سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" 10

سطور من حياة الإمام المجدد

"حسن البنا" ( 10 )

بدر محمد بدر

[email protected]

وقبل الحديث عن هذا الاجتماع المبارك.. اجتماع تأسيس الإخوان المسلمين, نشير إلى أن هذه الجهود التي استغرقت "حسن البنا" استغراقاً كاملاً, لم تحل بينه وبين متابعته الدائبة لحركة التيار الإسلامي واتجاهاته في القاهرة, على ضعفها، فكان على صلة تامة بمجلة "الفتح" التي شارك في تأسيسها, وحرص على التعريف بها ونشرها في مدينة الإسماعيلية, والإكثار من مشتركيها باعتبارها شعاع النور الأول, الذي يسير العاملون للحركة الإسلامية في ضوئه، وشارك بالكتابة فيها لأول مرة في العدد رقم 100, الصادر في يوم 25 من ذي الحجة 1346هـ ـ الموافق 14 من يونيه 1928م تحت عنوان "الدعوة إلى الله"، أي بعد عاملين كاملين من صدورها.

أيضا كان "حسن البنا" على صلة تامة بمجموعة الشباب، التي تعرف إليها في القاهرة، وتعاهد معها على العمل للدعوة الإسلامية، وكان شديد الإحساس بالسعادة والفرح حينما قرأ في أحد الأيام، نبأ الاجتماع الأول لتكوين جمعية "الشبان المسلمين" واختيار عبد الحميد بك سعيد –رحمه الله- رئيسا لها، فكتب فورا إلى رئيس الجمعية الجديد مهنئاً، ومعلنا اشتراكه فيها، وواظب على دفع الاشتراك ومتابعة خطواتها بعد ذلك، وألقى فيها أول محاضرة مهمة له في القاهرة، في نادي الشبان المسلمين بشارع مجلس النواب (مجلس الشعب الآن) تحت عنوان "بين حضارتين".. وظل يكن تقديراً لرجالها المؤسسين, والعاملين فيها طوال حياته, بل إنها كانت آخر مكان وطئته قدماه, قبيل استشهاده في 12 من فبراير عام 1949, بعد اجتماع سياسي لحل الأزمة بين الحكومة والإخوان.

تأسيس وانطلاق:

في إحدى الليالي المباركة, زار "حسن البنا" في بيته, ستة من شباب مدينة الإسماعيلية, الذين تأثروا بدروسه ومحاضراته وخواطره الإيمانية, التي كان يلقيها في المقاهي والنوادي والزوايا, وجلسوا يتحدثون إليه في قوة وفتوة وحماسة وصدق.. لم يكن هؤلاء الشباب من طبقة المثقفين, الذين حصلوا على شهادات عليا, أو درسوا في مراحل متقدمة, ولم يكونوا من طبقة الأعيان والكبراء والوجهاء, أو من أصحاب السلطة والمال والنفوذ, بل كانوا من بسطاء الناس ومن أعماق المجتمع, يحترفون المهن المتواضعة.. هؤلاء الستة هم: حافظ عبد الحميد ويعمل نجاراً, وأحمد الحصري ويعمل حلاقاً, وفؤاد إبراهيم ويعمل كواءً (مكوجياً), وعبد الرحمن حسب الله ويعمل سائقاً, وإسماعيل عز ويعمل بستانياً (فلاحاً), أما آخرهم فكان زكي المغربي ويعمل في إصلاح وتأجير الدراجات الهوائية (عجلاتي).. لكن جذوة الإيمان إذا خالطت القلوب, وامتلأت بها الجوانح, واستسلمت لها النفوس, صنعت الأعاجيب.. ولعل هذا المعنى هو أحد الخصائص التي تميزت بها دعوة الإخوان المسلمين, على طول تاريخها المديد, وشاء الله سبحانه أنه تكون اللبنة الأولى في هذا البناء السامق من تلك النوعية البسيطة, الأقرب إلى حياة الفطرة السليمة..

