

فقال: الإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق، القاهر فوق عباده، تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء، أو سلطان ، أو قوة أو جمال...

قلت: وهذا ما يفعله الكثير من الناس.

فقال ضاحكاً:

يبدو لي أنك تملك – أحياناً – بصراً وبصيرة.

فقلت ممتعضاً [مَعِضَ من الأَمْرِ: غَضِبَ، وشَقَّ عليه، وأمْعَضَه ومعَّضه، فامْتَعَضَ]: تابع قولك في بعض معاني الآية القرآنية.

فقال – وقد أحسست أنه شعر بالنصر عليّ-:  

ولو تذكر الإنسان أن ما به من نعمة فمن الله ، وأنه ضعيف أمام حول الله ، لطامن من كبريائه، وخفف من خيلائه، ومشى على الأرض هوناً لا تيهاً ولا مرحاً.

قلت: إذن يكره الله الخيلاء والتكبر.

فقال: ألم تسمع الحديث القدسي: (الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ).

ولذلك فإن القرآن يَجْبَهُ [جَبَهَهُ بِالْمَكْرُوهِ اسْتَقْبَلَهُ بِهِ] المتطاول المختال المرح بضعفه وعجزه وضآلته، ويصرخ بوجهه قائلاً:

إنك لن تَخْرِقَ الْأَرْضَ.

قلت: كيف يخرقها؟

فقال: أي لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها، وشدّة وطأتك.

قلت: وما معنى:

ولن تبلغ الجبال طولاً؟

فقال: لَنْ تَبْلُغَ أو تصل أيها الإنسان المختال المتكبر بوجه من الوجوه الْجِبالَ طُولًا بتطاولك، أي طول الجبال كلها بالسير فيها.

 قلت: يعني ما نفهم من هذا؟

فقال: فإذا كنت أيها الإنسان تعجز في قدرتك وعلمك عن خط مستقيم من عرض الأرض مع الجد والاجتهاد، وعن التطاول على أوتادها، فبماذا تفخر؟ وبأيّ شيء تتكبر حتى تتبختر؟

قلت: فعلاً من يظن نفسه هذا الإنسان ؟

فقال: الإنسان بجسمه ضئيل هزيل، لا يبلغ شيئاً من الاجسام الضخمة التي خلقها الله، إنما هو قوي بقوة الله، عزيز بعزة الله ، كريم بروحه الذي نفخه الله فيه، ليتصل به ويراقبه ولا ينساه، وذلك من فِعْل من بلغ جميع ما أمل.

قلت: وما الذي يريده النص القرآني من هذه المعاني؟

فقال: هذا تهكم بالمختال، وعليه أن يخنس [خَنِسَ الْأَنْفُ خَنَسًا: انْخَفَضَتْ قَصَبَتُهُ، وَخَنَسْتُ الرَّجُلَ خَنْسًا: أَخَّرْتُهُ، أَوْ قَبَضْتُهُ وَزَوَيْتُهُ فَانْخَنَسَ، مِثْلُ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ والْخَنَّاسُ فِي صِفَةِ الشَّيْطَانِ مُبَالَغَةٌ لِأَنَّهُ يَخْنِسُ إذَا سَمِعَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ يَنْقَبِضُ]، ويُطأطئ، ويتواضع.

قلت: لماذا يدعو القرآن للتواضع؟

فقال: ذلك التطامن والتواضع الذي يدعو إليه القرآن بترذيل المرح والخيلاء ، أدب مع الله ، وأدب مع الناس، أدب نفسي، وأدب اجتماعي، وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب إلا فارغٌ، صغير القلب، صغير الاهتمامات.

قلت: ومع هذا نجد الكثيرين يتكبرون، ويتبخترون.

فقال: إن الرجل من هؤلاء يكرهه الله لبطره، ونسيان نعمته ، ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه.

فقلت له وقد ملكني السُّهومُ [العُبوس]: لقد أتعبتني، ولن أستطيع أن أستوضح عما جئت تحدثني به.

فضحك قائلاً:

إنكم هذا دائماً، لا تطيقون طلب العلم، ولا عناء البحث، ولهذا فشلتم في هذه الحياة، وأصبحتم على العالم عالة، وزعانف [الزِّعْنِفَةُ - بالكسرِ والفتحِ: القَصيرُ، والقَصيرَةُ، وطائِفَةٌ زائدة من كُلِّ شيءٍ، وكل شيء زايد عن الأصل، والرَّذْلُ، والقِطْعَةُ من القَبيلَةِ تَشِذُّ وتَنْفَرِدُ، والقِطْعَةُ من الثَّوْبِ، أو أسْفَلُهُ المُتَخَرِّقُ، وأجْنِحَةُ السَّمَكِ، وكُلُّ جَماعَةٍ لَيْسَ أصْلُهُم واحِداً، وما تَحَرَّكَ من أسافِلِ القَميصِ].

فصرخت مبهوراً [البهر: انْقِطاعُ النَّفَسِ من الإِعْياءِ]:

أعتقني وقاك الله السوء، ودعني أمضي لأنال قسطاً من راحة.

وتركته، وولّيت هارباً لا ألوي على شيء.

$ $ $

 

-14-

قلت في نفسي لن أدع صاحبي يصول ويجول بي بين ثنايا الأفكار الكبيرة والصغيرة، فأنا أريد تعلُّم العربية كما وعدني، ولكن عن طريق مبسط من خلال ما يجلِدنا به الإعلام من مصطلحات، كمصطلح الوطن، والمواطن، والوطنية، وسواها، ولكنه في كل مرة أحسُّ أنه يطوف بي مشرّقاً ومغرّباً، ثم يعود بي بلا طائل، كما يقولون عن ساقي الأنعام، يطوف بها في الفيافي [جمع فيفاء، وهي: لصَّحرَاءُ الْمَلْسَاءُ] والمفاوز[وَاحِدَتُها: الْمَفَازَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مَهْلَكَةٌ، مِنْ فَوَّزَ تَفْوِيزًا: أَيْ هَلَكَ]، ثم يعود بها وقد تشققت أشداقها [الشِّدق: جانب الفم] عطشاً، وجوفها قد أكله اللهيب.

وإذ بصاحبي يمسك بي، ويقول:

ماذا تعلمت من اللغة بعد هذا التطواف بك يميناً وشمالاً؟

فقلت: كنت أفكر أنك أضعتني كما يفعل ساقي الأنعام السيئ [والأنعام هي المال الراعية من إبل وبقر وغنم، وأكثر ما يُطلق على الإبل].

فقال: وماذا يفعل ساقي الأنعام؟

فقلت: يطوّف بها في الفيافي والمفاوز، ثم يعود بها عطشى.

فأوقفني عن الكلام وقال:

وهل تعلم ما الأنعام؟

فقلت له: بدأت تلفّ وتدور؟

فقال ضاحكاً: اللف: تَلَوِّي شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ، واللف: التواء، وعدم وضوح، ومخادعة وخصوصاً إذا استعمل مع الدوران، فهو مخادعة ومداورة، لأن دَارَ: تحوَّل وتحرَّك دون استقرار.

قلت: يعني أن كلامي عنك صحيح.

فقال لي معنِّفاً [التعنيف: التعيير والذم واللوم]:

إذن لا تعلم معنى الدوران، أما سمعت قول الله سبحانه وتعالى: ﴿تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾.

فقلت: كيف تدور الأعين؟

فقال ضاحكاً: هذه مشكلة الجاهل، يتكلم في القرآن بما لا يعلم، وهو يظن أنه الأعلم والأفهم.

فقلت له: دعك من التعالم، والتفاخر، وأخبرني عن الآية، وما فيها من اللغة، والجمال الفني.

فضحك وقال: ما شاء الله، أصبحت تتذوق اللغة .

فتغاضيت عن سخريته التي اعتدت عليها، عسى أن يضيف لي شيئاً، فقلت:

حسناً، علمني أيها الجِهْبِذُ [الجهبذ: هو النَّقَّادُ الخَبِيرُ بِغوامِض الأُمور، البارِعُ العارِفُ بطُرِق النَّقْدِ، وَهُوَ مُعَرَّب، والجمْع الجِهابِذَةُ].

فقال منتشياً بإقراري له بالعلم والتقدم:

قوله تعالى: ﴿فإذا جاء الخوف﴾ أي: لمجيء أسباب الخوف من الحرب ومقدماتها، رأيتهم أيها المخاطب بهذه الآيات

﴿ينظرون إليك﴾، وبيّن بُعدهم حساً ومعنى بحرف الغاية فقال: ﴿إليك﴾: أي حال كونهم تدور يميناً وشمالاً بإدارة الطرف أعينهم، أي زائغة رعباً وخوراً، ثم شبهها في سرعة تقلبها لغير قصد صحيح فقال:

﴿كالذي﴾ أي كدوران عين الذي ، وبين شدة العناية بتصوير ذلك بجعل المفعول عمدة ببناء الفعل له فقال :

﴿يُغشى عليه﴾ مبتدئاً غشيانه من .

فقلت: وهذا أمر خاص أم لكل الناس؟

فقال وقد استخفه [صار خفيفاً عنده] الطرب [خِفَّة تصيب الإنسان لشدة حزن أو سرور]:

سنة الله في أن كل من عامل الناس بالخداع، كان قليل الثبات عند القراع.

قلت: هذا كلام رائع.

