المسلم وتحديات العصر

العلامة محمود مشّوح

المسلم وتحديات العصر

 16 / 4 / 1974

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

 إن الله مع الذين اتقوا والذين همـم محسنون ، أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :

 فلولا الإلحاح الشديد والرغبة الزائدة التي أبداها كثير من الإخوة حتى كادت تصل حد الاتهام بالبخل أو التقصير ، لولا هذا لكان حبيباً على نفسي أن أكون مستمعاً لا قائلاً ، ومنذ أسابيع قلائل أحسبني شرحت لكم بعد صلاة الجمعة ما يحملني على الصمت ، ولكن الناس قلما يتفهمون دوافع الآخرين ، ومع أني كنت أميناً مع نفسي فإن هذا كله لم يقنع الإخوة بضرورة تركنا وشأننا .

 نقرأ كلنا أو بعضنا في سير سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى أنهم كانوا يفرّون من مثل هذه المواقف ، ويرونها مسؤولية صعبة ، لا يريدون أن يتحملوا أعباءها وأكلافها ، ولقد كانت تحضر الصلاة فيودّ كل واحد منهم لو كفاه أخوه ذلك ، وكانت تحضر المسألة من علم الشريعة فتراهم صموتاً يريد كلٌ منهم أن يكفيه أخوه الترجمة عن الله تعالى ، وكذلك قل في الخطبة وهي أشد . ثم ها نحن أصبحنا في زمان كاره يتدافع الناس فيه على الإمامة وينزون على المنابر نزواً ، كأنما الأمر أمر خلافة المسلمين وإمامة المؤمنين ، وذلك لا يكون إلا إذا ضعف الشعور بالمسؤولية في نفوس الموجّهين ، ثم نظرنا فإذا كلنا نقدم من أعذار ، وكل الذي نبديه من مبررات لا يشكل في نفوس إخواننا عذراً يحلّنا من أمر لا نجد صدقاً أنفسنا كفاءً له .

 يا إخوة والله إن زماناً يسمح لي ولأمثالي بالوقوف على المنابر لزمان سوء وما هو بالزمان الطيب ، فإن لله وإنا له راجعون ، هذه المرة ليكن ما أراده الإخوة وما أراده الله من قبل ومن بعد ، وأرجو أن نقول كلمات نافعات نأمل بإذن الله أن تكون لنا ولكم سبباً للتفكير في هذا الدين وفي مستقبل هذه الأمة .

 أحب أن أقول كلاماً عاماً ، فها نحن كلنا مسلمون بحمد الله ، ولعل أكثرنا أن يكون راضياً بالذي هو فيه ، ولعل أكثرنا أن يكون قانعاً بأننا نحن عليه إن لم يكن هو الإسلام الأمثل فهو على الأقل إسلامٌ مقارب . ولفت نظرٍ قليل إلى ما كان عليه سلفنا الطيب رضي الله عنهم وأرضاهم يشعركم بالفرق الهائل بين الذي نحن عليه وبين الذي كانوا عليه .. لقد كان المسلمون الأوّلون أصحاب محمد صلوات الله عليه ومن وليهم وتبعهم بإحسان يعيش هذا الإسلام في كيانهم وفي عقولهم وفي مشاعرهم وفي أعصابهم ، يتحركون من أجله ويسكنون من أجله ويتكلمون من أجله ويصمتون من أجله ، لا همّ لهم إلا أن يسود الإسلام وترتفع كلمة الله جلّ وعلا ، كان ألماً ممضّاً يسكن تلك القلوب الكبيرة ويجعل شعورها بمسؤوليتها تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين شعوراً لا يقوم له شيء ، شعوراً يمنع الكسل ويمنع الرخاوة ويمنع الإدهان في دين الله ، فيأخذون الأمر بجد ويقومون بتكاليفه بنشاط ، فإذا وضعتم هذه الحقيقة وهي حقيقةٌ بدهيةٌ من حقائق الحياة الإسلامية الأولى إلى جانب الواقع المخجل الذي يعيشه المسلمون اليوم ، رأيتم أن الفرق عظيم وأن المقارنة لا تجوز بحالٍ من الأحوال ، بينما نحن الخلائف الذين ورثوا أعظم رسـالةٍ عرفتها الإنسانية وبين روادها الأوائل الذين قيل لهم : خذوا ما أتيناكم بقوة . فوهبوا هذا الإسلام صحوهم ونومهم وسكونهم وحركتهم وكل شيءٍ فيهم ، لماذا ؟ سؤال لا بد أن يخطر بالبال ، وبداهةً ثمة فارقٌ في الموقف تجاه الإسلام بيننا وبين أولئك الرواد العظام ، ثمة فارق في الشعور بالمسؤولية ، ذلك الذي نحسه نحن واهناً ضعيفاً أقرب ما يكون إلى الموت ، وبين ذلك الذي كان يحرك تلك النفوس العظيمة حتى لو قالت لجبلٍ من الجبال : زل من مكانك لزال . ما السبب في ذلك ؟ ينبغي أن نستعرض الأمور . فقد يكون المثل أدعى إلى إدخال القناعات في أدمغة الناس ، وقد يكون الواقع التاريخي المعروف أحرى بأن يحرك كوامن الهمم في نفوس الذين تعودوا البطالة والكسل والرخاوة ولين الحياة وطراوته .

