كلا إن معي ربي سيهدين

كلا إن معي ربي سيهدين

ربيع عرابي

ألقى بعضهم باللوم على القدر، الذي سلط عليهم فرعون ومكَّنه في الأرض، فالله هو مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء1، ووجه آخرون اللوم إلى موسى الذي ورطهم في هذه المواجهة غير المتكافئة مع فرعون وزبانيته، دون أن يتخذ الضمانات الكافية، ويعد العدة المناسبة : "قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ﴿١٢٩﴾" - الأعراف.

الأمة بمجموعها :

إن الأمة ليست فرداً بعينه، إذا صلُح صلحت، وإن فسد فسدت، وإذا نجا نجت، وإن مات أو قتل انتهت واندثرت، وإن اختزال الأمة بفرد منها مهما علت مكانته، وخَلُصَ معدنه في الأرض أو في السماء، هو ما أنكره القرآن الكريم على المسلمين في أحد : "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّـهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّـهُ الشَّاكِرِينَ ﴿١٤٤﴾" - آل عمران.

ولا أمة بغير قيادة :

فالقيادة الفاسدة، تصنع أمة فاسدة، وتقودها إلى حتفها والفناء : "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿٥٤﴾ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٥٥﴾ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ ﴿٥٦﴾" - الزخرف.

والأمة بوحدتها :

إن غالب مصائب الأمة عبر تاريخها إنما نجمت عن تفرق كلمتها وتناحر أجزائها ومكوناتها، فلم تُسَلَّ سيوف الخوارج إلا بعد صفين، ولم يحتل القرامطة والعُبَيديون2 ديار الأمة، ويسفكوا دماء الحجاج حول الكعبة، ويشتموا دينها وصحابة نبيها على منابر عواصمها في القاهرة ودمشق وبغداد، إلا نتيجة لتدابر وتناحر الشافعية والحنابلة، والترك والعرب والبربر، والصوفية والمحدثين.

والأمة بنفسها لا بغيرها :

الصواب مقدم على النجاح وهو طريقه ولو بعد حين :

لقد كان مصير أصحاب الأخدود الفناء حرقاً، فزال وجودهم ومُحي أثرهم من الأرض، بعد أن حفر المجرم الأخدود وأضرمت النيران فيه، وسيق المؤمنون إليه أفواجاً وجماعات، ليلاقوا مصيرهم المرعب الأليم، وحين ترددت الأم الخائفة المذعورة أمام اللهب، وتقاعست عن رمي نفسها في النار، ناداها صغيرها : "يا أماه إصبري فإنك على الحق"3.

فحين يُكسرُ حاجز الخوف، فيُؤمرُ الطاغية بالإصلاح ويُنهى عن الفساد، سيرتقي صِنو سيد الشهداء4 حمزة إلى الجنة، وتتحررُ الأمة بعده من قيودها، وتنهارُ هيبة الطاغية في نفوسها، وتزول رهبته من قلوبها، فتصرخ الأمة في وجهه واثقة ثابتة : "فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿٧٢﴾" - طه.

الوسائل من المباحات :

الأمة والنخبة :

اقتحم القادة الأبطال الصادقون5 صفوف الأعداء في مؤتة وأثخنوا فيهم، ثم نالوا شرف الشهادة في سبيل الله، لكن المجاهدين الواعين، أحسنوا اختيار الخبرة العسكرية المحنكة لقيادة المعركة، فتراجع خالد رضي الله عنه بالجيش، بعد أن أوهم العدو بوصول المدد الجارف، فحفظ كيان الجيش، وكرامة الأمة، وظفر بتسمية النبي صلى الله عليه وسلم له ولجيشه بالكرار لا الفرار.

إن اختيار الوسائل يختلف من موضع إلى آخر، ومن ظرف إلى غيره، فهناك مواطن لا يصح فيها إلا كف اليد وإغماد السيف، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بيعة العقبة، لمن استأذنه في القتال : "لم نؤمر بعد"6، وهناك مواطن أخرى لا يصح فيها إلا شهر السيوف، والإقدام ولو على الموت، كما التف المهاجرون والأنصار وأصحاب بيعة الرضوان حول نبيهم في غزوة حنين حين غشيهم الكفار.

الأمة بين هدر الطاقات وترشيدها :

 

نحو إعادة إخراج الأمة :

مفاتيح إخراج الأمة :

صناعة القادة :

تحديد الثوابت والمتغيرات :

وقديما قال قوم لوط لنبيهم : "قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ﴿٧٩﴾" - هود، فما تواضع على صحته قوم لوط وأجمعوا على فعله، فأضحى لديهم عرفا إجتماعيا، وقانونا سياسيا، ومنطقا عقليا، يظل حراما وخبيثا، وضلالا وانحرافا، مهما غلف بغلاف الحرية والمساواة، وحق الإختيار ومراعاة الأعراف.