فضحك وطار بي استخفافاً وتابع كلامه:

هي صورة شاخصة، واضحة الملامح، متحركة الجوارح، وهي في الوقت ذاته مضحكة ، تثير السخرية من هذا الصنف الجبان.

فقلت: من أين أثبتّ عليه هذا التصنيف؟

فقال: هذا الصنف الذي تنطق أوصاله وجوارحه في لحظة الخوف بالجبن المرتعش الخوار!

قلت: كل مرة أسألك سؤالاً عن مفردة لغوية، فتجيبني بفقرة كاملة، أو صفحة طويلة.

فقال كأبٍ يخاطب طفله مهدِّداً: ماذا تريد؟

قلت: وما هي هذه الصفة التي خرجت منها؟

فضحك مقهقهاً [قهقه: رَجَّعَ [كرّر] في ضَحِكِهِ، أو اشْتَدَّ ضَحِكُهُ، كَقَهَّ فيهما] حتى أصابتني من ضحكه العدوى، فبدأت أضحك، ومن عادتي إذا ضحكت بقوة أغمض عينيّ من شدة الطرب، ولما انتهيت من ضحكتي وعاد إليّ التزمت [الزَّمِيتُ والزِّمِّيتُ: الْحَلِيمُ السَّاكِنُ، الْقَلِيلُ الْكَلَامِ، كالصِّمِّيتِ؛ وَالساكتُ، وَقَدْ تَزَمَّتَ، ويعبَّر به عن شدة الوقار].

ففتحت عينيّ لأجده فارقني وانصرف، فأحسست أنه صفعني [صفعه: ضرَبَ قَفاهُ بِجُمْعِ كَفِّه لا شَديداً، أو هو أن يَبْسُطَ كَفَّهُ فَيَضْرِبَ، والصَّفْعُ كلمة لم تكن في اللغة العربية، بل هي مولَّدة في العصر العباسي].

$ $ $

-15-

بدا لي صاحبي من بعيد، فبدأت أجمع كل ما أملك، من تفكير، ونُهية [النُّهْيَةُ: الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْقَبِيحِ، وَالْجَمْعُ: نُهًى]، ففاجأني قائلاً:

مللت من تلك الأحاديث الثقيلة على قلبك؟

قلت: اسمع، أنت أضعت كل ما كنت مخططاً له[الخُطَّةُ، بِالضَّمِّ: شِبْه القِصَّة والأَمْرُ، وسُمْتُه خُطَّةَ خَسْفٍ وخُطَّة سَوْء، وجاء فلان وفي رأسه خطة، وتلك خطة ليست من بالي].

فقال ضاحكاً، وبدأت تعود إليه علائم الخبث:

تَـكلَّمنا عن الوطن، ولكن لم نحدد من هو المواطن.

فقلت له:

ومن هو المواطن بفهمك أيها الجِهبِذ؟

فابتسم، وكأنه أخ كبير يشفق على أخيه الصغير الذي يحبو، وقال:

واطن القوم: عاش معهم في وطن واحد، ومنه المُواطن.

قلت: ومن هو هذا المواطن؟

فقال: هو الذي يتمتع بالحقوق التي يتمتع بها أبناء دولته، أو مدينته.

قلت: المواطن هنا برأيك من عاش في وطن.

فقال ساخراً: أيها الخبير الكبير، الْمُوَاطِنُ: السَّاكِنُ فِي البَلَدِ نَشَأةً وَإِقَامَةً.

فقلت: كثيرون يعيشون في مناطق كثيرة من العالم، وقد يولدون فيها، وينشؤون فيها، وقد يموتون، أو يموت أولادهم فيها، ولكنهم لا يُعتبرون مواطنين.

فقال مشفقاً، وأحسست هذه الشفقة عليّ كأنها لأول مرة:

المواطن في أي وطن نُسب إليه.

فقلت: وهل يتطلب منه ذلك شيئاً.

فقال: عليه واجبات، وله حقوق.

فقلت له: ما هذه الواجبات على المواطن؟

فقال: توطَّنَ المكان: ذلَّ ومَهَّدَ، فتوطَّنت نفسُه على حُبّ الخير لمن معه في هذا الوطن.

فقلت: وهل هذا الوطن له دين؟

فقال ضاحكاً: دين الوطن أيها الحبيب، هو دين مواطنيه.

قلت: لم أسمع بهذا من قبل!

فقال: كأنك لم تكن تقرأ في كتب السابقين.

فقلت: ما علاقة كتب السابقين؟

فقال: السابقون كانوا يحددون الوطن فيقولون بتعبيرهم: دار الإسلام.

فقلت صارخاً: اسمع يا هذا، أنت بدأت تجرني إلى أنفاقٍ لا أتقن السرَب فيها [السرب: سَرَبَ فِي الْأَرْضِ سُرُوبًا، ذَهَبَ، وَسَرَبَ الْمَاءُ: جَرَى، وَسَرَبَ الْمَالُ [المال: الأنعام] سَرْبًا: رعى نهاراً].

فقال وكأنه شيخ في المسجد يؤدي درساً:

اسمع يا بني، منذ عهد أبي بكر الصديق t وبلاد الإسلام واحدة، لا حدود فيما بينها.

قلت: وما علاقة هذا بما نريد.

قال: منذ عهد أبي بكر إلى نهاية الدولة العثمانية كل بلاد الإسلام لا حدود فيما بينها، ولذلك كانوا يسمونها دار الإسلام.

قلت: وماذا يفيد هذا الكلام؟

قال: هذا يفيد أن كل فرد في هذا الوطن يتنقل فيما بين مدنه وبقاعه دون حدود أو قيود.

قلت: وماذا أفادنا هذا؟

فقال: ألا تعلم أنه حتى في بداية القرن العشرين كان الناس يتنقلون من بلد إلى بلد، فيعيشون في المكان الذي يعجبهم.

قلت: هل عندك أمثلة؟

قال: رجل يقال عنه الآن سوري حسب الأصل، اسمه ساطع الحصري، كان أبوه يعمل في اليمن، وولد هو هناك، ثم انتقل إلى إستانبول يدرّس في دار المعلمين.

قلت: هل هذا معقول؟

فقال: ثم عُيّن محافظاً في ولاية البلقان، ثم عاد إلى بلاد الشام، فتوظف فيها وزيراً للمعارف، ثم ذهب إلى العراق، ووظفوه هناك مديراً لإدارة التعليم العالية.

فقلت: يكفي يكفي، وما علاقة هذا الأمر بما نحن فيه؟

فقال ويبرز على محياه [المُحَيَّا: جماعةُ الوَجْهِ، أَو حُرُّهُ] كثير من الغرور والاستهزاء:

سألتني عن الوطن هل له دين؟

فأجبتك أن البلاد كانت كلها وطن واحد، لا حواجز فيه.

وهنا أصابني شرود باستحضار القرون الماضية، كيف كان المواطن في دولة الإسلام يقطعها شرقاً وغرباً، ولا سدود ولا حدود، ولا تأشيرات ولا تفتيشات، وتذكرت لماذا كان يوصف كثير من العلماء والأدباء بأسماء المدن أو البلاد، وكيف كان المؤرخون يقولون في بعض الأحيان: فلان الدمشقي، ثم الحموي، ثم البغدادي إلخ...

ولم أنتبه إلا وقد أبعد صديقي نفسه عني، وتركني في أحلامي، أو هواجسي، أو أوهامي.

$ $ $

-16-

رجعت إلى حصاتي [الحَصَاةُ: العَقْل والرَّزانَةُ، وهُوَ ثَابِتُ الحَصَاةِ إِذَا كَانَ عَاقِلًا، وَذُو حَصَاةٍ وأَصاةٍ أَي عقلٍ ورَأْيٍ]، ورأيت أن عليَّ أن أُلزم صاحبي بفكرة الوطن، حتى لا يتشعب الموضوع، فسألته مسارعاً قبل أن يسألني، أو يبدأ بحديث غريب عن موضوعي.

قلت له:

إذن كيف انتقلنا إلى المفهوم الجديد للوطن؟

فقال: سبق وأخبرتك أننا بقينا إلى بداية القرن العشرين، فنحن منذ القرن الميلادي السابع، وليس عندنا هذه الحواجز والحدود.

قلت: فما السبب في هذه الشرذمة؟ [الشِّرْذِمَةُ، بالكسر: القليلُ من الناسِ].

فقال: بعد سقوط الدولة العثمانية شعر العرب بالانكشاف، وبكثرة الآكلين لهم، حتى أصبحوا أضيع من الأيتام على مآدب اللئام.

فقلت: وما معنى هذا المثل؟

فقال: اليَتِيمُ الَّذِي مَاتَ أَبوه، فَهُوَ يَتِيمٌ حَتَّى يبلغَ، فإِذا بَلَغَ زَالَ عَنْهُ اسمُ اليُتْم.

قلت: وما معنى المآدب؟

فقال: هي جمع مأدبة، فمن صَنَعَ صَنِيعًا طعاماً، وَدَعَا النَّاسَ إلَيْهِ فَهُوَ آدِبٌ.

قلت: وما الصنيع؟

قال: اسْمُ الصَّنِيعِ الْمَأْدُبَةُ: وهي طعام صنع لدعوة، أو عرس.