 إن هذا الإسلام قديم منذ برأ الله الكون خلق نماذج من المخلوقات ، أصنافاً وألواناً ، خلق الجمادات التي لا تحس ولا تشعر ، وبالتالي لا تفكر ولا تقدر ، فلا مسؤولية عليها . وخلق الحيوانات لها غرائز تهديها وتقودها إلى ما يحفظ عليها قوام حياتها ، ولكنها لا تملك حس التقدير والتفكير ، ومـن ثمّ فلا حساب ولا عقاب . وخلق الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، طبيعة خيّرة كلها ، لا تأتيها نوازع الشر ولا تتطرق إليها خواطر السوء ، وبذلك فهم أهل الرضوان وأخصاء الله جلّ وعلا . وخلق هذا الإنسان فركّب ما ركب فيه من غرائز ، ووضع ما وضع فيه من دوافع ، وهداه النجدين ، ومتعه بحرية الإرادة وحرية التقدير والتفكير ، وعرض الله جلّ وعلا أمانة الكون على خلقه ، فأشفقت منها السماوات والأرض والجبال ، وطُوّقها الإنسان بإرادته وبرغبته وباختياره لسابق علم الله فيه ولإرادة الله جلّ وعلا أن يتوّج به مخلوقاته وأن يعمر به كونه العريض ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ) لكن هذا الحمل كان دليل شجاعة ، وأية الإرادة المصممة التي ترغب في أن تمضي لإنفاذ أمر الله جلّ وعلا . وتنزلت كلمات الله ، فيها تكاليف الرب جلّ وعلا ، فيها أوامره ، فيها نواهيه ، فيها كل ما أراد الله جلّ وعلا لهذا الإنسان أن يأخذ به من أجل أن يتبصّر ، ومن أجل أن يتهذب ، ومن أجل أن يتكمّل . وجاءت رسل الله تترا ، وآمن من آمن وكفر من كفر ، وجاء زمانٌ طبّق الكفر وجه الأرض جميعاً ( كان الناس أمةً واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ) كان الناس أمةً واحدة ، يعني مطبقةً على الكفر متواطئةً على الضلالة ، فبعث الله أنبياءه ، مجلى رحمته ، وعنوان إرادته الخير بالناس ، فبشروا وأنذروا فآمن من آمن وكفر من كفر ، ولكن تلك الفترة التي طبّق الكفر فيها وجه الأرض ذهبت إلى غير رجعة ، وُضعت بين يدي الناس الوسـائل التي تمنع الفسـاد أن يعربد على وجه الأرض ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ) فمن رأى الحق فأخذ به وآمن واهتدى فلنفسه اختار الهداية ، ولنفسه مهد الرحمة من الله جل وعلا ، ومن ركب رأسه ففي القوة ما يؤدب النفس الباغية ويأطرها على الحق أطراً ويقيمها على صراط الله صراط العزيز الحميد .

 ومنذ ذلك التاريخ والصراع محتدم بين قوى النور وقوى الظلام ، بين أنبياء الله والداعين بمنهاجهم والسائرين على طريقهم ، وبين سائر العصابات الداعية إلى الشر والفساد والبغي والعدوان ، لم تفتر هذه العاصفة الهوجاء يوماً من الأيام ، إلى أن يتحقق موعود الله جل وعلا بسيادة هذا الإسلام وبدخول الناس جميعاً تحت لواء محمد صلى الله عليه وسلم ، وبعد ذلك يقضي الله جل وعلا قضاءه التام في هذه الإنسـانية ، وتقوم الساعة بعد أن تحقق كلمة الله تبارك وتعالى .

