لهذا لم تفقد المقاومة الفلسطينية حاضنتها الشعبية

إحسان الفقيه

على الرغم من أن استبسال المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة أمام الاجتياح الإسرائيلي، فاق حد التوقعات والتصورات، إلا أن المقاوم الأول والأقوى في هذه الحرب، هو الحاضنة الشعبية الصامدة الصابرة، التي أذهلت العالم أجمع بصمودها والتفافها حول المقاومة، على الرغم مما أصاب القطاع من دمار، ورغم ارتقاء عشرات الآلاف من الشهداء، ورغم تعرض هذا الشعب لشبح الموت جوعا، إضافة إلى الموت قصفا. في ورقة عمل صادرة عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، يعرّف الباحث الفلسطيني ماجد إبراهيم أبو دياك الحاضنة الشعبية بقوله: «هي مجموعة من الفعاليات والمواقف الشعبية المساندة لقضية ما، وتأتي انعكاسا لموقف أيديولوجي أو سياسي، كما تتأثر بالانتماء إلى ثقافة مشتركة، وتتسع أو تضيق حسب الظروف السياسية».

يمكننا أن نستوعب معنى الحاضنة الشعبية المتقدم، من خلال واقعة حدثت في مخيم جنين قبل بضعة أشهر، عندما تحصّن مقاومون فلسطينيون يخوضون معركة الدفاع عن جنين، بأحد منازل المخيم التي تركها أهلها.

وجد المقاومون قصاصة ورقية كتب عليها صاحب المنزل رسالة للمقاومين: «الأكل والمونة موجودات في الدار، وفي البراد، وفي باب خلفي بيطلع على حوش الجيران لو بدكم تنسحبوا، وفداكم الدار طوبة طوبة، المهم تضلكم بخير. في 700 شيكل في الفريزر لو لزمكم مصاري، الله يحميكم وياخد بيدكم».

 

الشعب الفلسطيني يدرك أن العدو هو الاحتلال الذي لم يبدأ عدوانه في السابع من أكتوبر، وإنما شرع في العدوان قبل ذلك بعشرات السنين، ومارس بحقه القتل والتشريد والحصار

هذا هو أسمى تجسيد لتعريف الحاضنة الشعبية، يظهر في الرسالة مدى تشبع الرجل بروح المقاومة، وانصهاره مع عناصره، يؤمن لهم المؤنة والغذاء والمال، ويؤمن لهم كذلك وسيلة الانسحاب حال اللجوء إليه. ومع اندلاع معركة طوفان الأقصى، وتعرض قطاع غزة لأكثر حروب القرن ضراوة، كان تعويل الاحتلال وحلفائه على الضغط على الحاضنة الشعبية لفصلها وتثويرها على المقاومة. موقف الحاضنة الشعبية مثير للدهشة، فالحرص على الحياة، غالبا ما يكون هو المحرك الأول للإنسان، يوجه سلوكياته وتفاعلاته، ففي الجانب الآخر مثلا، يثور الشعب الإسرائيلي على قيادته بسبب قضية الأسرى، الذين يهدد استمرار الحرب حياتهم، فتخلت الجماهير الصهيونية بدافع الحرص على الحياة عن كل الشعارات والقيم الصهيونية التي اجتمعت عليها، لكن الأمر مع أهل غزة مختلف تماما في هذه المعركة، فعلى الرغم من العدوان المتواصل وتدمير البنى التحتية للقطاع وتعرض أهله لكارثة إنسانية لم يمر بها الشعب الفلسطيني منذ قيام الكيان المحتل، إلا أن أهل غزة لم يعلنوا تمردهم على المقاومة. كان بإمكانهم تحت هذا الضغط أن يخرجوا في مسيرات يراها العدو والعالم أجمع تندد بحماس وأخواتها، ويعلنون البراءة من تلك الفصائل، ويتعاونون مع الاحتلال في مواجهة المقاومة، وقطعا كان هذا سيؤدي إلى إضعاف المقاومة، وإحراجها في أي حوار سياسي مع الوسطاء والخصوم والمجتمع الدولي، ويفقدها التعاطف الجماهيري، عربيا وإسلاميا ودوليا، ويظهرها على أنها كيانات تضحي بالشعب من أجل السلطة، كل هذا كان بإمكان الشعب في غزة أن يقوم به حرصا على حياته، لكن ما يحدث في غزة أمر خارج على المألوف والمعتاد، فكلما اشتدت سطوة العدوان في ظل الحصار الغاشم، ونقص مقومات الحياة، ازداد تمسك الحاضنة الشعبية داخل غزة وخارجها بالمقاومة، ويتعاظم تحديها للاحتلال، بما يثير التساؤل حول تمسك هذه الحاضنة بمقاومتها في خضم هذه الحرب الضروس، وحتى قبلها في سنوات الحصار الحالكة، التي مارس فيها الاحتلال ضغطه لينفجر سكان القطاع ضد حماس، وفي كل مرة يستشرف فيها الاحتلال الانفجار الداخلي، يكتشف فشله في فصل الحاضنة عن المقاومة.

