العلامة عبد الرحمن الباني

د. عدنان محمد زرزور

شيخ المربِّين وإمام المتَّقين

عبد الرحمن الباني (1)

العلامة عبد الرحمن الباني

د. عدنان محمد زرزور

-1-

دوَّنت بعض النِّقاط والذِّكريات منذ أيام، حتى أعودَ إليها وأستعينَ بها في الكتابة عن فقيد العلم والتربية وبناء الأمَّة وإعداد الأجيال الأستاذ عبد الرحمن الباني رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

ولكنني حين خَلَوتُ إلى نفسي اليوم لأكتبَ عنه، أو لأذكرَ طرفًا يسيرًا من سيرة حياته الحافلة بجلائل الأعمال - وقد قال شيخُنا الأستاذ مصطفى السِّباعي رحمه الله في إحدى حِكَمه الغوالي: الحياة طويلةٌ بجلائل الأعمال، قصيرةٌ بسَفاسفها - قفزَت إلى ذهني عبارةُ الأديب العلامة شيخ العربيَّة في مصرَ وسائر بلاد العروبة محمود شاكر رحمه الله؛ (نمط صعب ونمط مخيف) التي جعلها عنوانًا لحديث معمَّق عن قصيدة لأحد الشعراء قالها في رثاء خاله([2])! لأن هذه العبارةَ جديرةٌ بأن تُجعلَ عنوانًا لحياة هذا الفرد العَلَم الذي عزَّ نظيرُه في الحياة؛ عبد الرحمن الباني.

مَنْ مِنَ الناس يملك هذا الالتزامَ الصادق الصارم... بل المخيف؟

هذا الالتزام الذي يُريك نموذجًا يُداني في روعته وصدقه ما كان عليه أصحابُ النبيِّ الكرام صلوات الله وسلامه عليه. هل يمكنُ القول: إن هذا الالتزامَ كان عنوانَ حياة الأستاذ الباني، بل مفتاحَها الذي ندلُف به إلى رحاب هذه النفس المؤمنة الآمنة المطمئنَّة التي يُخيَّل إليك وأنت تجلس إليه، أو ترى آثارَه وأعماله في النفوس والطُّروس، أنك أمام عصرٍ من أزهى عصور الإسلام من جهة، وأمام يقينٍ جازم يصلُ الدنيا بالآخرة، أو يصلُ عالمَ الغيب بعالم الشهادة من جهة أخرى. بل الذي يرتقي في الحسِّ والشعور، إلى درجة المضاهاة والمساواة بين هذين العالمين.. حتى كأنَّ الشيخ رحمه الله يرى الغيبَ حاضرًا أمامه ومعه لا يُزاحمه عالمُ الشهادة، ولا يطغى عليه، بل لا يُدانيه ويصل إليه في درجة الإيمان والإيقان.

لعلِّي لا أُبعِد إذا قلت: لقد كان رجاءُ الله تعالى واليومِ الآخر حاضرًا في كلِّ أنفاس الشيخ التي عاشها في عالم الشهادة. بل لعلِّي لا أقول في هذا غيرَ عين الحقِّ والصواب، ولا يُزكَّى على الله تعالى أحد. لقد كانت حياةُ الأستاذ عبد الرحمن الباني درسًا بليغًا في الإيمان، ودرسًا بليغًا في التربية، ودرسًا بليغًا في المثال الحيِّ، أو المثاليَّة الواقعيَّة، وإن شئت قلت: في مثاليَّة الإسلام التي أخذت طريقَها إلى دنيا الواقع. وما زالت الحياة الإسلامية تلمَعُ في جوانبها عبر عصور التاريخ مثلُ هذه النماذج العالية الفريدة، عبرَ بعض الحِقَب تارة، وعبرَ بعض الأفراد في كلِّ الحِقَب والعصور تارةً أخرى... تُزيِّن جبينَ هذه الحياة، فتزهو وتتلالأ بهذه المثاليَّة الفريدة التي لن يخبوَ نورُها ولن يطفأَ سناها إلى يوم الدِّين.. فسلامٌ عليك أيها الشيخُ الطاهر الوَضيء المضيء يوم وُلدتَّ، ويوم متَّ، ويوم تُبعَث حيًّا.