 أقول هذا لكي أزيل وهماً يسكن نفوساً الكثيرة ، تظن أن الزمان أصبح هو الزمان الأخير وأن الفساد لا علاج له ، نقول لا ، ما زلنا نترقب وعد الله تبارك وتعالى على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يُخبر : لتفتحن القسطنطينية ـ وقد فتحناها ـ ولتفتحن روما . ولمّا نفتحها بعد ، وسنفتحها بإذن الله تبارك وتعالى ، ويوم نفتحها ستسود كلمة الله تبارك وتعالى ، وإذاً فأي وهن وأي خور يسكن النفوس شيء لا معنى لها .

 نجيء الآن إلى أخريات الرسالات ، بعد رتل طويل من الأنبياء والمرسـلين ، منهم من قصّ الله علينا في الكتاب نبأه ، ومنهم من لم يقصص ، أرسل الله جل وعلا موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ، فقام فيهم ما قام وتحمّل منهم ما تحمّل وانصرف عنهم وهم بين مؤمن وكافر ، وتتابعت رسل الله إلى هؤلاء القوم الغلاظ الرقبة كما وصفهم المسيح عليه السلام . ثم أذن الله بأن يبتعث للناس عيسى صلى الله عليه وسلم ، فطال فترة هي كالربيع في عمر الإنسانية ، ثم رفعه الله إليه وطهّره من الذين كفروا انتظاراً للموعد الذي لا بد منه ، سُئل المسيح عليه السلام حينما بدأ يدعو : أأنت هو ؟ وأنبياء الله منذ كانت لله رسالات بين الناس يبشرون بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ، ظنوا أن عيسى هو النبي الخاتم ، قالوا له : أأنت هو النبي الموعود ؟ قال : لا ، أنا لا أستحق أن أحل سيور نعلي .

 ثم ابتعث محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أظن أنني بحاجة على أن أشرح شيئاً من وقائع البعثة النبوية ، ولكني أرجع عوداً على بدء ، لأتقرّى وإياكم أسباب الانهيار والتفسخ التي جعلت بني إسرائيل تفسد ، ثم جعلت النصارى تفسد ، ثم حملت الله جل وعلا على أن يطرد هذه الشعوب من حظيرة الإيمان وأن ينزع منها شرف القوامة على دين الله ، ليحمّلها محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته هذه الأمة المسلمة .

 نرجع إلى القرآن وهو دليلنا ومرشدنا والسفر الذي حمل شفاء العقول والقلوب ، يقول الله جل وعلا من سـورة المائدة ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ) والحديث عن اليهود ( وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقالوا الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ) تكاليف واضحة ، لئن أقمتم الصلاة فأحسنتم الصلة بينكم وبين الرب جل وعلا ، وآتيتم الزكاة فعلمتم أن ما أنزل الله من خير على الأرض فالناس فيه سواء ، لا يجوز أن يحتجمه إنسان لنفسه ، ولا يجوز أن تستعلن نوازع الأثرة والشح والكزازة والبخل حتى تُستلب حقوق الله من أجل أن تتمتع بها نفوس صغيرة في أجسام فارهة ، وإنما هو الإيثار وابتغاء من عند الله فيما يملك الإنسان والتحبب إلى عباد الله بصلتهم والإحسان إليهم .

 ( لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسـلي ) الرسل جميعاً من عند الله ، مرسـلهم واحد ، وكلام هذا الرب واحد ، لا يجوز أن تتخالف كلمات الله جل وعلا ، فلا ينبغي لأمة تتبع رسـولاً أن تكذب وتعادي أمة تتبع رسـولاً آخر ( وعزرتموهم ) أي آزرتموهم وسـاندتموهم ونصرتموهم ( وأقرضتم الله قرضاً حسناً ) ما معنى القرض الحسن لله جل وعلا ؟ الله جل وعلا أغنى الأغنياء ، ليس بحاجة إلى الدنيا وما فيها ومَن فيها ، لكن الأمر هنا له ناحية دقيقة ، حينما تُقدّم ما بين يديك ابتغاء رضوان الله ، وحينما تفعل الخير رجاء الثواب عند الله ، وحينما تحسّن نفسك وترقيها ابتغاء رضوان الله ، فأنت يقيناً تشعر بأن هذه الدار التي أنت فيها ليست دار القرار بالنسبة لك ، وأنك منقلب إلى الله جل وعلا ، وهذا يعطيك شعوراً مكثفاً وهائلاً بعدم الركون إلى الدنيا وبجعل بقائك فيها موكولاً ومربوطاً بوفائك بأوامر الله جل وعلا . فالإنسان يعيش لكي ينفّذ أمر الله ، لا يعيش لكي يأكل أكل البهائم ، ولا يعيش لكي يتمتع كما تتمتع البهائم ، وإنما يعيش ليحصل على مرضاة الله وعلى ثواب الله تعالى ، إذا فعلوا ذلك ليكفرن الله سيئاتهم عنهم .