السبب الأول في التفاف الحاضنة الشعبية حول المقاومة، هو وعي الفلسطينيين بأن العدو ليس هو المقاومة التي تقودهم في معركة التحرير واسترداد الحقوق، بعد أن تخلت عنها الحاضنة العربية، وبعد أن صار مصير وطنهم في يد سلطة أوسلو، التي تقمع روح المقاومة في المدن الفلسطينية، وتمكن لمزيد من الممارسات الصهيونية القمعية، وإلى مزيد من الاستيطان، وإلى مزيد من الخطوات التي تقطع باتجاه تهويد القدس.

الشعب الفلسطيني يدرك أن العدو هو الاحتلال الذي لم يبدأ عدوانه في السابع من أكتوبر، وإنما شرع في العدوان قبل ذلك بعشرات السنين، ومارس بحقه القتل والتشريد والحصار، وضغط على قطاع غزة بحرمانه من التواصل مع بقية الجسد الفلسطيني والعربي، وحرمانه من المرافق العامة، والاعتداء على القطاع من آن لآخر. يدرك شعب غزة والفلسطينيون جميعا، أن المقاومة تعبر عن طموحاتهم في التحرير الكامل، بعد أن اختزل العرب والمجتمع الدولي هذا الحق الفلسطيني في خانة «حل الدولتين» بين القبول والرفض. وأثبتت المقاومة أنها ليست أسيرة جغرافيتها، برهنت للجميع أنها ليست معنية بالدفاع عن قطاع غزة الذي تديره فحسب، بل هي معنية بكل ما يحدث على كل شبر من فلسطين، سواء ما يتعلق بانتهاكات الأقصى، أو الاعتداء على المدن الفلسطينية الأخرى.

وقد ظهر كيف تأخذ المقاومة على عاتقها التعاطي مع قضايا الفلسطينيين بقوة خلال صفقات تبادل الأسرى، فالذين استفادوا من هذه الصفقات ممن تم تحريرهم من سجون الاحتلال، كانوا من رام الله والقدس ونابلس وبيت لحم وطولكرم وجنين وقلقيلية، ولذلك لا نستغرب مظاهرات التأييد التي خرجت في رام الله وغيرها تأييدا للمقاومة وقطاع غزة. يدرك أهل غزة أنهم رغم الدمار الذي لحق بأرضهم وديارهم وأنفسهم، إلا أن غزة في ظل المقاومة هي أكثر شعوب الأرض تحررا من أسر التبعية للقوى الإمبريالية، فالمساكن والطرقات ومظاهر الحياة يمكن إعادتها، بينما لا يمكن ترميم شرخ الكرامة والعزة. تمسك الحاضنة الشعبية بالمقاومة تجاوز كونه مجرد خيار وطني يقدم المصالح العليا للوطن، إلى كونه ثأرا دائبا لا ينتهي، فما من بيت في غزة خلا من شهداء وجرحى، أصبح لذويهم مع الاحتلال ثأر، فمن ثم يرى أهل غزة في المقاومة اليد القوية التي تنال ثأرهم من الاحتلال.

من بين ما بثته كتائب القسام من مقاطع متلفزة، مقطع يقول فيه أحد المقاومين بعد استهداف آلية إسرائيلية: «هذه الضربة ثأرا لعائلتي»، فقد أصبحت قضية ثأر ممتد في المسيرة الفلسطينية. ومثل هذا الصنيع الذي بدر من ذلك المقاوم، يقودنا إلى ملمح آخر لهذه العلاقة بين الحاضنة الشعبية ومقاومتها، يجعل تلك الحاضنة تتمسك بالمقاومة وتلتف حولها، كون هؤلاء المناضلين جزءا من ذلك النسيج، هم أبناء الحارة والشارع والحي والمدرسة والجامعة والمسجد والوظيفة، لم يأتوا من خارج هذه الأرض ليقرروا مصير أهلها، بل هم الأبناء والأشقاء والآباء الذين عاشوا مع ذلك الشعب معاناته، هم مثلهم، اكتووا بالنار ذاتها، ويتوقون مثلهم إلى تحرير أرضهم وعودة المشردين خارج الوطن.

هذا الصمود الذي أبدته الحاضنة الشعبية خفف الضغط كثيرا على المقاومة ورفع معنويات عناصرها إلى عنان السماء، رغم الأسى الذي يعتصرهم ويعتصرنا ويعتصر كل حر لما يحدث بالقطاع. أفاد صمود الحاضنة الشعبية فصائل المقاومة، بأن حوّل مسار الاهتمام بوقف إطلاق النار والتفاوض على الهدن، إلى إعادة الحديث الحازم عن الحق الفلسطيني في التحرير الكامل. واليوم بينما يعرض العدو الصهيوني اتفاقا مع حماس، تفرض المقاومة شروطها الشامخة، من رفع الحصار والانسحاب الكامل وإعادة الإعمار وتأمين حياة النازحين لحين الإعمار، وغيرها من الشروط التي لا تصدر إلا عن منتصر، كل ذلك بسبب هذا الإسناد الشعبي والحاضنة التي تقف في ظهر مقاومتها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.