قلت: واللئام؟

فقال: جمع لئيم، وهو: الشَّحِيحِ وَالدَّنِيءِ النَّفْسِ وَالْمَهِينِ وَنَحْوِهِمْ؛ لِأَنَّ اللُّؤْمَ ضِدُّ الْكَرَمِ.

فقلت مشدوهاً، وقد أخذتني نوبة من كآبة [والكئيب الذي حَزِنَ أَشَدَّ الْحُزْنِ، فَهُوَ كَئِبٌ وَكَئِيبٌ]:

هل بإمكاني أن أتصور طفلاً صغيراً، يتيماً لا أب، ولا راعي له، وقد أجهده سُعار الجوع، [تقول: سَعَرْتُ النَّارَ سَعْرًا وَأَسْعَرْتُهَا: أَوْقَدْتُهَا فَاسْتَعَرَتْ].

قال: نعم، وذهب هذا الطفل الخاوي بطنه من أي مأدبة طعام، ليطلب طعاماً.

قلت: ما الخاوي؟

فضحك وقال: الخَوُّ: الجُوعُ، والخَوَّةُ: الأرضُ الخالِيَةُ، وخَوَتِ الدَّارُ: تَهَدَّمَتْ، وخَلَتْ من أهْلِها، وأرضٌ خاوِيَةٌ: خالِيَةٌ من أهْلِها، والخَوَى: خُلُوُّ الجَوْفِ من الطَّعامِ.

فقلت: إذن ماذا حصل لهذا الطفل المسكين؟

فقال: وقع على مآدب اللئام، وبدأ اللئام يدفعونه ويضربونه، ويتلذذون بطرده.

قلت: وما علاقة هذا بما نحن فيه؟

فقال: لا يزال عقلك صغيراً، فقد نسيت ما نحن فيه، ولماذا تحدثنا هذا.

قلت: ما تزال تعاملني بطريقة مزعجة.

فقال: بل قل بطريقة ساخرة، فهذا المثل جئنا به لنحلل وضعنا نحن العرب، فقد أصبحنا نحن العرب كهذه الحالة.

قلت: فكيف تصرفوا حيال [الحيال: قُمْتُ حِيَالَهُ أَيْ قُبَالَتَهُ، وَفَعَلْتُ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى حِيَالِهِ أَيْ بِانْفِرَادِهِ، وَلَا حَيْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ لُغَةٌ فِي الْوَاوِ] هذه المشكلة؟

فقال مقطّباً جبينه [قَطَبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: جَمَعَ، وَقَطَّبَ وَجْهَهُ تَقْطِيبًا: عَبَسَ]:

العرب قبل سقوط الدولة العثمانية بدؤوا يفكرون بقضاياهم كعرب، بعد أن كانوا يشعرون أنهم جزء من أمة كبيرة تحكم نصف العالم.

قلت: فماذا فعلوا؟

قال: مع بدء مظاهر سقوط الدولة العثمانية، أصبحت ترى الشعراء العرب، ومفكريهم برفعون الصوت بهذه المشكلة.

فقلت: وما المظاهر الدالة على قولك؟

فقال لي عاطفاً عليّ، يشعرني بأنه كبير يحوطني برعايته وشفقته:

ألم تقرأ شعر أحمد شوقي صارخاً:

كان شعري الغناءَ في فرح الشر   قِ ، وكان العزاءَ في أحزانه قد قضى الله أن يؤلِّفنا الجر   حُ، وأَن نلتقي على أَشجانه كلما أنَّ بالعراقِ جريحٌ   لمس الشرقُ جنبه في عُمانه

$ $ $

 

-17-

قلت لصاحبي وقد أصابني دُوار [شِبْهُ الدَّوَرانِ يأْخُذُ في الرأس]:

يعني أصبحنا كذلك اليتيم المدفوع عن كل الأبواب الإنسانية؟

فقال: نعم، فقد بدأ العرب ينادون بوحدتهم، وضاعوا بين أن يكونوا متدينين، أو علمانيين.

قلت: هذه الجملة الأخيرة أحسُّ أن بها غمزاً ولمزاً وهمزاً، فماذا تقصد بها؟

قال: على ما يظهر أن عقلك صغير، ولا يستطيع جمع الأفكار يا صغيري.

فقلت غاضباً:

يا أخي تخلّص من غرورك قليلاً [الْغُرُورُ: مَا اغْتُرَّ بِهِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وهو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع، وعبر عنه بعضهم بأنه كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشيطان]، وحدثني دون وخز [الطَعنُ طَعْنَةً غَيْرَ نَافِذَةٍ بِرُمْحٍ، أَوْ إبْرَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ]، أو وكز [الوكز: الضَربُ، وَالدَّفعُ، والضَربُ بِجُمْعِ الكَفِّ: اللَّكْمُ] ونخز [النخزُ: النخسُ].

فقال ضاحكاً ساخراً متعالياً:

ألا تذكر أنني حدثتك عن المفكر ساطع الحصري؟

قلت: نعم أذكر ذلك، وأذكر أنك ذكرت تنقله بين العواصم والمدن.

فقال ونظرته الذئبية [قال الأصمعي يصف ذئباً رباه أعرابي: فحركته الطبيعة الدنية، والنفس الذئبية على افتراس الشاة] أكاد أحسّ بها، فقطعت استرساله في الحديث لأسأله:

هل من صحيح فعل هذا الأعرابي؟

فقال: ضاحكاً مستبشراً:

أتدري أنك قد أرحتني من كثير من مسائلك الطفولية.

قلت مستغرباً متعجباً:

كيف ذلك؟

فقال: ألا ترى أن كثيرين من مثقفي العرب، والذين خرجوا في صفوفنا ينادون بالحرية والديمقراطية والحياة الرغيدة...

فخفت أن يُطيل بوصفهم، فصرخت بوجهه:

ما بهم، ما قصتهم، ما حكايتهم؟

فنظر إلي متعجباً، وكأنه ينكر عليّ أن أفكر، أو يظهر مني شيء فيه عقلانية، وقال:

ألا تذكر أولهم في القرن العشرين؟

قلت ومن هو؟

فقال: هو ساطع الحصري.

قلت: مابه؟

قال: هل تصدق أنه ذهب إلى إستنبول ليدرِّس حزب الاتحاد والترقي النزعة الطورانية التركية التي قتلت كل المفكرين في بلاد الشام، وعمل مع هذه الجمعية، وقد نشر عدة مقالات في الدعوة إلى الطورانية والتتريك في مجلة (تورك أوجاني)؟

قلت: هل تعي ما تقول؟

قال: وأنت هل تفهم ما يقال؟

قلت: نعم.

فقال: إذن اعلم أن هذا الرجل يعتبر من أوائل هؤلاء الذين أكلوا من خيرات هذه البلاد، وتعلم وتربّى في مدارس الدولة العثمانية، وتخرج فيها، ونال عدة وظائف تعليمية وإدارية، وكان مديراً لدار المعلمين في إستنبول.

فقلت: وما علاقة ذلك بما نقول؟.

فقال: بعد أن أحسست بأنك تفهم، يأتيني منك سؤال يعيدني إلى ظني بك.

فقلت بنزق [النَّزَقُ: الْخِفَّةُ وَالطَّيْشُ]: أكمل ما تريد قوله.

فقال: عندما دخلت فرنسا إلى بلاد الشام، انقلب بين عشية وضحاها شامياً، بعد أن كان طورانياً، ليصبح رائداً من رواد القومية العربية.

قلت: هل هذا من خيالاتك، أم هي الحقيقة؟

فقال: كأنك أصبحت تفهم طرق التفكير والنقد، وتطالب بالتوضيح والدليل.

قلت بحزن وأسى [الْأَسَى: الْمُدَاوَاةُ وَالْعِلَاجُ، وَهُوَ أَيْضًا الْحُزْنُ، وَأَسِيَ عَلَى مُصِيبَةٍ مِنْ بَابِ صَدِيَ أَيْ حَزِنَ، وَقَدْ أَسِيَ لَهُ أَيْ حَزِنَ لَهُ]:

أتمم أتمم.

فقال: وكانت في لغة هذا الرجل رطانة [الرَّطَانَةُ: الْكَلَامُ بِالْأَعْجَمِيَّةِ].

وهنا طاش عقلي [طَاشَ السَّهْمُ عَنْ الْهَدَفِ: انْحَرَفَ عَنْهُ فَلَمْ يُصِبْهُ، وطاش عقله: يعني انحرف عن مساره] فقلت:

رجل ينادي بالقومية العربية، ويتكلم برطانة أعجمية!

وبدأت أفكر وأسرح في خيالي حياة قضيتها، وكنت مرة أقول بهذه الفكرة، ومرة بغيرها، ومرة ثالثة بغيرهما، وما زلت أفكِّر كيف نسيت أن نبيّي محمداً عربي، ولغته عربية، والقرآن وصفه ربنا قرآناً عربياً، وبلسان عربي مبين، ثم يأتي من يرطن بالعربية، وأكثر من سار مسيره لا يعرفون من العربية إلا لماماً [اللِّمَامُ: اللِّقاءُ اليسيرُ].

$ $ $

-18-

سألت صاحبي أول ما رأيته:

هل من المعقول أن الحصري كان يرطن بعربية أعجمية؟

قال: ليس هذا فحسب.

قلت مستغرباً:

وماذا بعد ذلك؟

فقال: على ما يبدو أن هذا الرجل كما درَّس الأتراك الطورانية الملحدة، يريد أن يعلمنا العربية الملحدة.