 فهل استقامت بنو إسرائيل لأمر الله ؟ لا . قال الله جل وعلا ( فبما نقضهم ميثاقهم ) ميثاقهم هذه الأشياء التي انطوت عليها الآية التي تلوناها آنفاً . ماذا فعل الله بهم بعد أن نقضوا الميثاق ونكسوا بعهدهم مع الله جل وعلا ؟ قال ( فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهموجعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذُكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً فاعفُ عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ) لو ذهبت تتقرى وتستكشف حقيقة بني إسرائيل الآن وعلى مدى تاريخهم المغرق في القدم لوجدت أن الله جلّ وعلا لخصه لك أيها المسلم أبلغ تلخيصٍ وأوجز تلخيص ، مدعومون مطرودون ، مكتوب عليهم التشرد في جنبات الأرض ، قساة القلوب ، لا تتطرق المرحمة إلى قلوبهم قط ، أرأيتم ماذا فعلوا بالمسلمين ؟ المذابح التي أجروها ، الدماء التي أسالوها ، الأعراض التي انتهكوها ، الحرمات التي أزالوها وأهانوها ، كل ذلك عنوان قسوة القلب التي حلّت ببني إسرائيل جزاءً وفاقاً على نقضهم بميعادهم مع الله تبارك وتعالى .

 ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ) هذه التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام ليست هي الموجودة الآن ، لأن اليهود بكفرهم وببغيهم وبجرأتهم على الله جلّ وعلا حرّفوها وبدلوها لتساير أهواءهم ولتوافق أغراضهم ، وذلك طبعهم . اسمعوا إذاعتهم ، ترون التحريف بادياً في كل كلمةٍ يقولونها ، إذا نشروا تصريحاً بتروه وحرفوا الكلم عن مواضعه حتى يتساوق مع ما يريدون ويرغبون فيه ، تلك طبيعةٌ لم تأتهم عبثاً ولكنها جاءت نتيجةً منطقية لنقض الميثاق مع الله جلّ وعلا ( ونسوا حظاً مما ذُكّروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم ) عاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وهل أكرم من محمد معاملةً للناس ؟ الإنسان الذي كمّله الله جلّ وعلا وجمّله بعالي الأخلاق ، كان لا يزال يطلع على خائنة منهم ، واستمر مريرهم على ذلك ، في كل بلدٍ يوجد فيه يهود حتى الآن وإلى أن يذهب آخر يهوديٍ على الأرض تجده خائناً في البلد الذي يعيش فيه ، يأكل خيره ويتمتع بما فيه من رزق ويخونه علانيةً وجهاراً . ولكن الله جلّ وعلا أنزل على محمدٍ ديناً فيه المرحمة وفيه المطاولة وفيه الإمهال ( فاعفُ عنهم واصفحح ) .

 والنصارى ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ) كما أخذ الله ميثاق اليهود أخذ ميثاق النصارى على نفس الشـرائط وعلى نفس المواثيق والعهود وعلى نفس البنود ، لأن الرسـالة واحدة ولأن كلمة الله واحدة ولأن الغاية والهدف واحد ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذُكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) هؤلاء النصارى الذين ورثوا رسالة موسى عليه السلام نسوا حظاُ مما ذُكروا به ، ورضوا أن يقعوا تحت نير الرومان وأن يخدموا السياسة الرومانية وأن تجتمع مجامعهم ومجالس كنائسهم في ظل الأباطرة من الرومان ، يحرّفون كلام الله ويغيرون في الإنجيل ، منذ بدأت المجامع الكنسية في أوائل القرن الثالث الميلادي وإلى الآن والنصارى فرق وطوائف وشيع بينها من العداوة والبغضاء أكثر مما بينها وبين عبدة الأوثان ، لماذا سبب ذلك ؟ نقض الميثاق .

