هل قرأ ترامب فاتحة السيسي؟
قراءة سورة الفاتحة في التراث الشعبي المصري، تأتي في ختام التوصل إلى اتفاق ما، حول أي شيء زواج، طلاق، تجارة، بيع وشراء، وعود بإنجاز، تعهد بصفقات، في معظم الأحيان يكون الاتفاق على ما فيه الخير والوفاق، وقد يكون في بعض الأحيان على الشر، فتجار المخدرات يقرأون الفاتحة في نهاية اتفاقياتهم، كذلك اللصوص في سرقاتهم، والراشي والمرتشي، إلى أن أصبحت الفاتحة أشبه بالعقد التحريري، أو على أقل تقدير ميثاقا، يجب عدم نقضه، ما جعلها في النهاية، تُتلى على روح الراحل عن الحياة، أو مجرد الإطاحة به من موقعه.
في تصريحات له قبل وفاته، قال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك: إن أمريكا (قريت فاتحتي) منذ عام 2005، لذا لم أزرها على مدى السنوات الخمس الأخيرة من الحكم، في إشارة إلى أن الإدارة الأمريكية اتخذت قراراً بالاستغناء عنه، أو الإطاحة به، أو عدم حمايته، لسبب أو لآخر، أوضحها مبارك بأنها مجموعة أسباب، من أهمها عدم موافقته على تبادل أراضٍ بصحراء النقب في إسرائيل، مقابل أخرى في سيناء، تستوعب فلسطينيي المهجر (وليس فلسطينيو غزة)، بما من شأنه حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حول العالم، تمهيداً للتوصل إلى اتفاق ينهي الصراع العربي- الإسرائيلي، من وجهة نظرهم، إضافة إلى مطالب أخرى، تتعلق بإقامة قاعدتين عسكريتين في مصر.
السؤال الذي يطرح نفسه بشدة هذه الأيام هو: هل قرأت الإدارة الأمريكية الحالية، برئاسة دونالد ترامب، فاتحة الرئيس عبدالفتاح السيسي، خصوصاً بعد تجاهل دعوته إلى اجتماع قادة دول الخليج بالرياض، أمس الأول، عكس ما حدث في القمة المشابهة عام 2017 خلال ولاية ترامب الأولى، وهل من المنطقي عدم تضمين القاهرة تلك الجولة، رغم الدور المصري الطبيعي، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التي هي محور الأحداث الجارية، إلا إذا كانت القضية خارج جدول أعمال الزيارة، أو ليست على جدول أعمال القمة الأمريكية- الخليجية. هناك من الشواهد الكثير، مما يمكن اعتباره، أزمة في العلاقات الأمريكية المصرية، ظهرت بوادرها، بالرفض المصري، لاستقبال فلسطينيي قطاع غزة في سيناء، ثم رفض السيسي زيارة واشنطن في فبراير الماضي، ثم رفض طلب ترامب بإعفاء السفن الأمريكية من رسوم المرور بقناة السويس، ثم التوجه المصري نحو التسلح من الصين وروسيا وغيرهما من الدول الأوروبية، وإتاحة الفرصة للاستثمارات الصينية في قطاعات مختلفة، ما دعا الصين إلى رد حاسم على الطلب الأمريكي بخصوص قناة السويس، على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية في مؤتمر صحافي قائلاً: لا جدال في سيادة مصر على قناة السويس، وحقها في إدارتها وتشغيلها، وأن الصين تدعم بحزم مصر، حكومة وشعباً، للدفاع عن سيادتها وحقوقها المشروعة. وجاء الرد الصيني بهذه القوة، رغم الصمت الرسمي المصري، تجاه المطلب الأمريكي، في سابقة غريبة شكلاً وموضوعاً، بل هناك ما هو أكثر، وهو تصريح الفريق أسامة ربيع رئيس هيئة قناة السويس، بأن الهيئة تبحث تخفيض رسوم عبور القناة لبعض الشركات بنسبة 15%، وسيتم الإعلان عن القرار خلال الأيام المقبلة، بعد تصديق رئيس الجمهورية، ما اعتبره المراقبون خضوعاً للضغط الأمريكي، خصوصاً أنه لم يحدد أو يعلن أسماء تلك الشركات، وما إذا كانت جميعها أمريكية، أم أن هناك شركات من جنسيات أخرى، خصوصاً البريطانية منها، بعد صدور تصريحات بريطانية، تشير إلى أن قناة السويس كانت مشروعاً بريطانياً في الأساس، إذا اعتبرنا أن قناة بنما كانت مشروعاً أمريكياً.
وسط كل ذلك اللغط، تدور التساؤلات حول ما إذا كان تجاهل دعوة السيسي لاجتماعات الرياض، تأتي في إطار موقف أمريكي، رداً على المواقف المصرية، خصوصاً أنه بدا واضحاً أن هناك محادثات أمريكية مباشرة مع المقاومة الفلسطينية، أسفرت عن الإفراج عن الرهينة الأمريكي الإسرائيلي عيدان إلكسندر، في اليوم السابق لبدء زيارة ترامب للمنطقة، من الواضح، حسب الأنباء المتداولة، أن قطر لعبت فيها أيضاً الدور الأكبر، بمنأى عن الدور المصري، في الوقت الذي تم فيه تغييب القاهرة عن الاتفاق الأمريكي مع الحوثيين باليمن، والتقارب مع سوريا، بالتزامن مع اهتمامات أمريكية واضحة بدولتي الجوار، السودان وليبيا.