لقد نجحت دعوة الإخوان المسلمين منذ البداية في أن تصل إلى عمق المجتمع, وأن تحتويه وأن تتمدد في داخل طبقاته كلها، وكل فرد له فيها دوره ورسالته ومكانته, وليس المثقف بمتقدم على الأمي, ولا أستاذ الجامعة بمتقدم على الفلاح, إلا بتقواه لله, والتزامه وصدقه وبذله وعطائه, وهي إحدى خصائص دعوة الإسلام العظيم, حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعربي فضل على أعجمي, ولا لأبيض على أسود, إلا بالتقوى".

تحدث الشباب الستة في جلستهم المباركة, يخاطبون الداعية الحكيم: "لقد سمعنا ووعينا وتأثرنا, ولا ندري ما الطريق العملية إلى عزة الإسلام وخير المسلمين, ولقد سئمنا هذه الحياة, حياة الذلة والقيود, وها أنت ترى أن العرب والمسلمين في هذا البلد, لا حظ لهم من منزلة أو كرامة, وأنهم لا يعدون مرتبة الأجراء التابعين لهؤلاء الأجانب, ونحن لا نملك إلا هذه الدماء, تجري حارة بالعزة في عروقنا, وهذه الأرواح تسري مشرقة بالإيمان والكرامة مع أنفسنا, وهذه الدراهم القليلة من قوت أبنائنا, ولا نستطيع أن ندرك الطريق إلى العمل كما تدرك, أو نتعرف السبيل إلى خدمة الوطن والدين والأمة كما تعرف, وكل الذي نريده الآن, أن نقدم لك ما نملك لنبرأ من التبعة بين يدي الله, وتكون أنت المسئول بين يديه عنا, وعما يجب أن نعمل, وإن جماعة تعاهد الله مخلصة على أن تحيا لدينه وتموت في سبيله, لا تبغي بذلك إلا وجهه, لجديرة أن تنتصر, وإن قل عددها وضعفت عدتها.. ".

يا الله..! خمسة أشهر من جهد الداعية المخلص, وصبره ودعائه صنع الله بها كل هذا العمق في الفهم والإدراك، لهذه المجموعة من بسطاء الناس, وهذا الإحساس العميق بثقل الأمانة الملقاة على عاتق المسلم, مهما كان وضعه في المجتمع, وضرورة البحث عن طريق النجاة, وهذه الحماسة المتدفقة والإرادة القوية التي يحمل أصحابها أرواحهم, ويتركونها أمانة عند هذا الداعية الصادق, يفعل بها ما يرضي الله!.

إن المتأمل في سياق الأحداث, يدرك أن هذا اللقاء لم يكن وليد صدفة, ولم يأت عرضاً, أو أوجدته لحظة حماس أو تدفق إيماني مؤقت, بل هو تطور طبيعي وتدرج منطقي, كان حسن البنا يخطط له ويتمناه, ويدرك أنه لابد واقع.. دعوة عامة يتفاعل معها الناس بشكل كبير, لابد أن يتداعى منهم نفر للبحث عن مخرج أو القيام بعمل إيجابي, يتحملون فيه الأمانة, نيابة عن ألوف وملايين الناس..

وكانت جلسة روحية عاطفية نورانية, يقول عنها حسن البنا في مذكراته.. "كان لهذا القول المخلص, أثره البالغ في نفسي, ولم أستطع أن أتنصل من حمل ما حملت, وهو ما أدعو له, وأحاول جمع الناس عليه, فقلت لهم في تأثر عميق: شكر الله لكم, وبارك هذه النية الصالحة, ووفقنا إلى عمل صالح, يرضي الله, وينفع الناس, وعلينا العمل وعلى الله النجاح, فلنبايع الله على أن نكون لدعوة الإسلام جنداً, وفيها حياة الوطن وعزة الأمة", وأخذ "حسن البنا" أيديهم فوضعها فوق يده, ثم تلا قول الله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً) (الفتح: 10).