لا أدري لماذا تُلحُّ عليَّ - مرَّة أخرى - مسألةُ الغيب والشهادة! ربما لأن المؤمنين بالغيب - وهم الأكثرون في كلِّ العصور - لا يُقيمون حياتهم في عالم الشهادة؛ في الاقتصاد والسياسة والتربية والاجتماع.. وَفقَ هذا الإيمان، وعلى قاعدة أن ما عند الله خيرٌ وأبقى. أو على أساس (معاينتهم) لعالم الغيب كما يُعاينون - أو يعيشون - عالمَ الشهادة، فضلاً عن أن يصلوا إلى درجة رُجحان عالم الغيب بوصفه الحياةَ (الحقيقيَّة) الخالدة.. ولكنَّ شيخنا الأستاذ الباني رحمه الله كانت حياتُه في هذه الأبواب وسواها من شؤون المجتمع والحياة، وفي كلِّ المواقع، وعلى جميع المستويات، محكومةً بهذا اليقين وهذا الرُّجحان.

وربما كان إلحاحُ هذه المسألة لأنها تحمل دَلالاتٍ إضافيَّةً على المرتبة أو الدرجة التي يرتقي إليها من عاش على هذا النحو أو بهذا الالتزام الصادق الصارم... وبغضِّ النظر عن أوصاف هذه الدرجة ونعوتها، أو موقعها من سُلَّم الكمال الذي أعطاه الله تعالى للإنسان. وقد فاوتَ الله تعالى في درجات هذا السُّلَّم بين الذين أنعَمَ عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين (وليس وراء هذه المراتب درجةٌ أو مرتبة)، ولهذا كان أفضلَ هذه الأمَّة بعد نبيِّها: (صِدِّيقُها) أبو بكر رضي الله عنه، ثم تلاه الخلفاء الراشدون (الشُّهداء) الثلاثة، وبهذا الترتيب: استُشهد عمر رضي الله عنه على يد مجوسيٍّ فارسيٍّ حاقد، واستُشهد عثمان رضي الله عنه على يد نفَرٍ من رَعاع الفَسَقة الفَجَرة، واستُشهد عليٌّ رضي الله عنه على يد رجل كان من أتباعه وأشياعه، ثم بغى عليه وعلى الأمَّة.

وما نحسَبُ الأستاذ الباني، العالم الربَّاني، إلا من الذين بلغوا في (الصالحين) أعلى المراتب بإذن الله، ومن موقع الغيب والشهادة، أو على قاعدة هذا التعامُل الفريد مع عالم الغيب، فالمرء يحيا - أو يعيشُ في عالم الشهادة - بغيبٍ من الغيب، أو بأمرٍ من عالم الغيب يسكنُه أو يحلُّ فيه! وهو (الرُّوح) التي وصفها الخالق بأنها من أمره، أي من شأنه وحدَه سبحانه، وأن ليس من سبيلٍ - لذلك - إلى الاطِّلاع على حقيقتها أو معرفة كُنْهِها! فإذا كان الإنسانُ يعيش في عالم الشهادة بهذا الجزء (أو الأمر) من عالم الغيب، حتى إذا افتقده انقطعت حياتُه من عالم الشهادة... فهل يسمحُ لنا هذا بالقول: إن الوجود الحقيقيَّ للإنسان (غيبي) وليس ماديًّا؟ نقول في الجواب: نعم! فإذا آمنَ الإنسان بالغيب: (الله تعالى، واليوم الآخر) فقد حقَّق لنفسه أعلى درجات الاطمئنان والسلام، بل حقَّق هذا السلامَ في أولى خُطواته وأهمِّ مراحله، وأعني سلامَ النفس والعقل، واطمئنانَ القلب والضَّمير... فإذا ارتقى هذا الإيمانُ بالغيب في عقله ووعيه وسلوكه إلى درجة الإيقان الحاسم الذي يحكُم (حياته) في كلِّ أبواب المجتمع والحياة، وإن شئتَ قلت: في عالم الشهادة.. فقد ارتقى في سُلَّم الكمال الإنسانيِّ، أو وقفَ على عَتَبة هذا الكمال الذي أعطاه الله تعالى للإنسان.