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه دائماً يدور حول، ما إذا كانت مصر في حالة غياب طوعية عن الساحة الإقليمية، بعد الرئيس الأسبق حسني مبارك تحديداً، أم أنها حالة تغييب متعمدة، لحساب كيانات وأنظمة أخرى، ذلك أن كلا الاحتمالين يستندان إلى شواهد، أهمها في الحالة الأولى، ذلك الاستسلام المصري المقيت، في مواجهة الممارسات الإسرائيلية بالمنطقة، التي تهدد الأمن القومي من كل الوجوه، وأهمها في الحالة الثانية، ذلك التركيز الأمريكي على عواصم بعينها، ليست ضمن دول المواجهة مع إسرائيل، وليست طرفاً في الصراعات الإقليمية الأخرى.
وقد جرت العادة في الولايات المتحدة، كما كشفت مذكرات ووثائق السابقين، على أن قراءة الفاتحة على الطريقة الأمريكية، سواء تعلق الأمر بشخص أو وطن، يجب أن تكون بمشاركة الجهات الفاعلة، سواءً كانت دول جوار، أو أجهزة مخابراتية إقليمية، أو أفرادا، وقد تكون بمشاركة جماعات من داخل البلد المستهدف، أو وطن الشخص المراد، تم إعدادها مبكراً لهذا الهدف، وهو ما كشفت عنه وثائق ما تسمى ثورات الربيع العربي، وما سبقها من إعداد وتدريب دام سنوات، في عدد ليس قليلا من الدول، ما بين قارات أوروبا وأفريقيا وآسيا، ودعم الولايات المتحدة تحديداً، من خلال منظمات وتنظيمات، بل الكونغرس والخارجية الأمريكية، تحت اسم الفوضى الخلاقة. من هنا، يدور التساؤل حول مدى طبيعة واستقرار العلاقات المصرية مع دول الخليج، في ضوء توترها مع واشنطن، وفي ضوء تغاضي قادة هذه الدول عن دعوة الرئيس المصري للقاء ترامب، وفي ضوء وساطات مع اليمن وإيران والسودان، وحتى إسرائيل، دون المرور بمصر، في إطار ما يطلق عليه إعادة ترتيب المنطقة، أو الشرق الأوسط الجديد، وإلى أي مدى يمكن أن تنجح تلك الجهود دون مصر، رغم القوة العسكرية والأهمية الجغرافية، اللتين لا يمكن إغفالهما، مهما كان حجم تسارع تسلح الآخرين، ومهما ظهر من خطوط وطرق جديدة للتجارة البرية والبحرية.
يجب أن نعي، أن إدارة ترامب، ليست كغيرها من الإدارات السابقة، حتى الجمهورية منها، فيما يتعلق بالتركيز، أو تسليط الضوء على قضايا الحريات وحقوق الإنسان في هذه الدولة أو تلك، من الأنظمة المستهدفة بقراءة الفاتحة، لمجرد استخدامها في الضغط أو توقيع عقوبات، ذلك أن ترامب شخصياً، لا تعنيه هذه القضية، لسبب وحيد، هو أنه يرى أن شعوب العالم الثالث لا تستحق هذه الميزة، أو هذه الحقوق، لذا لم نعد نسمع عن تقارير الكونغرس في هذا الشأن، أو حتى تصريحات الخارجية، أو بيانات المنظمات والجمعيات الحقوقية، وغير ذلك مما كان يستخدم في السابق، كسلاح لإخضاع الأنظمة.
ورغم الإقرار بقدرات الولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها الإقليميين والدوليين، على تحقيق هدف الإطاحة بهذه القيادة، أو لي ذراع ذلك النظام، إلا أن الالتفاف الشعبي، والوحدة الوطنية، تظلان حجر العثرة، أمام أي محاولات خارجية، للعبث بهذا البلد أو ذاك، والشواهد في ذلك كثيرة، وهو ما قد يحتم على القيادة المصرية، اللجوء إلى مصالحة مجتمعية وسياسية شاملة بالداخل، تتطلب اتخاذ مبادرات شجاعة، بالإفراج عن عشرات آلاف المعتقلين، والسجناء السياسيين، وسجناء الرأي، إضافة إلى مد يد الصفح إلى عشرات آلاف اللاجئين بالخارج، ورفع الحراسة عن أموال وممتلكات هؤلاء وأولئك، إلى غير ذلك من كثير من القرارات التي يمكن من خلالها بالفعل، مواجهة التنمر الأمريكي.
وقد يرى البعض أنه قد فات أوان المصالحات، بعد مرور أكثر من عقد على القهر والتنكيل وتصفية الحسابات، وغير ذلك من مساوئ، إلا أن الأمر جد خطير، بما يستدعي المحاولة الصادقة، ذلك أن الرئيس الأمريكي خلال زيارته للمنطقة، التي تختتم اليوم، لم يطرح أي مبادرة شاملة، لإنهاء الصراع مع الكيان الصهيوني، بما يشير إلى استمرار الاحتلال كما هو، وطلب التنازلات من مصر، والعدوان على دول المواجهة كما هو، ما يؤكد أن قراءة الفاتحة أمريكياً، على أي من زعماء دول المنطقة، سيظل أمراً اعتيادياً، لن يجدي في مواجهته سوى الوحدة الداخلية، ونبذ الفرقة، والالتفاف الشعبي حول القيادة، وهو ما لا تعيه الأنظمة الديكتاتورية إلا بعد فوات الأوان.
وسوم: العدد 1126