سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" (16)

سطور من حياة الإمام المجدد

"حسن البنا" (16)

بدر محمد بدر

[email protected]

وفي منطقة "جباسات البلاح" في صحراء "الإسماعيلية", تكونت شعبة أخرى, بعد أن حمل عمال الجباسات الفكرة عن "إخوان" الإسماعيلية, وزارها "حسن البنا" وبايع الإخوان هناك على العمل من أجل نصرة الإسلام, ولا تذكر جباسات البلاح.. إلا ويذكر معها المجاهد الشيخ الشهيد محمد فرغلي, العالم الأزهري المعروف بـ "الشيخ الجنرال" الذي تمثلت فيه شخصية الأخ المسلم المنتسب لهذه الدعوة في تلك الفترة المبكرة, من قوة في الحق, وعزة في النفس, ووضوح في الهدف, واعتزاز بالدين, وثبات على المبدأ, وتضحية في سبيله, وثقة فيما عند الله تعالى, وقد أفرد له الأستاذ "البنا" في "مذكرات الدعوة والداعية" مساحة مهمة أشار فيها إلى تفاصيل شخصيته ومواقفه, ليبرهن على مدى تمكن الدعوة الوليدة من نفوس أبنائها الأوفياء, وما أحدثته من أثر, وما غيرته من سلوكيات.

عقبات وعقبات:

وبالرغم من أن مفهوم الأخوة والحب في الله والعمل في سبيل الله, كان هو السمة الغالبة, التي تميز المنتمين إلى "الإخوان المسلمين", وهناك عشرات الأمثلة التي تؤكد هذا المعنى, في تلك المرحلة المبكرة, إلا أن الدعوة والداعية واجها معوقات كثيرة, ومتاعب جمة, وبالرغم من نجاح الأستاذ "البنا" في أن يشق طريقه, وسط الخلافات والنزاعات الفقهية الصعبة وقتئذ, وهو دليل نجاح ولا شك, إلا أن الابتلاءات والفتن التي واجهته كانت كبيرة, منذ أن بدأ يخطو خطواته الأولى, نحو بناء مسجد ودار للإخوان, وأدت إلى تراجع صاحب الأرض عن بيعها, كما أسلفنا, لكن الإخوان تجاوزوا هذه العقبة باختيار أرض بديلة حققوا بها هدفهم, وهناك أمثلة أخرى على كثرة العقبات, أما الاتهامات الشخصية التي تعرض لها الداعية الشاب فكانت كثيرة وغريبة ومضحكة في آن واحد..

منها أن البعض أرسل عرائض مجهولة إلى السلطات المحلية بمدينة الإسماعيلية, بل وصل بعضهما إلى إسماعيل صدقي نفسه, وكان رئيس الوزراء آنذاك, متهمين الأستاذ البنا بأنه "شيوعي متصل بموسكو, ويستمد المال من هناك, لأنه يبني مسجداً وداراً, ويصرف على جمعية ودعوة, ولا يكلف الناس مالاً, فمن أين له هذا؟!".. وكانت "بدعة" الشيوعية في ذلك الوقت "موضة جديدة" في مصر والمنطقة العربية, بالإضافة إلى اتهامات أخرى منها أنه "وفدي" يعمل ضد النظام الحاضر (الحكومة الوفدية), وأنه يتفوه ضد الملك فؤاد ـ والد الملك فاروق ـ بألفاظ يستحى من ذكرها".. حتى بلغت هذه الاتهامات اثنتي عشرة تهمة!.. ونجحت هذه العرائض والشكاوى الكيدية, في إثارة الغبار حول الداعية الشاب, وحول رئيس الوزراء الشكاوى إلى وزارة المعارف العمومية ـ التي يتبعها حسن البنا ـ حيث كلفت ناظر المدرسة بالتحقيق فيها وإبلاغ الحكومة, وانتهى الأمر في النهاية بحفظ التحقيق, بل وتأثر مدير التعليم الابتدائي في ذلك الوقت, وكان اسمه "على بك الكيلاني", الذي زار "الإسماعيلية" خصيصاً لرؤية هذا الرجل "الخطير" وأعرب عن امتنانه لهذه الدعوة, ولمؤسسها, وطلب أن يكون عضواً بها..!