قلت: لم أفهم ما تقصد.

فضحك وقال:

ومتى كنت تفهم أصلاً؟

فشعرت بسماجة هذا الرجل [السَّماجَة: القُبُح، والسَمْجُ، وَالسَمِجُ، والسَمِيجُ، مِثْلُ قَبُحَ فَهُوَ قَبِيحٌ]، وتحملت هذه السماجة القاتلة.

وقلت: ماذا تريد من العربية الملحدة؟

فقال: هو علَّم الأتراك أن ينسلخوا من دينهم، وحتى من تركيّتهم.

قلت: وكيف.

فقال: ألا ترى أن الأتراك [الاتحاديين والكماليين] تخلصوا من أي أثر ديني في حياتهم.

قلت: كيف ألغوا الأثر الديني.

قال: أولاً: ألغوا الحرف العربي، وحتى أذان الصلاة جعلوه بغير العربية، ومنعوا حجاب النساء، وتدريس الدين في المدارس.

قلت في نفسي: وهذا فعله كثيرون من مقلّدي هذا الرجل.

ثم سألته:

وماذا أحدث الحصري في العرب؟

فقال ضاحكاً: ألا تدري بأنه نزع العروبة من كل مواصفاتها، وصفاتها، حتى من جاهليتها.

قلت: أعوذ بالله، وهل تستطيع التدليل على ذلك؟

قال: ألا ترى أن الذين نادوا بأفكار الحصري، كان تعصبهم لاسم العروبة، مع عداوة للعرب والدين؟

قلت: فهمت الكلمة الثانية، ولكن الكلمة الأولى (العرب) لم أفهمها؟

قال: انظر إلى هؤلاء المتأثرين بهذا الرجل، كيف هم مستعدون للاتفاق مع شعوبيي الأرض، والمهم ألا يكون ذكر للإسلام في عروبتهم.

قلت: دائماً تردد كلمة الشعوبية، ولا أدري ماذا تقصد بها بالتحديد.

فقال: في عصرنا ظهروا بنبذ للعروبة والعربية، ودعوة عارمة إلى العامية، بلغت ذروتها في إصدار بعض الصحف السيارة المنتشرة في أول القرن العشرين باللغة العامية.

قلت: هذه عداوة للغة، وأين عداوتهم للعرب بغير اللغة؟

فقال وكأن سؤالي أثار فيه كامناً غير ظاهر:

ألم تر هؤلاء الذين اتبعوه، كيف أن كثيراً منهم مستعدون للتوافق والاتفاق مع أي قومية أخرى ضد من هم من قوميتهم.

قلت: هذا يذكّرني أيام الطلب [طلب العلم] كان أقراننا يسألون:

إذا خٌيِّرتم بين الإسلام والعروبة فماذا تختارون، والآن لم أفهم ما تريد من هذا القول.

فقال ضاحكاً بسخرية:

أقصد أنهم إذا خُيّروا بين العروبة وأي قومية شعوبية أخرى، فسيختارون الشعوبية، والمهم أن يبتعدوا عن الإسلام، وعن العروبة؛ لأنهم يعرفون أن الإسلام هو العروبة، فلا إسلام دون قرآن عربي، ومواصفات لمكارم أخلاق العرب.

فقلت بنزق شديد: كيف يبتعدون عن العروبة وهم دعاتها؟

فقال: هم بانحيازهم إلى الشعوبيين باسم القومية، يدل أنهم لم يبلغوا مبلغ أهل الجاهلية.

فقلت مشدوها [شُدِهَ الرَّجُلُ، فَهُوَ مَشْدُوهٌ: دُهِشَ، وشُدِهَ الرَّجُلُ شُغِلَ، وحُيِّرَ] مستغرباً:

كيف كان أهل الجاهلية؟

فقال: على ما يبدو أنك قريب من هؤلاء الذين لا يعرفون تاريخهم.

قلت: دعك من ألاعيبك وأفانينك في السخرية، وأخبرني عن أهل الجاهلية الذين لا أعرفهم؟

فقال لي وقد أخذته صفة العالم النحرير [النِّحْرِيرُ: الْعَالِمُ الْمُتْقِنُ]:

يذكر العرب في تاريخهم أن لقيط بن يعمر الإيادي، وكان كاتباً في ديوان كسرى، أرسل قصيدة ينذر قومه بها؛ لمّا رأى كسرى مجمعاً على غزو إياد، كتب إليهم بهذا الشعر:

أبلغْ إياداً وخلّل في سراتهم   أنى أرى الرأي إن لم أُعصَ قد نصعَا

خلِّلْ: تَخَلَّلَ الْقَوْمَ دَخَلَ بَيْنَ خَلَلِهِمْ وَخِلَالَهُمْ، والسراة: الوجهاء، نصع: وضح.

يا لهفَ نفسي إنْ كانتْ أموركمُ   شتى وأحكمَ أمرُ الناسِ فاجتمعا

شتى: الشَتُّ: المُتَفَرِّقٌ، وشَتَّ الْأَمْرُ أَيْ تَفَرَّقَ، وَشَتَّتَهُ تَشْتِيتًا فَرَّقَهُ، وَقَوْمٌ شَتَّى، وَأَشْيَاءُ شَتَّى، وَجَاءُوا أَشْتَاتًا أَيْ مُتَفَرِّقِينَ.

ألا تخافونَ قوماً لا أبا لكمُ   أمسوْا إليكم كأمثالِ الدبَى سرعَا

الدبى: نوع من الجراد.

أبناءُ قومٍ تآووكُم على حنقٍ   لا يشعرونَ أضرَّ اللهُ أمْ نفعا أحرارُ فارسَ أبناءُ الملوكِ لهم   من الجموعِ جموعٌ تزدهي القلعا

ازدهيت فلاناً: تهاونت به، والقلع: السحاب العظيم.

فهم سراعٌ إليكم، بينَ ملتقطٍ   شوكاً، وآخر يجني الصابَ والسلعَا

الصاب والسلع: شجرانِ مرّانِ، كنَى بذلك عن السلاح.

في كل يومٍ يسنّونَ الحرابَ لكمْ   لا يهجعونَ إذا ما غافلٌ هجعا ما لي أراكمْ نياماً في بلهنيةٍ   وقد ترونَ شهابَ الحربِ قد سطعا فاشفوا غليلي برأيٍ منكمُ حصدٍ   يصبحْ فؤادي له ريانَ قد نقعا

البلهنية: العيش اللين.

حصدٍ: محكم؛ من قولهم: درع حصداء: محكمة [أي يحصد أعداءكم].

لا تثمروا المالَ للأعداءِ إنهمُ   إنْ يظهروا يحتووكم والتلادَ معا

[أي إن تشغلوا أنفسكم بجمع المال فسيكون هذا المال في النهاية لهذا العدو الظالم].

هيهاتَ لا مالَ من زرع ولا إبلٍ   يرجى لغابركم إنْ أنفكم جدعا هو الجلاءُ الذي يجتثُّ أصلكمُ   فمنْ رأى مثلَ ذا رأياً ومنْ سمعَا

 [الجلاء: التهجير من البلدان]

قوموا قياماً على أمشاطِ أرجلكم   ثم افزعوا قد ينالُ الأمنَ منْ فزِعا

المشط: سلاميات ظهر القدم؛ وهي عظام الأصابع، واحدتها سلامى.

وقلدوا أمركم، للَّهِ دركمْ   رحبَ الذراعِ بأمرِ الحرب مضطلعا

الدر: اللبن. ولله دره: أي لله عمله. ويقولون في الذم: لا درّ درّه: أي لا كثر خيره، الضلاعة: القوة. وفلان يضطلع بهذا الأمر: أي تقوى ضلاعهُ على حمله.

لقد بذلتُ لكم نصحي بلا دخلٍ

  فاستيقظوا؛ إن خيرَ العلمِ ما نفعَا

الدخل كالدغَل. والدخَل: العيب في الحسب. وبنو فلان في بني فلان دخل: إذا انتسبوا معهم، وليسوا منهم. [أي نصحتكم النصح الأخير، قبل أن تستأصل شأفتكم]

هذا كتابي إليكم والنذيرُ لكمْ   لمنْ رأى رأيه منكمْ ومن سمعَا

فوقع الكتاب بيد كسرى فقطع لسانَ لقيط، وغزا إياداً.

قلت: وما علاقة هذه القصة بما تخبرني به عن هؤلاء مدعي العروبة؟

فقال: دائماً ظني بقصورك [قَصَرَ عَنِ الشَّيْءِ: عَجَزَ عَنْهُ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ] لا ينبو عن الحق.

فقلت: ينبو؟ إيش يعني ينبو، فقال: نَبَا الشَّيْءُ عَنْهُ: تَجَافَى وَتَبَاعَدَ.

ثم تابع كلامه دون أن ينتظر مني سؤالاً:

وأما هؤلاء الذين عاشوا فيما بيننا، وادعو هذه الدعوة الطويلة العريضة في العروبة.

فقاطعته: لا تكثر من الصفات، وتطنب فيها [أَطْنَبَ الرَّجُلُ إذَا بَالَغَ فِي قَوْلِهِ كَمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ].

