في الأدب الجاهلي..

في الأدب الجاهلي..

د. محمد عقل

[email protected]

الرسائل الإشارية في الجاهلية

عرفت الأمم القديمة والحديثة أنواعًا شتی من الإشارات، واستعملها الأفراد وسيلة من وسائل الاتصال والإبلاغ والتفاهم، وتُعدّ الرسائل الإشارية من أقدم أشكال الرسائل من الناحية التاريخية وكانت هذه الرسائل عند العرب علی شكلين:

الأول: الشكل المادي- وكان من أبرز أنواعه إشعال النيران في أعالي الجبال وعلی المرتفعات المشرفة إعلامًا بشيء ما يتفق عليه عادة بين طرفين؛ يكون أحدهما مرسِلاً و الآخر ملتقيًّا، فإذا أشعل المرسِل هذه النيران، فهم منه الملتقي المعنی المصطلح عليه بينهما. وتعـدّ النار في الليل من أهم الرسائل البصرية، ولذا كان أجواد العرب في الجاهلية يوقدون النار علی شرف من الأرض ليهتدي بها الساري إلی بيوتهم ليَفـْروه ويقوموا بحقه من الضيافة، وكانت لذلك تـُدعی "نار القِری" ، نظرًا للوظيفة التي تؤديها، وإنما هي في حقيقة الأمر رسالة بصرية بسيطة بمنزلة إرسال دعوة إلی السارين والمنقطعين من أبناء السبيل حتی يقدموا علی بيت صاحب هذه النار.

والثاني- الشكل اللغوي الذي يعتمد الرمز وسيلة لنقل معانيه، وهو من أنواع الإشارة، إذ يكون ظاهر الكلام فيه عادیًّا ساذجًا، بل يدل أحيانًا علی هذيان المرسل إلا أن يكون مضمونه عميقًا ويحتاج إلی رجل فطن ليستخرج منه المغزی المراد به. ومن ذلك ما أورده أبو علي القالي في أماليه عن رجل من بني تميم كان أسيرًا في بكر بن وائل فأرسل إلى قومه يقول:

حلّوا عن الناقة الحمراء أرحلكم*** والبازلَ الأصهبَ المعقولَ فاصطنعوا

إن الذئابَ قد اخضّرت براثنها  ***  والناس كلّهم  بكرٌ إذا  شبعوا

وهو قد أنذرهم بقوله حلوا عن الناقة الحمراء أرحلكم أي ارتحلوا عن الدهناء (الأماكن المنخفضة)، واركبوا الصمان(الأماكن المرتفعة) وهو الجمل الأصهب لأن بني بكر على وشك شن الغارة عليهم.

 

 

أيام العرب وحروبهم

بسبب شحة موارد الصحراء الاقتصادية، وانعدام السلطة المركزية في شبه جزيرة العرب نشبت بين القبائل في العصر الجاهلي وصدر الإسلام معارك شديدة عرفت في الأدب العربي بأيام العرب. ويعني اليوم، عند إطلاقه على وقائع الجاهليين، النهار دون الليل، إذ كانت هذه الوقائع تبدأ في الصباح الباكر وتتوقف عند حلول الظلام، فإذا لم تحسم نهارًا عادت لتشجر في الصباح التالي كما حدث في يوم فيف الريح إذ استمرت المعركة بين مذحج من اليمن وعامر من قيس ثلاثة أيام كانت الغلبة فيها لمذحج. ومثل ذلك حدث بين عبس وذبيان حيث تحاجز القوم ليلاً وعادوا للاقتتال غداة اليوم التالي، وفي أيام العرب أمثلة كثيرة لذلك، وكان من عادة الجاهليين الإغارة مع الصباح، ومن أشهر صرخاتهم الحربية التي يستثيرون بها الهمم "يا سوء صباحاه" يطلقها صريخهم عند إحساسه بزحف الأعداء ليعلم قومه بالخطر. وكثيرًا ما ترد كلمة الصباح والتصبيح في شعر الأيام بمعنى الإغارة. وقد سمّى الجاهليون معظم أيامهم بأسماء المواضع التي حدثت عندها كالجبال والوديان والمياه والنبات، فقالوا يوم عاقل وهو واد بنجد، ويوم الكلاب وهو اسم لماء، ويوم رحرحان وهو اسم لجبل، ويوم ذي قار وهو اسم واد متعرج.

أما الحرب فكانت سجالاً ومكونة من عدد كبير من الأيام، مثل حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس اللتين كما يُقال استمرتا أربعين عامًا.

ليس لأحد أن يعتمد على أدب أيام العرب اعتماد المؤرخ المحقق سواء أكان ذلك بالنسبة لسير وقائعها، أو تحديد تواريخ معينة لهذه الوقائع، ذلك لأن روايات الأيام قد وصلت إلينا بسبل يسهل التشكيك بها، فقد توارثها العرب جيلاً بعد جيل بطريقة المشافهة، وهي طريقة تحتمل التحريف والوضع، ثم إن هذه الأيام قد وقعت بين القبائل العربية في جاهليتها ورواتها لا بد وأن يكونوا من هذه القبيلة، أو من تلك، فكانت العاطفة القبلية، أو العصبية القبلية على وجه التخصيص عاملاً مهمًا في إبرازها بصور تبتعد عن الأصل في أحيان كثيرة،  وذلك حسب رغبة رواتها، فإن كان الراوية يمت بصلة إلى القبيلة المشاركة في اليوم فإنه يُعظّم انتصارها ويُهوّن من شأن القبيلة المناوئة، أو ينتحل الأعذار للقبيلة التي ينحاز إليها أن كانت مغلوبة، وقد وجد البعض في إغفال الطبري لأيام العرب دليل عدم الثقة بها، ومعروف أن الطبري لم يعرض إلا لأيام ذي قار وجذيمة الأبرش والزباء وطسم وجديس.