سعيد بن المسيب

محمد سعيد الطنطاوي

1- نسبه وسنه

أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن (بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران) بن مخزوم.

وأمه أم سعيد بنت حكيم بن أمية السلمي.

ولد – كما ترجح لدى الواقدي – لسنتين خلتا من خلافة عمر، وعاش حتى قارب الثمانين.

2- علمه

شغف بالعلم وحرص عليه: كان يقول: إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد.

درجة عالية وشهادة قاطعة: وكان يفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء.

تحدث بنعمة وفضل من الله كبير: حدث من سمع سعيداً يقول: ما بقي أحد أعلم بكل قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وعمر مني.

من أسباب علمه: أساتذة عظام: سئل الزهري: عمن أخذ سعيد بن المسيب علمه؟ فقال: عن زيد بن ثابت، وجالس سعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن عمر، ودخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة، وكان قد سمع من ابن عفان وعلي وصهيب ومحمد بن سلمة، وجل روايته المسندة عن أبي هريرة، وكان زوج ابنته.

من الأسباب أيضاً: ذاكرة مدهشة: عن عمران بن عبد الله الخزاعي قال: سألني سعيد بن المسيب فانتسبت له، فقال: لقد جلس أبوك إلي في خلافة معاوية فسألني عن كذا وكذا فقلت له كذا وكذا.

يقول عمران: والله ما أراه مرَّ على أذنه شيء قط إلا وعاه قلبه.

3- سعيد وتعبير الرؤيا

علم وفهم وفطنة: عن عمر بن حبيب قال: كنت جالساً عند سعيد بن المسيب يوماً وقد ضاقت علي الأشياء ورهقني دين فجلست إلى سعيد بن المسيب ما أدري أين أذهب، فجاءه رجل فقال: يا أبا محمد إني رأيت رؤيا، قال: ما هي؟ قال: رأيت كأني أخذت عبد الملك بن مروان فأضجعته إلى الأرض ثم بطحته فأوتدت في ظهره أربعة أوتاد. قال: ما أنت رأيتها، قال بلى أنا رأيتها، قال: لا أخبرك أو تخبرني، قال ابن الزبير رآها وهو بعثني إليك. قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك بن مروان وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة. قال عمر بن حبيب: فدخلت إلى عبد الملك بن مروان بالشام فأخبرته بذلك عن سعيد بن المسيب، فسره، وسألني عن سعيد وعن حاله فأخبرته، وأمر لي بقضاء دينين، وأصبت منه خيراً.

وقال له رجل: رأيت في النوم كأن أسناني سقطت في يدي ثم دفنتها، فقال سعيد: إن صدقت رؤياك دفنت أسنانك من أهل بيتك.

وجاءه رجل فقال: إني أراني أبول في يدي، فقال: اتق الله فإن تحتك ذات محرم، فنظر فإذا امرأة بينها وبينه رضاع.

وجاءه آخر فقال: يا أبا محمد إني أرى كأني أبول في أصل زيتونة، فقال: انظر من تحتك، تحتك ذات محرم، فنظر فإذا امرأة لا يحل له نكاحها.

وقال له رجل: إني رأيت حمامة وقعت على المنارة، منارة المسجد، فقال: يتزوج الحجاج ابن عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب.

وجاء رجل إلى ابن المسيب فقال: إني أرى أن تيساً أقبل يشتد من الثنية.. فقال: اذبح اذبح، قال: ذبحت. قال: مات ابن أم صلاء .. فما برح حتى جاءه الخبر أنه قد مات.. وكان ابن أم صلاء رجلاً من موالي أهل المدينة يسعى بالناس. وقال رجل من فهم لابن المسيب أنه يرى في النوم كأنه يخوض النار فقال: إن صدقت رؤياك لا تموت حتى تركب البحر وتموت قتلاً. فركب البحر فأشفى عن الهلكة، وقتل يوم قديد بالسيف.

وعن أحد بني نوفل بن عدي بن خويلد قال: طلبت الولد فلم يولد لي، فقلت لابن المسيب، إني أرى أنه طرح في حجري بيض. فقال ابن المسيب: الدجاج عجمي فاطلب سبباً إلى العجم، قال فتسريت فولد لي وكان لا يولد لي.