فقال حسناً: انظر إليهم، ماذا يعرفون عن العربية كلغة، وعن العرب كقوم، وعن مواصفات العرب كعادات، وعن خلائق العرب كطباع، هل تحسُّ بشيء من هذا عندهم؟

قلت: أما اللغة، فأكثرهم إذا عرف قراءة البيت من الشعر فاته معناه، وأما عن القوم، فهو يعرف مصلحته، فإذا اختلفت مع جاره العربي، لجأ إلى صديق أعجمي، وكم أثارني أن اجتماع القوم (القومي) مرة كان في بلاد العجم، واعتبروا الأعاجم العلوج [الْعِلْجُ: الْوَاحِدُ مِنْ كُفَّارِ الْعَجَمِ، وَالْجَمْعُ (عُلُوجٌ، وَ (أَعْلَاجٌ] أصدقاء عروبتهم، وأما المواصفات والخلائق، فهم دعاة الأخلاق البعيدة عن مواصفات هذه الأمة، وعن طبائعها باسم التقدمية، فهم...

ووجدتني أكلم نفسي، لأن صاحبي تركني سادراً في ممشاي [السَّادِرُ: الْمُتَحَيِّرُ، وَالَّذِي لَا يَهْتَمُّ، وَلَا يُبَالِي مَا صَنَعَ]، ولم ننتهِ من مشكلة الوطن والمواطن.

$ $ $

19-

أبصرت صاحبي من بعيد، فحزمت أمري [حزم أمره: ضبطه، وأتقنه، وأظهر عزيمتهَ فيه]، فلا بد من الكلام فيما أردته من تعلّم العربية من خلال بعض المفردات، وقبل أن يبدأني [بدأه: اسْتَقْبَلَهُ به، أَو بدأهُ به فَعَلَهُ ابْتِدَاءً]

فقلت له:

أليس من حق المرء أن يكون له وطن، يُحبُّه؟

فقال ضاحكاً: بل ويخلص له، ويضحِّي من أجله، ويعمل على نصرته، ويدعو إلى استقلاله، إن تغلَّب عليه محتلٌّ.

فقلت فرحاً بهذه الإجابة التي أحس لأول مرة أنني أتفق مع صاحبي بشيء من الأفكار:

وما هي حقوق هذا المواطن الذي قدم لوطنه هذا التضحيات؟

فقطّب حاجبيه، وقال:

مِنْ حُقُوقِ المواطن أنْ يَتَمَتَّعَ بِحُرِّيَّةِ التَّجَوُّلِ في وطنه.

فقلت: هل هذه هي الحرية التي تراها؟

فقال ساخراً: تذكرني بقول الله U: ﴿خُلِقَ الإنْسَانُ مِن عَجَلٍ﴾.

 فقطعت كلامه سائلاً:

يعني ماذا؟

فقال: أتعلم ما تتمة هذه الآية لتفهمها في سياقها؟

قلت: نعم أعلم إنه قوله تعالى: ﴿سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾.

فقال: دائماً تشعرني أن عندك خيراً في مرات عدة.

فقلت بعد امتعاض:

تابع ما تريد قوله دون ازدراء [ازْدَرَاهُ أَيْ حَقَّرَهُ].

فقال بتعالٍ وصلفٍ [الصَّلَفَ: مُجَاوَزَةُ قَدْرِ الظَّرْفِ، وَالِادِّعَاءُ فَوْقَ ذَلِكَ تَكَبُّرًا]:

كانوا [أي الكفار] يستعجلون عذاب الله، وآياته الملجئة إلى العلم، والإقرار، وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ فأراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم، فقدم أولاً ذمّ الإنسان على إفراط العجلة.

فقلت: وكيف ذمّ الإنسان؟

فقال: اصبرْ واسمع، فالآية تقول إن الإنسان مطبوع عليها [العجلة]، ثم نهاهم وزجرهم، كأنه قال: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا، فإنكم مجبولون على ذلك، وهو طبعكم وسجيتكم، وهذا مبالغة في وصف الإنسان بكثرة العجلة، وأنه شديد الاستعجال لما يؤثره من الأمور، لهج باستدناء [استدنى الشَّخصَ: طلب منه أن يقترب، وقرَّبه إلى مجلسه] ما يجلب إليه نفعًا، أو يدفع عنه ضررًا.

فقلت: وهل هذا معروف عند العرب كثيراً؟

فقال: ولهم عادة في استعمال مثل هذا التعبير، كقولهم لمن يصفونه بكثرة النوم: ما خلقت إلّا من نوم، وما خلق فلان إلّا من شر؛ إذا أرادوا كثرة وقوع الشرّ منه؛ وربما قالوا: ما أنت إلّا أكل وشرب، وما أشبه ذلك]، إذن فالعجلة في طبع الإنسان وتكوينه، وهو يمدّ ببصره دائماً إلى ما وراء اللحظة الحاضرة، يريد ليتناوله بيده ، ويريد ليحقق كل ما يخطر له بمجرد أن يخطر بباله، ويريد أن يستحضر كل ما يُوعَد به، ولو كان في ذلك ضرره وإيذاؤه.

قلت: وهل العجلة لها كل هذه الأمور؟

فقال: إلا أن يتصل بالله، فيثبت ويطمئن، ويكل الأمر إليه، فلا يتعجل قضاءه، فالإيمان ثقة وصبر واطمئنان.

قلت بعد أن فهمت منه ما في الآية من جمال، وخفتُ من الاسترسال فقطعت الكلام:

اختصر لي ما أضعتني به عن المواطن.

فقال: المواطن: مَنْ نشَأ معك في وطن واحد.

قلت: وما الوطني؟

فضحك وقال:

الوطَنِيّ؛ شخص منتمٍ إلى بلد يعيش فيها؛ لكونه مولودًا فيها، أو حاصلاً على جنسيتها.

فقلت: أرأيت أننا متفقان في هذا الأمر؟

فقال ضاحكاً: أرى أنك لا تعرف من تاريخك شيئاً؟

قلت: أي تاريخ يا هذا؟

فقال: التاريخ يقول: اضطهد الكفارُ المسلمين في مكة، وهي موطنهم وموطن آبائهم وأجدادهم.

فقلت: وما علاقة الوطن بهذا؟

فقال ساخراً: ألم يهاجر النبي ♥ من مكة إلى المدينة؟

قلت: يعني؟

قال: يعني ترك موطنه [مكة]، إلى المدينة.

فقلت مسرعاً: أليست كلها مدناً عربية؟

قال: ومع أنها عربية كان العرب يحارب بعضهم بعضاً حتى على مواطن الكلأ [الكلأ: المرعى رطباً كان أو يابساً، وأما العشب فلا لا يكون إلا رطباً].

قلت: وهذا انتهى في عصر الإسلام الجديد.

فقال: تقول عصر الإسلام الجديد.

قلت: أتعلم ما هو الجديد؟

فقال: إن الإسلام رفع العرب من التفكير في الكلأ والمرعى، والحدود والقيود...

فصحتُ: ألم ترَ أن الإسلام رفع المستوى العقلي للعربي...

ونظرت فلم أجد صاحبي، بل تركني دون إذن أو وداع.

20-

 قلت: بعد أن فهمت منك ما في الآية من جمال، ألا تعود إلى إتمام كلامك عن الحرية، وأنواعها؟

فقال متابعاً ما سبق من كلامه:

وَحُرِّيَّةِ الرَّأْيِ، وَحُرِّيَّةِ الاعْتِقَادِ، وَحُرِّيَّةِ التَّعْبِيرِ.

فقلت: حرية الاعتقاد، وإن كان موطنه مؤمناً؟

فقال: من حَقّهِ اخْتِيَار مَا يعْتِقدُهُ ويَقْتِنِعُهُ.

فقلت: وما اسم هذه الحريات التي تتفلسف فيها وبها على مثلي؟

فقال مُستهتَراً [المُسْتَهْتَرُ بالشيءِ، بالفتح: المُولَعُ به، لا يُبالي بما فُعِلَ فيه، وشُتِمَ له، والذي كثُرَتْ أباطِيلُهُ]:

يا صغيري، إنها الحُرِّيَّةُ الفَرْدِيَّةُ.

قلت: وما هذه الحرية المفردة؟

فقال ضاحكاً: الفردية يا...

فصرخت: أتمم دون سخرية واستصغار واستهزاء.

فقال: هي ما يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ الْمُواطِنُ مِنَ الحُقوقِ الْمَدَنِيَّةِ الَّتِي يُخَوِّلُها لَهُ [القانونُ!].

فقلت: اعتبرني فهمتُ ما أردتَ، وإن لم أكن استوعبت كثيراً من شرحك.

فقال: فماذا تريد؟

قلت: هل هذا هو الذي يمنحني إياه الوطن الذي أعيش فيه؟

فقال: وهناك حريات أخرى.

قلت: مثل ماذا؟

فقال: الحُرِّيَّةُ السِّيَاسِيَّةُ.

قلت: وما هي هذه الحرية التي قد توصل صاحبها إلى غياهب [الغياهب: جمع الغيهب: ظَلَامٍ، وَقِلَّةِ ضِيَاءٍ، فَالْغَيْهَبُ: الظُّلْمَةُ، ويُقَالُ لِلْغَفْلَةِ عَنِ الشَّيْءِ: غَهَبٌ، فغَهِبَ عَنْهُ، إِذَا غَفَلَ]....