ومن بين الاتهامات أيضاً, تلك العريضة التي وقعها "مسيحي" يقول فيها: إنه مدرس متعصب, يرأس جمعية متعصبة اسمها "الإخوان المسلمون" يفرق بين أبناء العنصرين في الفصل الدراسي, فيتعمد إهانة التلاميذ من المسيحيين, وإهمالهم وعدم العناية بهم.. وما إن وصل الأمر إلى المسيحيين بالإسماعيلية, حتى استنكروا هذا العمل أشد الاستنكار, وزار وفد من أعيان المسيحيين, وعلى رأسهم راعي الكنيسة الأرثوذكسية, المدرسة التي يعمل بها "حسن البنا", لإعلان استنكارهم لهذا الاتهام الكيدي.

لكن أشد صور الفتن والمتاعب, التي واجهت دعوة الإخوان المسلمين في تلك المرحلة المبكرة, كانت فتنة التطلع إلى المناصب!.. هي إذن فتنة من داخل الصف, يتحرك صاحبها يميناً وشمالاً, يتحدث ويؤثر ويقنع, دون أن يواجه مباشرة.. والصف لم يكتسب بعد من الخبرة, بما يؤهله لمواجهة هذا النوع من المشاكل.. وأيضاً هذا النوع يأخذ وقتاً طويلاً حتى يتم اكتشافه واستئصال وعلاج آثاره..

والموضوع هنا يبدأ من أن "الإخوان" في الإسماعيلية, كانوا يخشون من انتقال الأستاذ "حسن البنا" مرشد الجماعة, إلى مدينة أخرى (حيث تقوم وزارة المعارف العمومية كل فترة بنقل المدرسين من منطقة إلى أخرى), وأدرك "حسن البنا" هذا المعنى, وربما كان يفكر أيضاً في أنه قد أدى دوره في هذه المدينة, وأن بقاءه فيها لم يعد مفيداً للدعوة, بالصورة التي يرجوها لها, فرشح خليفة له يقوم بمسئولياته تجاه إخوانه, ورحب الإخوان بذلك, وما أن طرح الأستاذ المرشد اسم الشيخ علي الجداوي, وهو رجل بسيط وصفه "حسن البنا" بأنه "من أفضل الإخوان خلقاً وديناً, وعلى قدر مناسب من العلم والمعرفة وحسن التلاوة لكتاب الله، جيد المشاركة في البحث, دائم الدرس والقراءة, إضافة إلى أنه من أسبق الناس استجابة للدعوة, ومن أقربهم إلى قلوب الإخوان, وأحبهم إليهم.. "

والمتأمل للفقرة السابقة, يمكنه أن يتعرف على صورة المسئول أو القائد, كما يراها حسن البنا, وكما تراها حركة الإخوان المسلمين، وما أن طرح الأستاذ المرشد اسمه حتى وافق عليه الإخوان بالإجماع "في فرح شامل وسرور عجيب بهذا الاختيار" واقترح بعضهم أن يترك الشيخ الجداوي عمله ـ وقد كان نجاراً له دكان خاص به ـ وأن يعين إماماً لمسجد الإخوان, وتصرف له مكافأة تكفيه من مال الدعوة, حتى يستطيع أن يؤدي عمله على أكمل وجه.

ووافق الإخوان على هذا العرض, واستحسنه الأستاذ البنا, لأنه "يؤمن بفائدة التفرغ للعمل (الدعوي)".. ونتوقف هنا أمام هذا الفهم العالي, الذي أدركه مؤسس هذه الدعوة, وآمن به منذ خطواته الأولى, فإذا كان طبيعياً أن يهب غالبية الإخوان فضول أوقاتهم أو أكثر قليلاً للدعوة, إلا أنه لابد من وجود البعض ممن يهب وقته وجهده كله للدعوة, وينفق عليه من مالها في غير إسراف أو تقتير, والتفرغ للعمل الدعوي ـ إذا أحسن الاستفادة منه وتوظيفه ـ يؤدي إلى نتائج باهرة في وقت قصير, ويعالج مشكلات في مهدها, ويحمي الجماعة من التقصير في بعض واجباتها, والقيادة التي لا تؤمن بالتفرغ, أو التي لا تحسن توظيفه, تخسر الكثير والكثير.