وكان يقول: التمر في النوم رزق على كل حال، والرطب زمانه رزق.

وكان أيضاً يقول: آخر الرؤيا أربعون سنة، يعني في تأويلها.

4- عزته وصلابته

ثبات حين هلع الناس، وحرص على الجماعة: عن أبي حازم قال: سمعت ابن المسيب يقول: لقد رأيتني ليالي الحرة وما في المسجد أحد من خلق الله غيري.. وإن أهل الشام ليدخلون زمراً زمراً يقولون: أنظروا إلى هذا الشيخ المجنون، وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت أذاناً في القبر ثم تقدمت فأقمت فصليت، وما في المسجد أحد غيري.

لست من حداثه: وعن ميمون بن مهران قال: قدم عبد الملك بن مروان المدينة فامتنعت منه القائلة واستيقظ، فقال لحاجبه: انظر في المسجد أحد من حداثنا من أهل المدينة؟

فخرج فإذا سعيد بن المسيب في حلقة له، فقام حيث ينظر إليه ثم غمزه وأشار إليه بإصبعه، ثم ولى، فلم يتحرك سعيد ولم يتبعه، فقال: ما أراه فطن، فجاءه فدنا منه ثم غمزه وأشار إليه وقال: ألم ترني أشير إليك؟ قال: وما حاجتك، قال: استيقظ أمير المؤمنين فقال انظر في المسجد أحداً من حداثي، فأجب أمير المؤمنين. فقال: أرسلك إلي؟ قال: لا ولكن قال اذهب فانظر بعض حداثنا من أهل المدينة فلم أر أحداً أهيأ منك، فقال سعيد اذهب فأعلمه أني لست من حداثه. فخرج الحاجب وهو يقول: ما أرى هذا الشيخ إلا مجنوناً.

فأتى عبد الملك فقال له: ما وجدت في المسجد إلا شيخاً أشرت إليه فلم يقم فقلت له: إن أمير المؤمنين قال: انظر هل ترى في المسجد أحداً من حداثي فقال: إني لست من حداث أمير المؤمنين، وقال لي: اعلمه فقال: عبد الملك: ذاك سعيد بن المسيب فدعه.

ترفع عن الرغبة والرهبة: وعن عمران بن عبد الله الخزاعي قال: حج عبد الملك بن مروان فلما قدم المدينة فوقف على باب المسجد أرسل إلى سعيد بن المسيب رجلاً يدعوه ولا يحركه فأتاه الرسول وقال: أمير المؤمنين واقف بالباب يريد أن يكلمك فقال: ما لأمير المؤمنين إلي حاجة وما إلي إليه حاجة، وإن حاجته إلي لغير مقضية. فرجع الرسول إليه فأخبره فقال: ارجع إليه فقل إنما أريد أن أكلمك، ولا تحركه، فرجع إليه فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال له سعيد: ما قال له أولاً فقال له الرسول: لولا أنه تقدم إلي فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول مثل هذه المقالة؟ فقال: إن كان يريد أن يصنع بي خيراً فهو لك، وإن كان يريد غير ذلك فلا أحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاض. فأتاه فأخبره فقال: رحم الله أبا محمد، أبى إلا صلابة

تكبر على أهل الكبر:

لما استخلف الوليد بن عبد الملك قدم المدينة فدخل المسجد فرأى شيخاً قد اجتمع الناس عليه، فقال: من هذا؟ فقالوا: سعيد بن المسيب. فلما جلس أرسل إليه، فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين. فقال: لعلك أخطأت باسمي أو لعله أرسلك إلى غيري. فأتاه الرسول فأخبره، فغضب وهمّ به. وفي الناس يومئذٍ بقية، فأقبل عليه جلساؤه فقالوا: يا أمير المؤمنين فقيه أهل المدينة وشيخ قريش وصديق أبيك لم يطمع ملك قبلك أن يأتيه، فما زالوا به حتى انفض عنه.