فضحك وقال:

هِيَ حَقُّ الْمُوَاطِنِ فِي التَّمَتُّعِ بِحُقُوقِ الْمُوَاطَنَةِ فِي ظِلِّ حكّامه.

فقلت: وما حُرِّيَّةُ الاِعْتِقَادِ؟

فقال: هِيَ حَقُّ الإنْسَانِ أنْ يَعْتَقِدَ الدِّينَ الَّذي يَرْتَئِيهِ.

فقلت: هل تظن أن خلفاء المسلمين كانوا يحتملون مخالفي الإسلام في عصورهم الرائدة؟

فقال: كأنك لم تقرأ التاريخ، أيها النحرير[ النحرير: هو الذي سبق في العلوم، ولم يُلحق، فيقال: نحر الأمور علماً، وجمعه: نحارير].

فقلت: وماذا في تاريخنا؟

فقال: روى أنس بن مالك ب: عندما شكا القبطيُّ المصريُّ أميرَ مصر عمرَو بن العاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب بأن ابن الأمير ضربه، فأرسل عمر يطلب أمير مصر، فحضر.

فقال عمر: أين المصري؟

خُذِ السوط فاضرب، فجعل يضربه بالسوط.

ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين.

قال أنس: فضرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه.

ثم قال عمر للمصري: ضع على صلعة عمرو.

فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني، وقد اشتفيت منه.

فقال عمر لعمرو كلمته المشهورة: «مذْ كم تعبدَّتمُ الناسَ وقد ولدَتْهم أمهاتُهم أحراراً».

قال عمرو: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني.

فقلت: وهل هناك حريات أخرى؟

فقال: حُرِّيَّةُ النَّشْرِ.

قلت: ما معناها؟

فقال: حَقُّ الإنْسَانِ فِي أنْ يَكْتُبَ، وَيَنْشُرَ آرَاءَهُ، وأفْكَارَهُ.

فقلت: لقد أخذتني إلى الغياهب المخيفة، فدعك من هذا، ولكن أخبرني هل هناك حريات أخرى؟

فقال: الحرِّيَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ.

قلت: وما هذه الحرية الطبيعية؟

فقال: حَقُّ الإِنْسَانِ فِي أنْ يَتَصَرَّفَ فِي الحَيَاةِ بِطَبِيعَةٍ، دُونَ أيِّ ضَغْطٍ خَارِجِيٍّ.

فصحتُ مسرعاً:

فهمت، فهمت..

وهل هناك حريات أخرى؟

فضحك وقال:

هل أقسم أنك لم تفهم، أو لا تريد أن تفهم، ولكن لك الحرية في أن تفهم، أو لا تفهم، نعم هناك الحُرِّيَّةُ الْمَدَنِيَّةُ.

قلت: وما هذه الحرية المدنية؟

فقال: هِيَ حَقُّ الْمُوَاطِنِ أنْ يَتَصَرَّفَ وَيَعْمَلَ حَسَبَ القوَانِينِ الْمَدَنِيَّةِ التي يتفق عليها نوابه وحكماؤه.

فقلت: الحمد لله، هذه لا نعرفها، فالنواب...

وخفتُ من الاسترسال فقطعت الكلام، وقلت:

اختصر لي ما أضعتني به عن المواطن.

فقال: المواطن: مَنْ نشَأ معك في وطن واحد.

قلت: وما الوطني؟

فضحك وقال:

الوطَنِيّ؛ شخص منتمٍ إلى بلد يتمتع بالحقوق السياسيّة كافّة، وحقّ تولِّي الوظائف العامّة؛ لكونه مولودًا فيها، أو حاصلاً على جنسيتها.

فقلت: هكذا دون تمييز بين مواطن ومواطن.

فقال: هناك المواطن العاديّ.

قلت: ومن هو؟

فقال ساخراً:

الذي لا علاقة له بالمؤسَّسات العامّة، فلم يتوظف في سلك الوظائف أو غيرها من المؤسسات العامة.

فقلت: وما المواطن العالميّ؟

قال: مَنْ يعتبر كلّ البلدان وطنًا له، ومَنْ يمكنه العيش في كلّ البلدان كأنّها وطنه.

فقلت: وهل هذا يعتبر مواطناً؟

فقال: هذا هو الذي يعتبر نفسه مواطناً عالمياً.

فقلت: إذا ما المواطنة أمام هذا التصنيف؟

فقال: المواطنة نزعة ترمي إلى اعتبار الإنسانيّة أسرة واحدة، وطنها العالم، وأعضاؤها أفراد البشر جميعًا.

فقلت: وغير هذا التعريف؟

فقال: المواطنة: عدم التمييز بين أبناء الوطن الواحد وسكانه الذين ينتمون إليه على أساس الدِّين، أو اللُّغة، أو العنصر، أو الجنس.

فقلت: وما ميزات هذه المواطنة؟

فقال: كون المرء مواطنًا من مواطني دولة، وله فيها حقوق وامتيازات تكفلها له الدَّولة، وبالمقابل عليه الالتزام بالواجبات التي تفرضها عليه.

قلت: هذه المواطنة، فما الوطني؟

قال: الوَطَنيّ: منسوب إلى الوَطَن، وعليه أن يعبر عن حُبّ الوطن، ويخلص له، ويضحِّي من أجله، ويعمل على نصرته، ويدعو إلى استقلال بلاده.

قلت: وبلاده هذه ليس لها تعريف.

فقال: الكِيان الوطنيّ: أرض الوطن بحدودها المعروفة، وكافة مقوّمات الوطن السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة وغيرها.

وهنا أحسست بالعرق يسربلني [السربال: الْقَمِيصُ، وَسَرْبَلَهُ، فَتَسَرْبَلَ، أَيْ أَلْبَسَهُ السِّرْبَالَ من أعلى إلى أسفل]، وكدت أشرَقُ [شرِقَ: غَصَّ، وشَرِقَ بِرِيقِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وشرِقَ بالريق وبالماء، وأخذته شرقة كاد يموت منها] فانطلقت هارباً لا ألوي [لَوَى رَأْسَهُ وَبِرَأْسِهِ: أَمَالَهُ، وَفيه مَعْنَى الْإِعْرَاضِ, وَمَرَّ لَا يَلْوِي عَلَى أَحَدٍ، ولا على شيء، أَيْ لَا يَقِفُ، وَلَا يَنْتَظِرُ،  وَ لَوَى رَأْسَهُ، وَأَلْوَى بِرَأْسِهِ: أَمَالَهُ وَأَعْرَضَ]، وأنا أفرُّ، ولا ألوي على شيء.

وهنا توقف صاحبي عند هذه التعريفات للوطن والوطني والوطنية، وسألني هل أنت مقتنع بما تقول،

قلت: ولم لا أقتنع، وهل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا وطن، ولا مواطنين.

فقال: يعني أنك تريد أن تقنعني بالمواطنة، والعيش في الوطن الذي يحميك، ويجعلك تعيش بين مجموعة من الناس يؤمنون بما تؤمن به، ويقتعون بما تقتنع به؟

قلت: نعم، هذا هو الصحيح.

فقال: في عصر الحضارة عصروا لكم أدمغتكم، وملؤوا رؤوسكم وحشوها بمفاهيم ظاهرها كبير، وواقعها تحوم حوله المشاكل [جمع: مُشْكل، وليس مشكلة]، فهي تلتبس [الْتَبَسَ عَليهِ الأمر: أي اخْتَلَطَ واشْتَبَه] بعوارها [العَوارُ: العَيبُ، والخَرْقُ، والشَّقُّ في الثَّوْبِ]، وعدم دقتها على الإنسان، فيبدأ يتحدث كما يسمع، بما لا يفهم بدقة ما يقول، فهل أوطانكم هكذا تعيشون فيها؟

عندها عدت إلى المعجم لأعرف منه هذه الألفاظ والمعاني.

فرأيت: واطنَ يواطن، مُواطنةً، فهو مُواطِن، وواطن القومَ: عاش معهم في وَطَنٍ واحدٍ، واطن فلانًا على الأمر: أضمر فِعْلَه معه، ووافقه عليه، ولذلك كان الوطَنِيّ [كما تقول المعاجم]: شخص منتمٍ إلى بلد يتمتع بالحقوق السياسيّة كافّة، وحقّ تولِّي الوظائف العامّة؛ لكونه مولودًا فيها، أو حاصلاً على جنسيتها، فيتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات.

ولما اطلع صاحبي على ما ذُكر من كلام في المواطن والوطني، سألني ماكراً:

وما الفرق بين الجنسية والوطن؟

وهنا صرخت بوجهه:

أرى أنك تريد أن تضرب بوجهي أموراً كثيراً، لتجعلني ثائراً، فائراً.

فضحك، وقال:

أريد أن تتعرّف على جنسيتك، وما قيمة أي جنسية في هذا الكون.

فقلت أعود إلى المعجم فأرى: والجِنْس: الضَّرْبُ [النوع] مِنَ الشَّيْءِ. وَهُوَ مِنَ النَّاسِ وَالطَّيْرِ وَالْأَشْيَاءِ جُمْلَةً، ثم أصبح الوطن جنسية الشخص، فإليه ينسب، فالجنسية: الصّفة الَّتِي تلْحق بالشخص من جِهَة انتسابه لشعب، أَو أمة، وتجنّس الشخص: اكتسب جنسيّة دولة، وانتسب إلى غير أصله.