ولعلَّ هذا هو سرُّ حياة أستاذنا الباني الذي فاقَ به أقرانه، أو تفوَّق به على معاصريه! ولا يعلمُ إلا من عرفه أو عاش معه أو صحبه وتتلمذ عليه، مدى ما كان يتمتَّع به من الصِّدق والورَع والزُّهد والإيثار والعفَّة والبذل والدَّماثة واللطف والتواضُع... إلى جانب ما كان يتحلَّى به من الشجاعة الأدبيَّة العالية، والجرأة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر والمصابرة في مُقارعة الظلم ومُقاومة الباطل.

بل لعلَّ هذا هو سببُ تفوُّقه في حقل التربية، بل تسنُّمه منزلةَ الإمامة والقدوة في هذا الحقل، لأن المربِّيَ للأجيال يتعامل مع المستقبل، أو يوطِّئ لهذا المستقبل ويُعدُّ له، وقد يشهدُ بعضَ آثار عمله أو ثماره وقد لا يشهد، وهو لا يستعجل الثمرة، وقد لا يعنيه أن يراها أو لا يراها، لأنه يثقُ بما عند الله تعالى من الثواب، وإن شئتَ قلت: من الرضوان والثمرات. وأعتقد أنه ليس هنالك صفةٌ ألزم للمربِّي من هذه الصِّفة، التي يمكن أن تترجَم في هذا السياق: بنُكران الذات! ولا يبلغ هذا النُّكران غايته أو مُنتهاه إلا مع إيمانٍ بالغيب كهذا الذي عاشَ به المربِّي العظيم والباني العظيم عبدالرحمن الباني.

ويخيَّل إليَّ - وهذا خاطرٌ لم أستطع دفعَه - أن من كان هذه حالَه مع الغيب والشهادة، سوف ينشقُّ عنه قبرُه الطاهر يوم القيامة وهو على هيئته التي دُفن عليها، إن شاء الله تعالى، ونرجو ألا يكونَ في هذا الخاطر حَيفٌ أو تجاوز، ولا يعلم الغيبَ إلا الله، والله تعالى أعلم.

-2-

عرفتُ الأستاذَ الباني في مرحلة دراستي الجامعيَّة الأولى التي انقضت في العام الدراسيِّ (1959-1960م). ففي عامها الأول (1956- 1957م) كلَّفني أستاذنا أبو هاشم محمد المبارك إعدادَ بحث حول (القومية) - وكان يزعم بعض القوميين حينئذٍ أن القوميَّة ليست مرحلة! - ولم تكن المصادرُ التي جمعتُها لإعداد البحث كافيةً أو تفي بالغرَض، فنصحَني أستاذنا المبارك أن أستعيرَ بعضَ الكتب من الأستاذ الباني، فذهبت إليه في وِزارة التربية وكانت قريبةً من الجامعة، فوجدتُّه - في بعض حُجَر الموجِّهين التربويين، وكانوا يُدعَون في ذلك الحين بالمفتِّشين - جالسًا وراء مكتبه يقرأ، وأمامه مجموعةٌ من الكتب، وعلمتُ فيما بعد أنه يبدأ في كلِّ يوم بإنجاز ما يقتضيه عملُه أو وظيفتُه إنجازه، فإذا فرغ من ذلك بدأ بالقراءة.. ويغلب على الظنِّ أنه إنما كان يقرأ (في عمله أو مكتبه) في الأبواب اللصيقة بعمله، أو التي تخدُم التربيةَ والتوجيه التربويَّ، على الرُّغم من أن حقيبته التي كان يحملها كلَّ يوم فيها كتبٌ في معارفَ شتَّى. ووجدتُّ ما كنت أطلبه لديه، ومنحَني ضعفَ مدَّة الاستعارة التي طلبتُها، بشرط الالتزام بالموعد، فعلمتُ مدى دقَّته وواقعيَّته، فوق ما يلحَظُه المرء من سروره بالبحث والدرس، والطلبة والباحثين.

