الشيخ عبد الرحمن الباني رحمه الله تعالى

صالح بن أحمد الشامي

الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد:

فإن الحديث عن الشيخ عبد الرحمن الباني- رحمه الله- مترامي الأطراف, ولا يوفيه حقه كتابة كلمات موجزة.

ومع ذلك فإني تلبية لما طُلب مني أكتب هذه الأسطر التي لا تزيد عارفيه معرفة به, ولكنها قد تفيد الذين لم يكونوا على صلة به.

كان – يرحمه الله – عالما.

وعندما أقول ذلك فإنِّي أقصد مفهوم الكلمة بمعناها التراثي, حيث لم تطلق إلا على من ألمَّ بعلوم عصره.

فلم يكن علمه محصورا في دائرة تخصص محدود, بل كان على صلة ومعرفة بعلوم العصر, ومن أتيح له حضور مجالسه عرف هذا, فقد كانت هذه المجالس تلبي حاجة المجتمعين على اختلاف تخصصاتهم. وكثيرا ما استفاد الواحد منهم معلومةً ما في تخصصه ذاته.

وقد رافق هذا العلم تواضع جمٌّ. وهذا أمر غير مستغرب, فالعالم الحق هو الذي كلما ازداد علمه ازدادت خشيته, كما قال تعالى " إنما يخشى الله من عباده العلماء" والتواضع ثمرة من ثمرات الخشية.

ومن صفاته – رحمه الله – أنه كان عف اللسان, نظيف المجلس.

هذا ما رأيت ذكره على الإجمال, وأضيف إلى ذلك بعض المواقف التي تعطي بعض التصور عن سلوكياته رحمه الله.

كان ذلك عام 1958م عندما عُينت مدرِّساً في محافظة السويداء، وذهبت إلى الشيخ عبد الرحمن الباني الذي كان المسؤولَ عن مادة التربية الإسلامية في وزارة التربية والتعليم.. وقابلته للحصول على كتاب التكليف لمباشرة عملي.. وفوجئت عندما قرأت هذا الكتاب أن عملي سيكون بعضُه في بلدة "صلخد" وبعضُه الآخر في بلدة " شهبا" ولم أناقش الموضوع، ولكني حملت الكتاب, وذهبت به إلى السويداء، حيث قدمته إلى مدير التربية والتعليم هناك.. ولما قرأه قال لي: هذا أمر غير معقول!، والشيخ عبد الرحمن لا يعلم صعوبة المواصلات عندنا، ولذلك يحسن أن ترجع إليه، فليجعل كتاب التكليف في مكان واحد.

وفرحتُ بما قال مدير التربية، ولكنْ قبل عودتي حاولت التعرف على هاتين البلدين، فتبين لي أن صلخد تبعد قرابة أربعين كيلا عن السويداء، وأن شهبا تبعد قرابة عشرين كيلاً في الاتجاة المقابل...

وفي مقابلتي للشيخ قال لي جملة واحدة.. عدتُ على أثرها إلى مدير التربية في السويداء لأقدم له الكتاب نفسَه... وقلت: إن الشيخ مصرٌّ على ما في الكتاب، فقال لي: نحن نستطيع تجاوز الشيخ, فاختر إحدى البلدين حتى أوجهك إليها..

فقلت: أنا قانع بوجهة نظر الشيخ، فقال: إذا كان الأمر كذلك، فاعلم أنّا لا نستطيع أن نصرف لك أي تعويضات مقابل ذلك، وأنك ستتحمل تلك النفقات، فقلت: لا بأس.

وباشرت عملي، وبعد دراسة حركة المواصلات إلى صلخد ومنها، وإلى شهبا ومنها، ثم ترتيب العمل، في أن أكون في صلخد أيام السبت والأحد والاثنين، وبعد انتهاء الدوام يوم الاثنين، أذهب إلى السويداء، وأبيت في فندقها الوحيد تلك الليلة، وفي صباح يوم الثلاثاء أنطلق في أول حافلة تنطلق إلى شهبا.. لأدرك فيها الساعات الثلاث الأخيرة من الدوام المدرسي، وأبيت تلك الليلة في شهبا لأتمم الساعات المكلف بها يوم الأربعاء، وعند انتهاء الدوام أتجه إلى موقف الحافلات لأعود إلى السويداء.

وهكذا هي الحركة في كل أسبوع، ولقد ألفتُ أن يكون في الحافلات - وهي من نوع ( لاندروفر) - الغنم والماعز مع الركاب.

لقد كانت حركة متعبة جسمياً ومادياً, حيث كانت أجرة الفندق والسكن في الشهبا والمواصلات تصل إلى ربع الراتب تقريباً.

وقد يتساءل القارئ عن هذه الجملة.. ومن حقه ذلك، ولكنه ليته يفكر فيما عسى أن تكون هذه الجملة... فإن اهتدى إليها فقد نجح في الاختبار.