فقلت: وما تعني كلمة الجنسية؟

فقال: الجنسية: روابط مشتركة تجمع بين أفراد الشعب، كالاشتراك في الأصل أو اللغة أو العقيدة، فهي هوية وطنية أو قومية لشعب من الشعوب أو لدولة من الدول.

$ $ $

 

21-

بعد أن تحدثت مع صاحبي عن الجديد في المجتمع الإسلامي والعربي، قلت في نفسي سأسأله عن أمور حديثة عصرية، لأرى كيف يكون جوابه، وفي نفسي شعور بالرهبة من سخرياته وقفشاته [القَفْشُ: ضَرْبٌ من الأكْلِ شديدٌ، والخُفُّ القصيرُ، وسُرْعَةُ الحَلْبِ، وأخْذُ الشيءِ، وجَمْعُه، والنَّشاطُ، والضَّرْبُ بالعَصا وبالسيف]، وكدت أنتهي من هذه الأفكار، وإذ بي أحسّ بشيء يغطّي عينيّ، وتذكرت أننا كنا صغاراَ، وإذا رأى أحدنا من بعيدٍ صاحباً له لم يجتمع به منذ وقت طويل، أتاه من خلفه، واحتضنه، ووضع يديه على عيني صاحبه، ويسأله من أنا.

فقلت في نفسي: هذه أول القفشات.

وصرخت: اتركني فقد عرفتك.

فضحك، وخلّى سبيلي [خَلَّى سبيلَه: أطلق سراحَه، وغالبًا ما يكون بعد احتجاز]، وقال:

ماذا أعددت ليَ الآن؟

فقلت: حدثتني كثيراً عن الوطن، حتى أحسست أنني بلا وطن.

فضحك وشمخ [شَمَخَ الجَبَلُ: عَلاَ، وطَالَ، وشمخ الرَّجلُ بِأَنْفِهِ: تَكَبَّرَ]، وقال:

دعك من هذا، وأخبرني ماذا تريد الآن؟

فقلت: أرى أن تعلمني من هو المُواطن.

فقال: حباك الله [أي: أعطاك وأكرمك، يقال: حَبَا الرجُلَ حَبْواً: أَعطاهُ، والحِباءُ العَطاء بلا مَنٍّ ولا جَزاءٍ، وقيل حَبَاه أَعطاه ومَنَعَه، وحَبَوْته أَحْبُوه حِباءً، ومنه أخذت المُحاباة، وحابَيته في البيع مُحاباة، والحِباءُ العطاء]، فالمواطن مَنْ نَشَأَ فِي وَطَنٍ [بلد ينتمي إليه] وَاحِدٍ، وتَرَعْرَعَ فِيهِ، لَهُ حُقُوقٌ شرعية، ووطنية، وعَلَيْهِ وَاجِبَاتٌ.

فقلت: ما شاء الله، تعريف يذكرني بقول الشاعر الظريف:

كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء

فقال لي: أتعلم ما يقال لمثل هذا الكلام؟

فقلت متعجباً:

وما يقال له؟

قال: هذا تحصيل الحاصل، وهو كقولهم: وفسر الماء بعد الجهد بالماء.

ثم قال: هذا الشعر يذكرني بردّ شيخنا مصطفى صادق الرافعي ؒ ، في سخريته من بعضهم: فامتعض الآخر، وقال: مما حفظناه:

وبات يقدح طول الليل فكرته ... وفسر الماء بعد الجهد بالماء

فقال له صاحبه: ويلك يا أبله! أما -والله- لو كنتَ نفطويه، أو سيبويه، لما كنت عندي إلا جحشويه أو بغلويه...].

فقلت له: تأبى نحيزتك [النُّحازُ والنِّحازُ: الأَصل، والنَّحِيزَةُ: الطَّبِيعَةُ، فنَحِيزَةُ الرَّجُلِ طَبِيعَتُهُ] إلا أن تُدخل السخرية في كلامك.

وحاولت أن أتمالك نفسي، وأبتعد عن نزقي [النزق: خِفَّةٌ عندَ الغَضَبِ، ونزق الإِناءُ والغَديرُ: امْتَلأَ إلى رأسِه، وتَنازَقا: تَشاتَما]، وطيشي [الطَّيْشُ: النَّزَقُ وَالْخِفَّةُ، وَالرَّجُلُ طَيَّاشٌ وطائش]، وبدأت أشعر بالهدوء، والاطمئنان، فرفعت رأسي لأسأله:

فما المواطنة؟...

ولكنه تركني وذهب.

23-

ولما التقينا سألته سؤالي الذي أعددته:

ما المواطنة؟

فقال: المواطنة: عدم التمييز بين أبناء الوطن الواحد وسكانه الذين ينتمون إليه على أساس الدِّين، أو اللُّغة، أو العنصر، أو الجنس.

فقلت: هل هذا الكلام تعرفه العرب؟

فقال ضاحكاً: جيدٌ أنك تطلب التعريف العربي لهذه الكلمة..

فصحت قبل أن يستمر بالكلام فيغرقني بصفات، وشتات لا أريده [الشَتُّ المُتَفَرِّقُ، وشَتَّ الْأَمْرُ يَشِتُّ شَتًّا وَشَتَاتًا: تَفَرَّقَ، وجاء القوم شَتاتَ شَتات: متفرِّقين، فالشتات: ما تفرّق من الأمر وغيره، وأمر شَتات: متفرِّق]:

هات ما تعرفه عن .

فقال: لم يذكر العرب في كتبهم كلمة مُواطن المعروفة بالمفهوم الحديث.

قلت: إذن ماذا عرفوا؟

فقال: كانوا يتكلمون عن معناها دون مبناها.

فقلت: مثل ماذا؟

قال: انظر ماذا قال النبي ♥ في كتابه لأهل المدينة:

هذا كتاب من محمَّد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب ومن تابعهم فلحق بهم وجاهد معهم.

فهنا اعتبر المدينة هي الوطن، وسكانها بمعنى المواطنين.

قلت: وماذا غير هذا؟

فقال: الفقرة [الفقرة: انْفِرَاجٍ فِي شَيْءٍ، مِنْ عُضْوٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، ومِنه: الْفَقَارُ لِلظَّهْرِ، الْوَاحِدَةُ فَقَارَّةٌ، سُمِّيَتْ لِلْحُزُوزِ وَالْفُصُولُ الَّتِي بَيْنَهَا، ومنه أخذوها  في العصر الحديث لجُمْلَة من كَلَام، أَو جُزْء من مَوْضُوع، أَو شطر من بَيت شعر] الفقرة الثانية تقول:

إنهم أمة واحدة من دون الناس.

فقلت: وما ميزات هذه المواطنة.

فقال: تقول صحيفة المدينة هذه في إحدى فقراتها بعد أن ذكر ما للمسلمين:

وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم نفسه وأثم، لا يوتغ [لَا يُوبِقُ وَيُهْلِكُ إلّا نَفْسَهُ]  إلا نفسه وأهل بيته.

 فقلت: والله هذا أمر عجب، فهذا الكتاب يجعل سكان البلد سواء.

فقال: اسمع أقوى من هذا: 

وإن يثرب حرام جوفها [ما بين حدودها الخارجية] لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار[الجارُ: المُجاوِرُ، والذي أجَرْتَهُ من أن يُظْلَمَ، والمُجيرُ، والمُسْتَجيرُ] كالنفس غير مضار ولا آثم.

قلت: وهل حددت الصحيفة من يقوم بحكم المدينة، ويحل مشكلاتها؟

فقال ضاحكاً:

عاد إليك النزق، والعجلة، هذا في هذه الفقرة من الصحيفة:

وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله، وإلى محمَّد رسول الله e، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.

قلت: يعني أنهم سيتبعون الإسلام جميعاً.

فقال ساخراً: تأبى نحيزتك إلا ملاحقتك، ألا ترى أن أنظمة العالم كله، في دساتيرها، وقوانينها ينفذّها حكامُها، على من آمن بها، أو خالفها، وحتى من يقطن على أرضها [قَطَنَ بِالْمَكَانِ: أَقَامَ بِهِ، وَتَوَطَّنَهُ].

قلت: بلى.

قال: إذن، على كل مواطن اتباع دستور بلاده.

قلت: وهل في هذا الكتاب إشارة إلى أعداء البلد؟

فقال: فيها جملة تقول:

وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها.

قلت: لم أفهم شيئاً.

فقال: ومتى كنت...

فصرخت: تكلم دون إفساد بالقول.

فقال متبسّماً:

قد منع هذا البند اليهود من إجارة قريش، أو نصرها، فلابد من أخذ هذا التعهد لئلا تؤدي إجارتهم لتجارة قريش إلى الخلاف بينهم وبين المسلمين.

فقلت: وهل للحرب في هذه الوثيقة مكان؟

فقال: هذه الفقرة التي تقول: وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، [في الْحَدِيث «مَنْ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِدَهْمٍ» أَيْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَغَائِلَةٍ، مِنْ أمرٍ يَدْهَمُهُمْ: أي يفْجأُهم].

فقلت: وهل طبق هذا القول في عهد النبي ♥.

فقال: بل هذا المعنى كان في بيعة العقبة الثانية التي فيها:

أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ.