ثم تتلمذتُ على الشيخ عندما كنت طالبًا في السنة الثالثة (1958- 1959م) فقد انتدبه أستاذُنا أبو هاشم تغمَّده الله تعالى بالرحمة والرضوان - وكان يومذاك عميدًا لكليَّة الشريعة - ليدرِّسَنا علمَ مقارنة الأديان، فأحسن الأستاذُ الباني إلينا حين عرَّفنا الدكتورَ محمد عبد الله دراز، وأهميَّة كتُبه ومؤلَّفاته، ودرَّسَنا شطرًا من كتابه "الدِّين"، وحثَّني على اقتناء كتاب "الفِصَل" للإمام ابن حزم، وعلى التوسُّع في القراءة فيه، ففعلت. وقد وقفنا من خلال محاضراته على طرَف مهمٍّ من الآفاق المعرفيَّة والعقليَّة - وإن شئت قلتَ: الفلسفيَّة - التي كان يتمتَّع بها ابنُ حزم رضي الله عنه. وقد حَفَزني ذلك على أن أقرأَ لنفسي في هذا العام كذلك بعضَ أجزاء كتاب "ضحى الإسلام" لأحمد أمين، التي أرَّخ فيها للحياة العقليَّة عند المسلمين.. ولعلَّ حظَّنا من الإفادة من الأستاذ الباني كان يكون أوفى لو أنه درَّسَنا كذلك (الفلسفة الإسلاميَّة) إلى جانب مقارنة الأديان.

أقول هذا على الرغم من النزعة السلفيَّة - أو السلفيَّة المتشدِّدة - التي كان يُنعَت بها الشيخ، لأن هذه النزعةَ لم تكن إلا جُزءًا من منهج (الاتِّباع) الذي خطَّه لنفسه في وقتٍ مبكِّر، ومن ذلك الالتزامُ الصارم الذي أشرنا إليه؛ من جهة، ولأن السلفيَّة في فحواها الحقيقيِّ تعني التجديدَ والاجتهادَ وإعمالَ العقل، وذلك على النحو الذي ارتفع به صوتُ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، من جهة أخرى.  وأعني قوله: ((وارتفعَ صوتي بالدَّعوة إلى أمرَين عظيمَين؛ الأول: تحريرُ الفكر من قيد التقليد، وفهمُ الدِّين على طريقة سلف الأمَّة قبل ظهور الخلاف، والرجوعُ في كسب معارفها إلى ينابيعها الأولى... أما الأمرُ الثاني فهو إصلاحُ اللغة العربية)).

لقد كانت ظاهريةُ ابن حزم مجالاً للتندُّر، أو للاستغراب وبيان وجوه المفارقة! من قِبَل بعض الأساتذة، ومن خلال الإيماء العابر إلى شاهدٍ واحدٍ أو شاهدَين! ويبدو أن هذا كان فعلَ من لا يقرؤون ولا يعلِّمون، فإن أحدًا لم يسبق ابنَ حزم إلى نحو ما أصَّله أو أسَّس له من نظرية المعرفة، وإلى ما قام به من (توثيق) النصوص الدينيَّة، وبخاصَّة ما كان ينقله عن الأناجيل. بل لقد تقدَّم ابنُ حزم أو كان سابقًا لكلٍّ من حُجَّة الإسلام الإمام الغزالي، وشيخ الإسلام ابن تيميَّة في العقل الناقد، وإن شئتَ قلت: في إمامة الفلسفة النقدية في تاريخ الإسلام، وإن كانت المكانةُ التي ارتقى إليها الإمامُ الغزاليُّ فيما بعد لا يُدانيها أحدٌ في هذا التاريخ.