5- عبادته وأتباعه

من استطاع فليلحق:

روي عنه أن قال: حججت أربعين حجة. وعنه أنه قال: ما فاتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة وما نظرت إلى قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة – لمحافظته على الصف الأول – وقيل أنه صلى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة.

حرص أهل الجنة على الجماعة: اشتكى سعيد بن المسيب عينه، فقالوا له: لو خرجت يا أبا محمد إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة لوجدت لذلك خفة، قال: فكيف اصنع بشهود العتمة والصبح؟

شوق إلى الدخول من الريان: وكان سعيد بن المسيب يصوم الدهر.

تعاهد لأخلاق الإسلام: عن عاصم بن عباس الأسدي قال: رأيت سعيد بن المسيب لا يدع ظفره يطول، رأيت سعيداً يحفي شاربه شبيهاً بالحلق، ورأيته يصافح كل من لقيه، ورأيت سعيداً يكره كثرة الضحك، ورأيت سعيداً يتوضأ كلما بال، وإذا توضأ شبك بين أصابعه.

قصة زواج:

وعن عمران بن عبد العزيز الخزاعي قال:

زوج سعيد بن المسيب بنتاً له من شباب من قريش – على درهمين – فلما أسمت قال لها: شدي عليك ثيابك واتبعيني. فشدت عليها ثيابها، ثم قال لها: صلي ركعتين، فصلت ركعتين وصلى هو ركعتين، ثم أرسل إلى زوجها فوضع يدها في يده وقال: انطلق بها، فذهبت بها إلى منزله، فلما رأتها أمه قالت: من هذه؟ قال: امرأتي ابنة سعيد بن المسيب دفعها إليّ، قالت: فإن وجهي من وجهك حرام إن أفضيت إليها حتى أصنع بها صالح ما يصنع بنساء قريش، فدفعها إلى أمه فأصلحت إليها ثم بنى بها.

وابنة سعيد هذه هي التي كان عبد الملك بن مروان قد خطبها إليه الوليد لولي عهده الوليد بن عبد الملك ومناه إن قبل وهدده إن أبى، ولكنه أبى وزوجها لطالب العلم الفقير. 6- ورعه وزهده

من يستطيع هذا: عن عمران بن عبد الله الخزاعي قال: كان سعيد بن المسيب لا يخاصم أحداً ولو أراد إنسان رداءه رمى به إليه.

تقشف وفطنة وبعد نظر: عن أبي أمية مولى بني مخزوم قال: صنعت ابنة سعيد بن المسيب طعاماً كثيراً حين حبس فبعثت به إليه، فلما جاءه الطعام دعاني سعيد فقال: اذهب إلى ابنتي فقل لها لا تعودي لمثل هذا أبداً، فهذه حاجة هشام بن إسماعيل (أمير المدينة)، يريد أن يُذهب مالي فأحتاج إلى ما في أيديهم، وأنا لا أدري ما أحبس، فانظري إلى القوت الذي كنت آكل في بيتي فابعثي إلي به، فكانت تبعث إليه بذلك.

يدعو على أعداء الإسلام لا على من ظلمه:

قيل لسعيد بن المسيب ادع على بني أمية، فقال: اللهم أعز دينك وأظهر أولياءك واخز أعداءك في عافية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

زهد حتى في راتبه: وكان لسعيد بن المسيب في بيت المال بضعة وثلاثون ألفاً عطاءه. فكان يدعى إليها فيأبى ويقول: لا حاجة لي فيها حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان.

7- أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر

مصلح اجتماعي: عن ابن حرملة قال: خرجت إلى الصبح فوجدت سكراناً فلم أزل أجره حتى أدخلته منزلي، قال: فلقيت سعيد بن المسيب فقلت: لو أن رجلاً وجد سكراناً أيدفعه إلى السلطان فيقيم عليه الحد؟ فقال لي: إن استطعت أن تستره بثوبك فافعل. قال: فرجعت إلى البيت فإذا الرجل قد أفاق، فلما رآني عرفت فيه الحياء فقلت: أما تستحي؟ لو أخذت البارحة لحددت فكنت بين الناس مثل الميت لا تجوز لك شهادة، فقال: والله لا أعود له أبداً. قال ابن حرملة: فرأيته قد حسنت حاله بعد.