فقلت: وهل حدث هذا المعنى في السيرة؟

فقال: قوله ♥ في غزوة بدر:

أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ ... حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا:

يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِكَ [الذِّمَامُ: مَا يُذَمَّ بِهِ الرَّجُلُ عَلَى إضَاعَتِهِ مِنْ الْعَهْدِ، وَالْمَذَمَّةُ مِثْلُهُ، وَالذِّمَامُ أَيْضًا الْحُرْمَةُ العَهْد، والأمَانِ، والضَّمان، والحقِّ] حَتَّى تَصِلَ إِلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا...

وتكلم المهاجرون، وأحسنوا الكلام، ولكنه أصر على الاستشارة...

قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ:

وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟

قَالَ: أَجَلْ.

قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ ... فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ، فَنحْن مَعَك... لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ.

فقلت: لقد أتعبتني أكثر مما أفهمتني، هلاّ [يقال للتَّحْضيض، أي: الحثُّ على أمْرٍ بِشِدَّةٍ]، تريحني من صبواتك [صَبَا صَبْوَةً، وَصُبُوًّا، أَيْ: مَالَ إِلَى الْجَهْلِ، وَالْفُتُوَّةِ [أصل الفُتُوَّة: الشابُّ، والسَّخِيُّ الكريمُ، وفي استعيرت في العصر العباسي إلى أهل الدعارة والشر، فهم رجال العصابات أو أو المجرمين]، فأرجوك دعني أخلد إلى شيء من الراحة [أي: أركَنٌ إلى الراحة]، فقد طوّفت بي يميناً وشمالاً، حتى أصابني دوار مما تدور بي بأفكارك، وقفشاتك، سامحك الله، ورفعت رأسي لأرى أثر كلامي عنده، فوجدت نفسي مع نفسي، ولا أحد في المجلس غيري، فحمدت الله على السلامة، ولجأت إلى أحلامي.

$ $ $

 

23-

قلت لصاحبي: ما معنى كوني مواطناً؟

فقال: كون المرء مواطنًا فله حقوق وامتيازات، وبالمقابل عليه التزام وواجبات تُفرض عليه، وعليه أن يحبّ وطنه، ويخلص له، ويضحِّي من أجله، ويعمل على نصرته.

وهنا أحسست بالعرق يسربلني [السربال: الْقَمِيصُ، وَسَرْبَلَهُ، فَتَسَرْبَلَ، أَيْ أَلْبَسَهُ السِّرْبَالَ من أعلى إلى أسفل]، وكدت أشرَقُ [شرِقَ: غَصَّ، وشَرِقَ بِرِيقِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وشرِقَ بالريق وبالماء، وأخذته شرقة كاد يموت منها] فقررت أن أنطلق هارباً لا ألوي [لَوَى رَأْسَهُ وَبِرَأْسِهِ: أَمَالَهُ، وَفيه مَعْنَى الْإِعْرَاضِ, وَمَرَّ لَا يَلْوِي عَلَى أَحَدٍ، ولا على شيء، أَيْ لَا يَقِفُ، وَلَا يَنْتَظِرُ،  وَ لَوَى رَأْسَهُ، وَأَلْوَى بِرَأْسِهِ: أَمَالَهُ وَأَعْرَضَ] على شيء.

ولكن توقف صاحبي عند هذه التعريفات والفذلكات، وانتقل بي من المسؤول إلى السائل.

وسألني: هل أنت مقتنع بما سمعتَ؟

قلت: ولم لا أقتنع، وهل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا وطن، ولا مواطنين!

فقال: يعني أنك تريد أن تقنعني بالمواطنة، والعيش في الوطن الذي يحميك، ويجعلك تعيش بين مجموعة من الناس يؤمنون بما تؤمن به، ويقتنعون بما تقتنع به؟

قلت: نعم، هذا هو الصحيح.

فقال: في عصر الحضارة [الحديثة] عصروا لكم أدمغتكم، وأفرغوها من العقول، وملؤوا رؤوسكم بحشوِ مفاهيم ظاهرها كبير، وواقعها تحوم حوله المشاكل [جمع: مُشْكل، وليس مشكلة.

قلت: وما ذا يعني هذا؟

قال: فهي تلتبس [الْتَبَسَ عَليهِ الأمر: أي اخْتَلَطَ واشْتَبَه] بعوارها [العَوارُ: العَيبُ، والخَرْقُ، والشَّقُّ في الثَّوْبِ].

فقلت: ماذا تريد بهذه المعميات؟ [المخفيات على نظر العين والفكر، فالْعَمَى لا يقع إلَّا عَلَى الْعَيْنَيْنِ جَمِيعًا، وَيُسْتَعَارُ الْعَمَى لِلْقَلْبِ، كِنَايَةً عَنْ الضَّلَالَةِ، وَالْعَلَاقَةُ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ، فَهُوَ عَمٍ وَأَعْمَى الْقَلْبِ، وَعَمِيَ الْخَبَرُ خَفِيَ، وَيُقَالُ عَمَّيْتُهُ].

فقلت: وهناك كلمة (عمه) التي وصف بها القرآن الكافرين والفاسقين والظالمين.

فقال: العَمَهُ: التَّرَدُّدُ في الضَّلال، والتَّحَيُّرُ في مُنازَعةٍ أَوْ طَريقٍ، أو أن لا يَعْرِفَ الحُجَّةَ، ولذلك يعني أنه عمى العقل والفكر والقلب.

فقلت دعنا من هذا، وعد إلى ما كنا فيه.

قال: إن عدم الدقة في معرفة المصطلحات والمفردات،  أوقعكم بمفاهيم خاطئة، وأغلوطات كثيرة [غَلِطَ فِي الْأَمْرِ وغَلِطَ فِي مَنْطِقِهِ، وَغَالَطَهُ مُغَالَطَةً، وَغَلَّطَهُ تَغْلِيطًا، وَالْأُغْلُوطَةُ: ما يُغَلَّطُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ e عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ]، فيبدأ أحدكم يتحدث كما يسمع، بما لا يفهم بدقة ما يقول، فهل أوطانكم هكذا تعيشون فيها؟

وهنا صرخت بوجهه:

أرى أنك تريد أن تضرب بوجهي أموراً كثيراً، لتجعلني ثائر النفس، فائر القلب.

فضحك، وقال:

أريد أن تتعرّف على نفسك، وما قيمتك في هذا الكون.

قلت: يعني؟

فقال: الجِنْس: الضَّرْبُ [النوع] مِنَ الشَّيْءِ، وَهُوَ مِنَ النَّاسِ وَالطَّيْرِ وَالْأَشْيَاءِ جُمْلَةً، ثم أصبح الوطن [مرابض الحيوان والخَلق] في هذا العصر جنسية الشخص، فإليه ينسب، فالجنسية: الصّفة الَّتِي تلْحق بالشخص من جِهَة انتسابه لشعب، أَو أمة،  وتجنّس الشخص: اكتسب جنسيّة دولة، وانتسب إلى غير أصله.

فقلت: وما تعني كلمة الجنسية؟

فقال: الجنسية: روابط مشتركة تجمع بين أفراد الشعب، كالاشتراك في الأصل أو اللغة أو العقيدة، فهي هوية وطنية أو قومية لشعب من الشعوب أو لدولة من الدول.

قلت: هذا جيد، وأنا مقتنع به.

فقال ساخراً:

تعجبني قناعتك هذه، فالناس نسوا أنهم من أمة، مع أنهم ينسبون أنفسهم لها، ولكنهم قبلوا بكل التقسيمات التي نزلت عليهم بعد سقوط الدولة العثمانية، بل والأنكى أنكم أصبحتم أنتم حراس هذه التقسيمات، و...

فقلت: وماذا علينا أن نفعل حتى لا نقع في هذه الأغاليط، كما تقول؟.

قال: إن الشرط الأول لأي وطن أن تكون فيه حراً، حراً بعقيدتك، بتفكيرك، بدينك، بالقيام بشعائرك، وإلا فكيف تستوطنه، وتتوطنه.

فقلت: ما الذي تريد الوصول إليه؟

قال: إن لم يكن لك كل هذه الحريات، فكيف تعيش إلا عبداً ذليلاً، لا يحق لك التفكير، ولا الكلام، وما عليك إلا أن تأكل، وتخرس، وربك يقول لك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 97 - 100]

فصرخت: يكفي، يكفي.

ورحت وكأنني في سبات عميق [السُّباتُ: النَّوْمُ، أو خِفَّتُهُ، أو ابْتِداؤُه في الرأسِ حتى يَبْلُغَ القَلْبَ]، ففيه تلاحقني الأحلام السوداء، وحمدت الله أنني تخلصت من كابوس هذا الصديق [الكابوسُ: ما يَقَعُ على الإِنسانِ بالليل، لا يَقْدِرُ معه أن يَتَحَرَّكَ، وهو مُقَدِّمَةٌ للصَّرعِ]، علّني أنال شيئاً من الراحة، وح0-بعدها أعود لتعلم اللغة العربية بطريق أخرى، قد تكون خالية مما أحسُّ به من كظم [كظَمَ غَيْظَه يَكْظِمُه: رَدَّهُ، وحَبَسَهُ، وكظم البابَ: أغْلَقَهُ، وكظم النَّهْرَ والخَوْخَةَ: سَدَّهُما، وكُظِمَ: سَكَتَ، وقَوْمٌ كُظَّمٌ: ساكِتونَ].

وسوم: العدد 825