 

تقويم السلوك السياسي :

وتجاوز عن حاطب بن أبي بلتعة لسابقته في بدر، وهو الذي راسل قريشا يخبرها بخطة الرسول صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، وعفا عن عكرمة بن أبي جهل بشفاعة زوجه أم حكيم، وقبل هند بنت عتبة، بل قبل وحشي قاتل حمزة، وخصص القرآن الكريم باباً كاملاً في الصدقات هو باب المؤلفة قلوبهم7.

إن اعتماد سياسة الشك والإتهام، والتجسس والظنون، وقذف الناس بالعمالة والخيانة، "حتى لا يأمن المرء جليسه"8، هي المنحدر الموصل إلى تفكك الأمة، وتقطيع أوصالها، وذبول أمرها، وذهاب ريحها.

وإن اعتماد سياسة التأليف بين القلوب، وقبول الناس، مع بذل الجهد في الحيطة والحذر، والتوكل على الله، هو الطريق الموصل إلى تماسك الأمة، وترابط صفوفها، وثبات أركانها، وهو ما نبه إليه القرآنُ الكريم النبيَّ صلى الله عليه وسلم  : "وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ وَكِيلًا ﴿٤٨﴾" - الأحزاب.

الحرية أساس وجود الأمة :

وإن إخراج الأمة وإحياءها من جديد، ليس فرضا لدين وعقيدة ومبدأ، فـ "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ ﴿٢٥٦﴾" - البقرة، ولا مكان للإستبداد في الإسلام، وحين رُفِعَ الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل كأنه ظُلَّةٌ، وظنوا أنه واقعٌ بهم9-10، فاستسلموا لقيادة نبيهم، وامتثلوا لأمر ربهم، غير مطمئنةٍ قلوبهم، ولا مسلمة عقولهم، كان نتاج ذلك فيما بعد، أن باعوا دينهم بالفوم والعدس والبصل، مفضلينه على المنِّ والسلوى11، وعبدوا العجل حين غابت عصا موسى، وقالوا لنبيهم : "فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴿٢٤﴾" - المائدة.

أما الدين المبني على الإختيار الحر للأمة، فسرعان ما ظهرت نتائجه في بدر، حين قال المقداد بن عمرو لما طلب صلى الله عليه وسلم المشورة من الناس : "يا رسول الله امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه"12.

إن الجهاد لا يقيمه حق إقامته إلا أفراد فهموا مبادئه لا حفظوها، وعاشوا أخلاقه لا قرأوها، وخضعوا لأحكامه لا تشدقوا بها، فالجهاد هو ذروة سنام الإسلام، فشُبِّهَ الإسلام بالناقة، والجهاد بأعلى نقطة في سنامه، فهل هناك سنام بلا ناقة، وهل هناك ناقة بلا قوائم وصدر وبطن وذيل ورقبة ورأس، فمن يكتفي بالذروة ويهمل الناقة، فلا ناقة له ولا جمل في الإسلام، ولا يعدو كونه قاتلا أو مجرما يتستر بدين الله، ومن حاز الناقة كلها أو بعضها ولمَّا يصل إلى ذروتها بعد، فقد حاز الإسلام وفاته شرف الذروة13.

الثقة بوعد الله :

 

إن نصر الله قريب :

إن معركتنا اليوم، وخصوصا في بلاد الشام، هي معركة بقاء ووجود، لا معركة مكاسب ونفوذ، فإما أن نحسن قراءة الواقع، فنصحح المسار، ونحث الخطا، ونبذل الجهد في الطريق الصحيح، وإما أن تشملنا سنة الإستبدال14-15.

وأما أبناء الأمة من المترددين والمحتارين، و الخائفين والنادمين، والمحبطين واليائسين، فليس ثمة بلسم يشفي داءهم، أو ترياق يحيي قلوبهم، ويزيل الغشاوة عن أبصارهم، إلا عصا موسى، تهدر في وجوه أولئك الضعفاء العاجزين، زاجرة آمرة : "كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ"16.

"قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢٦﴾" - آل عمران.

"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّـهِ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿٦٠﴾" - التوبة.

"وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿٩٣﴾" - البقرة.

"وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّـهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿٦١﴾" - البقرة.

"إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٣٩﴾" - التوبة.

"فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴿٦١﴾ قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿٦٢﴾" - الشعراء.