بالإخلاص والدعوة تستجاب الدعوة: حدث علي بن زيد قال: قال لي سعيد بن المسيب قل لقائدك يقوم فينظر إلى وجه هذا الرجل وإلى جسده، فانطلق فنظر فإذا رجل أسود الوجه، فجاء فقال: رأيت وجه زنجي وجسده أبيض. فقال: إن هذا سب هؤلاء الرهط طلحة والزبير وعلياً فنهيته فأبى فدعوت عليه فقلت: إن كنت كاذباً فسود الله وجهك، فخرجت بوجهه قرحة فاسود وجهه.

8- ما قيل فيه

شهادة عظيم لعظيم: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لرجل سأله عن مسألة: ائت ذاك فسله، يعني سعيداً، ثم ارجع إلي فأخبرني، ففعل ذلك وأخبره. فقال: ألم أخبرك أنه أحد العلماء؟ وقال أيضاً في حقه لأصحابه: لو رأى هذا الرسول صلى الله عليه وسلم لسره.

شهادة إمامين جليلين: وسئل الزهري ومكحول: من أفقه من أدركتما؟ فقالا: سعيد بن المسيب. مرجعٌ في المعضلات. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا سئل عن الشيء يشكل عليه قال: سلو سعيد بن المسيب فإنه قد جالس الصالحين.

شهادة عالم كبير: وعن ميمون بن مهران قال: أتيت المدينة فسألت عن أفقه أهلها فدفعت إلى سعيد بن المسيب فسألته.

شهادة الخليفة العالم الصالح: كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما كان بالمدينة عالم إلا يأتيني بعلمه، وأوتي بما عنده سعيد بن المسيب، وكان لا يقضي بقضاء حتى يسأل سعيد بن المسيب، فأرسل عمر إليه إنساناً يسأله فدعاه فجاءه حتى دخل، فقال عمر: أخطأ الرسول، إنا أرسلناه يسألك في مجلسك.

شهادة كبار المؤرخين: في الطبقات الكبرى لابن سعيد: قالوا وكان سعيد بن المسيب جامعاً، ثقة، كثير الحديث ثبتاً، فقيهاً، مفتياً، مأموناً، ورعاً، عالياً رفيعاً.

وجاء في وفيات الأعيان لابن خلكان: سعيد بن المسيب أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، سيد التابعين، من الطراز الأول جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع.

9- بعض كلامه

كان يقول: ما أعزت العباد نفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت نفسها بمثل معصية الله.

وكان يقول: لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم.

وقيل له: - وقد نزل الماء في عينه -: ألا تقدح عينك؟ قال: حتى على من أفتحها؟

وقال: قلة العيال أحد اليسارين. وكان يقول: لا تقولن مصيحف ولا مسيجد ولكن عظموا ما عظم الله، كل ما عظّم الله فهو عظيم حسن.

وقال برد مولى ابن المسيب لسعيد بن المسيب: ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء؟ قال سعيد: وما يصنعون؟ قال: يصلي أحدهم الظهر ثم لا يزال صافاً رجليه يصلي حتى العصر. فقال سعيد: ويحك يا برد، أما والله ما هي بالعبادة، تدري ما العبادة؟ إنما العبادة التفكر في أمر الله والكف عن محارم الله.

هدى الإسلام في تشييع الجنازة:

عن سعيد بن المسيب قال: أوصيت أهلي إذا حضرني الموت بثلاث: ألا يتبعني راجز، ولا نار، وأن يعجل بي فإن يكن لي عند ربي خير فهو خير مما عندكم.

لا يغني الطلاء عن الأساس: لما اشتكى سعيد بن المسيب واشتد وجعه دخل عليه نافع بن جبير بن مطعم يعوده، فأغمي عليه فقال نافع: وجهوا فراشه إلى القبلة ففعلوا. فأفاق فقال: من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة، أنافع بن جبير أمركم؟ فقال نافع: نعم، فقال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة لا ينفعني توجيهكم فراشي.

ومات سعيد بالمدينة سنة أربع وتسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء لكثرة من مات منهم فيها. ***

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وسوم: العدد 842