قال لي عندما عدت إليه وقد أبلغته قول مدير تربية السويداء: يا أستاذ نحن دعاة ولسنا موظفين.

 نحن دعاة ولسنا موظفين.. مازال صداها في أذني حتى الآن.

في نهاية كل عام دراسي, وبعد اختبار الشهادات، يدعى المدرسون في دمشق والأماكن القريبة منها لتصحيح أوراق الاختبارات، وكانت ثانوية جودت الهاشمي هي المكان المعد لذلك، حيث تكون كل لجنة في غرفة أو أكثر. فالرياضيات في مكان والفيزياء في مكان وهكذا..

وفي اليوم الأول تكون الساعة الأولى لتوزيع اللجان واستلام موازين الدرجات من قبل كل مدرس ويبدأ العمل.

هذه هي الطريقة في كل المواد إلا مادة التربية الإسلامية التي كان يرأس لجانها الشيخ الباني - رحمه الله - فهناك طريقة أخرى.

حيث كان يجمع المدرسين في مكان واحد، ثم تُوزع أوراق الأسئلة على المدرسين ومعها موازين العمل.

وتكون الخطوة الأولى هي قراءة السؤال الأول من ورقة الأسئلة، ثم قراءة الإجابة النموذجية، وهي ما جاء في الكتاب المقرر حول ذلك السؤال، ثم السؤال الثاني والثالث وهكذا.

وخلال ذلك تتبين النقاط الرئيسية في الإجابة على كل سؤال، والدرجات المقررة لها... وذلك ما توضحه ورقة الميزان, أو ما يسمى أيضاً سلَّم الدرجات.

 والغاية من هذه الخطوة أن تكون الأسئلة والإجابة عليها واضحة أمام جميع المدرسين، إذ ليس كل منهم يدرِّس جميع الصفوف.

ثم تأتي الخطوة الثانية, وهي تصحيح ثلاث ورقات إجابة، تؤخذ عشوائياً من أوراق الطلاب، حيث كان يقرأ الشيخ إجابة الطالب فقرةً فقرة، وكل منا يضع الدرجة المناسبة على ورقة أمامه.. ثم يناقش المدرسين في الدرجات التي وضعوها.. وهنا قد تختلف التقديرات, فيناقش هذا الاختلاف, وهكذا حتى يتم تصحيح الورقات.

إن هذه المناقشات كانت تقرِّب وجهات النظر, وتجلي الأمر في تقدير الدرجة المناسبة لكل فكرة, بحيث يكون التصحيح يسير على مستوى واحد لدى جميع اللجان.

كانت هذه العملية تستغرق الساعات وربما مضى اليوم الأول قبل مباشرة العمل الفعلي..

كانت الغاية التي يهدف إليها الشيخ - رحمه الله - ألّا يظلم طالب حقه ولو بجزء من الدرجة، وأن يكون التصحيح بميزان واحد وإن تعددت اللجان.

كنت أدرس في ثانوية دوما. وفي أحد الأيام تسلَّمت من الإدارة دعوة إلى مديرية التربية والتعليم بدمشق بعد عصر يوم من الأيام.

وذهبت إلى المكان المحدد في الوقت المحدد، وإذا بالمكان وقد حضر إليه جميع مدرسي مادة التربية الإسلامية في دمشق وضواحيها.

وحضر الشيخ الباني، فألقى كلمة قصيرة، خلاصتها أن كتب التربية الإسلامية بحاجة إلى مراجعة وتعديل، وأن الوزارة ليست على استعداد لإنفاق أي مال في هذا السبيل، ولذا قرر الشيخ أن يقوم بالعمل بمساعدة المدرسين الراغبين في التطوع والمساهمة بهذا العمل.     

ثم ختم حديثه بقوله: فمن كانت ظروفه مساعدة على المساهمة في هذا العمل, وله الرغبة في ذلك فليبقَ في مكانه، ومن كانت أموره لا تساعده على ذلك فإنه يشكر له حضوره، وبإمكانه أن ينصرف متى رغب ذلك.

ولم يخرج أحد، وثبت الجميع, كلٌّ في مكانه، وعندها قام الشيخ بتقسيم المدرسين ضمن ست لجان، كل لجنة تراجع كتاباً.

وكان من نصيبي ونصيب اللجنة التي كنت أحد أفرادها مراجعة كتاب الصف الثاني المتوسط.

وهكذا كان يعمل الشيخ ويبذل الجهد في سبيل الوصول إلى الأفضل والأحسن متجاوزاً " الروتين الرسمي " عندما لا يتوفر له.

تلك بعض المواقف التي شهدتُها.. ومواقفه وأعماله كثيرة كثيرة، وفي هذه النماذج من الدلالة ما فيها.

رحم الله شيخنا وأسكنه فسيح جناته، وجعله في عباده الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.