-3-

لقد شهد العالم الإسلاميُّ منذ حملة نابليون وبعَثات محمد علي باشا، أو منذ أن جرى افتتاحُ المدارس الحديثة والجامعات.. ألوفَ التربويين أو أساتذة التربية، وموجِّهيها بالطبع، ولكنَّ أغلبيَّتهم الساحقة لم يكونوا (مربِّين) لا بالقول ولا بالفعل، كما يُقال بلسان الفلسفة؛ لأنهم كانوا من جهةٍ: نقلةً ومترجمين، كما أنهم من جهة أخرى: لم يربُّوا بسلوكهم وأفعالهم. أما الأستاذُ الباني رحمه الله فقد بلغَ في التربية بالسُّلوك والقدوة والفعل منزلةً لا تُدانيها منزلةُ كبار أساتذة التربية، ومن كتبوا فيها الكتبَ ووضعوا فيها المصنَّفات أو دبَّجوا المقالات.

وتذكِّرُنا حالُ الأستاذ الباني في هذا بما قاله الإمام الغزاليُّ عن الصوفيَّة، عندما أقبلَ بهمَّته إليهم أو على طريقهم.. في رحلته التي تنقَّل فيها - مُختبرًا - بين أصحاب المذاهب، قال رحمه الله: ((فعلمتُ يقينًا أنهم أربابُ أحوال لا أصحابُ أقوال)). غير أن حال الأستاذ الباني لم يكن سوى التزامٍ تامٍّ وأمين، متألِّق وأخَّاذ، بالسنَّة والسِّيرة، وأن هذا الالتزامَ هو الذي ارتقى به إلى (الذَّوق والسُّلوك) اللذَين أراد الإمام الغزاليُّ أن يحصِّلَ بهما ما لا يمكنُ تحصيله بطريق العلم.

فهل يمكن القول: إن ما كان يتحدَّث عنه ويسعى إليه الأستاذُ المبارك من (تسليف التصوُّف) أو (تصويف السلفيَّة) ربما وجدَه في الأستاذ الباني! بل هل يمكن القول: إن سيرة الباني وحياته هي التي أوحت إليه بهذه الفكرة أو هذه الدعوة، أو كانت أحدَ أهمِّ أسبابها ودواعيها؟ ربما كان ذلك. رحم الله شيخَينا الجليلين.

وأذكُر هنا أو في هذا السياق أنني في عام (1961- 1962م) وهو العام الثاني الذي قضيتُه في التعليم الإعداديِّ والثانويِّ - (في إعدادية وثانوية فيق بقصبة الجَولان) - أن موجِّهَ مادَّة (التربية الوطنيَّة) - واسمه الأستاذ أحمد القادري فيما أذكر - زار المدرسةَ وحضر درسًا لمدرِّس المادَّة، وبقي في المدرسة لبعض الوقت ريثما يحينُ موعد (باص الحمَّة) كما كان يُدعى؛ لأنه يريد متابعةَ رحلته إلى هذا المَشْتى الشهير بمياهه المعدِنيَّة، وكان غيرَ بعيد عن بلدة (فيق) فاستضفتُه في إدارة المدرسة، ثم خرجنا نتمشَّى في البساتين المحيطة بالمدرسة حتى يحينَ موعدُ وصول (الباص)، وتشعَّب الحديثُ عن مادَّة (التربية الإسلاميَّة) - ربما لأنني كنت أنا الذي يتولَّى تدريسَها - فما هالني إلا والأستاذ القادريُّ - وهذا للتاريخ - يقول لي: عندما أُقرَّ تدريسُ مادَّة (التربية الإسلاميَّة) في المدارس، ولهذا الإقرار قصَّة طويلة، كنَّا نحن جميعَ موجِّهي المواد، وعددُنا اثنا عشر موجِّهًا، ضدَّ هذه المادَّة الجديدة، أما الآن فنحن جميعًا في خدمتها، أو قال: مُسخَّرون لخدمة هذه المادَّة! ثم سألني: هل تعلم السببَ؟ وأضاف: السببُ هو الأستاذ عبد الرحمن الباني الذي فرضَ علينا احترامَه واحترامَ هذه المادَّة بعلمه وسلوكه الذي لا مثيلَ له في وِزارة المعارف، وقد لا يكون له مثيلٌ في سواها فيما أعلم. ثم قال لي: هل تعلم أنه يدرِّب ويُعاون بعضَ هؤلاء الموجِّهين، بل إن التقارير التفتيشيَّة لبعضهم كان يوجِّههم في كتابتها وإعدادها؛ لأن خبرتهم في ذلك ضعيفة!

لقد كان الأستاذ الباني قدوةَ المربِّين، وأستاذَ الموجِّهين.. وكان داعيةً بأدبه وسلوكه وعمله وصدقه.. وأعتقد أن ما قام به في هذا الذي تحدَّث عنه زميلُه الموجِّه، قد لا ينجحُ فيه الألوف.. بل قد لا تنجح فيه أجيالٌ خلال عقود من الزَّمان.

-4-

عمل الأستاذ الباني للإسلام في زمنٍ من أحلك الأزمان، وإن شئتَ قلت: عمل للدَّعوة الإسلاميَّة والزمانُ مُدبِر، ثم مضى إلى ربِّه بعد رحلة طويلة والزمانُ مُقبِل.. لقد عمل لهذه النتيجة الباهرة التي بدأت طلائعُها مع ما سُمِّيَ بـ (الربيع العربيِّ) الذي لن يكونَ إلا عربيًّا إسلاميًّا، لأن العروبة والإسلام لا يفترقان، كما أن الشُّعوبية والزندقة قرينان، ورحمَ الله القائل: (وهل رأيتَ قُرَشيًّا تزندق)؟ إن أخطر التحدِّيات الداخليَّة التي يواجهُها العرب والمسلون اليومَ هي التي تستبطنُ الشعوبيَّة والزندقة، وإن رفعت عنوانًا إسلاميًّا أو رايةً إسلاميَّة، ولكنَّه إسلامُ الضِّرار لا إسلامُ المؤمنين الأبرار! وما كان عبد الرحمن الباني إلا عربيًّا صريحًا بنسبه، فصيحًا بلسانه، ومؤمنًا عميقَ الإيمان بجَنانه وجوارحه وعمله... بل هو (صِدِّيقيُّ) الشخصيَّة والملامح والمواقف.

ولعلَّ فلسفة (الاتِّباع) العميقة التي أعلنَ عنها الصِّدِّيق العظيم في أول خُطبة سياسيَّة جامعة بعد وفاة النبي ، وانقطاع الوحي وانتهاء العِصمَة، عندما قال: ((إنما أنا مُتَّبِع ولست بمُبتَدِع)) أن تفسِّرَ طرفًا آخر، أو الطرفَ الأهمَّ في سلفيَّة العلامة الباني تغمَّده الله برحمته ورضوانه.

ويحضُرني الآن طرفٌ من الخُطبة البليغة التي قالها عليٌّ رضي الله عنه في أبي بكر رضي الله عنه لمَّا قُبض وارتجَّت المدينة بالبكاء؛ فقد جاء عليٌّ كرَّم الله وجهه باكيًا مُسترجعًا وهو يقول: ((اليومَ انقطعت خلافةُ النبوَّة))، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر، فقال: ((رحمك الله أبا بكر! كنت إلفَ رسول الله وأنسَه وثقتَه وموضعَ سرِّه. كنت أولَ القوم إسلامًا، وأخلصَهم إيمانًا، وأشدَّهم يقينًا، وأخوفَهم لله، وأعظمَهم غَناء في دين الله، وأحدَبَهم على الإسلام، وأحوطَهم على رسول الله ، وآمنَهم على أصحابه، وأحسنَهم صُحبة، وأفضلَهم مناقب، وأكثرَهم سوابق، وأرفعَهم درجة، وأقربَهم وسيلة، وأشبهَهم برسول الله سننًا وهديًا، ورحمة وفضلاً، وأشرفَهم منزلة، وأكرمَهم عليه، وأوثقَهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله خيرًا)).

وجاء فيها كذلك: ((وكنتَ كما قال رسولُ الله : ضعيفًا في بدَنك، قويًّا في أمر الله، متواضعًا في نفسك، عظيمًا عند الله، كبيرًا في الأرض، جليلاً عند المؤمنين. لم يكن لأحدٍ فيك مَهْمَز، ولا لقائل فيك مَغْمَز، ولا لأحد فيك مَطْمَع، ولا لمخلوق عندك هَوادَة. الضعيفُ الذليل عندك قويٌّ عزيز حتى تأخذَ بحقِّه، والقويُّ العزيز عندك ضعيفٌ ذليل حتى تأخذَ منه الحقَّ. القريبُ والبعيد عندك سواء. أقربُ الناس إليك أطوعُهم لله... فسبقتَ والله سبقًا بعيدًا، وأتعبتَ من بعدَك إتعابًا شديدًا، وفزتَ بالخير فوزًا عظيمًا...)) إلخ.

قلت: وإذا استثنينا من هذه الكلمات ما هو خاصٌّ بالصدِّيق رضي الله عنه، فما أحراها أن تُقالَ في عبد الرحمن الباني الذي سبقَ في تأسِّيه بالهدي النبويِّ سبقًا بعيدًا، وأتعبَ من بعده إتعابًا شديدًا، وفاز إن شاء الله تعالى بالخير فوزًا عظيمًا.. رحمه الله.

لم ينقطع عنِّي الكثيرُ من أخباره وأعماله وجهوده العلميَّة، وقد وضعتُ كتابه: "مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام" بين أيدي طلاَّبي منذ أكثر من عقدين في مقرَّر (الفكر التربويِّ في الإسلام) إلى جانب كتاب الأستاذ محمد قطب. وكنت آمُل أن أشرُفَ بلقائه بعد هذا الانقطاع الطويل، ومنذ أن تفرَّقَ الكثيرُ من علماء الشام وفضلائها في الأرض، بعدما نزل بهم وبالبلاد والعباد من البلاء والمِحَن ما بات يعلمُه القاصي والداني، ولم يصِل إليَّ خبرُ نعيه إلا في وقت متأخِّر، ولكنَّ قدرَ الله غالبٌ {والله غالبٌ على أمرِه} ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

               

([1]) من كتاب "العلامة المربي عبد الرحمن الباني؛ شذرات من سيرته وشهادات عارفيه" لتلميذه أيمـن بن أحمد ذوالغـنى.

([2]) هي القصيدة المنسوبة للشاعر تأبَّط شرًّا، ومطلعها: إن بالشِّعبِ الذي دونَ سَلعٍ   =   لقَتيلاً دمُه ما يُطَلُّ

ورجَّح العلامة أبو فهر نسبة هذه القصيدة إلى ابن أخت تأبَّط شرًّا. انظر "ديوان تأبَّط شرًّا وأخباره" جمع وتحقيق وشرح علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلامي، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص44 (أيمن).