 الله تبارك وتعالى إذاً قصّ عليكم كما سمعتم نبأ رسالتين ، أرسلهما الله تعالى هداية وإصلاحاً للناس ، رسالة موسى ورسالة عيسى ، ثم أتبع بعد ذلك كلاماً لكم ولأهل الكتاب وللناس عامة ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) على من ؟ على يد محمدٍ صلى الله عليه وسلم ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد ) هذه الرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم تجديد لِمَا درس من معالم النبوات الأولى ، إعادة للإنسانية الشاردة إلى حظيرة الإيمان . وأخذ محمد صلى الله عليه وسلم الأمر بجد وقام به بكل نشاط ، وأزره على ذلك النفر الذين اختارهم الله جلّ وعلا لصحبة نبيه وحل شريعته ، فكان ما كان من الإسلام ، كان أن وسع نظر الناس ، كانت الدنيا قبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم أمماً منعزلةً ، كل أمةٍ تعادي الأخرى ، وكل أمةٍ ترى أنه لا فضل لأحدٍ عليها ، وأن لها ملأ الحق في أن تفرض سلطانها وقهرها وجبروتها على سائر الأمم .. فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعلم أن ما هم فيه دمار يهدد الإنسانية بالخراب والبواق ، وقال لهم ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) خلاف الألسنة والألوان ، اختلاف الأصقاع والأمكنة ، لا يجوز أن يكون ذريعةً للتفرق والتنازع ، وإنما هو سبب للتعاون والتآزر ، القطر الغني يفيد القطر الفقير ، والقطر العالم يعلم القطر الجاهل ، ومَن كان عنده فضل عاد به على من لا فضل عنده ، والإنسانية ينبغي أن تتعاون كلها . وهذه النظرات الضيقة التي تجعل كل أمةٍ من الأمم عالماً قائماً بذاته ينبغي أن يزول وينبغي أن ينتهي إلى غير رجعة ، وخرج المسلمون يُعلّمون الناس هذا الدرس ، مَن قبل منهم كان واحداً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم .

 الذئابة من قريش رأس العرب ، الذين كانوا يشعرون بمنتهى العزة وبمنتهى الفخار ، كنتَ تجد الواحد منهم يجد نفسه أخاً للزنجي الأعجم الذي لا يكاد يبين في الكلام ، مَن الذي فعل ذلك ؟ محمد صلى الله عليه وسلم بإعلانه هذه الأخوة الجامعة بين الناس . والتفت إلى خلائق الناس ، ماذا يبتغي الناس من الخضوع للشهوات ؟ بل ماذا يتنظر الناس من الجري وراء النزوات ؟ أليس وراء ذلك إلا الدمار ؟ وإذاً فينبغي للإنسان أن يلفت نظره إلى نفسه هذه التي تسكن بين جنبيه ، متى استقامت على أمر الله اتسعت آفاقها وحسنت أخلاقها وأصبحت هي دعوةً تتحرك على ظهر الأرض . ولقد رأينا المسلمين رضي الله عنهم وأرضاهم لا يتكلفون تشقيق الكلام ولا يتكلفون إكثار الخطب ، فكانوا يتقدمون إلى الفتوح فتُفتح الحصون أمامهم بما يعلم الناس من حسن معاملةٍ ومن كريم أخلاقهم ومن طيب سجاياهم ، مَن الذي صنع من الأعراب الجفاة البداة ، هؤلاء القوم المكملين الذين التحقوا بصف الملائكة ؟ محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الدين ، وأصلح شـؤون الحياة كذلك ، فأقامها على ميزان العدل وأعطى هذا الإنسان غاية ما يتمناه ، حريةً تملأ جنبيه ، تشعره بالذاتية الممتلئة الزحمة القوية الفعالة التي وُكل إليها أن تغير وجه الحياة الدنيا .

 فأصبحنا الآن بعد أن مضى هذا الرعيل الكريم بقيادة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وبعد أن سطّر في صفحات التاريخ سطوراً بالنور ، كلما ذكرها الذاكرون اسـتشرفت لها الأفئدة والقلوب تريد أن تبلغها أو تبلغ ما دونها فلا تطيق ، أصبحنا نحن الآن ورثة هذا الدين ، ورثة أولئك الرجال العظام ، الأخلاف الذين ذهب أسلافهم بخير الدنيا والآخرة ، نتنفس فإذا نحن محشورون في بقعة من الأرض ، كل شبرٍ لها منها لها صولجان وعسكر ، وكل قومٍ من المسلمين لا يتحسسون عمق الرابطة التي تربط بينهم ، وعجيب أن يكون ذلك في عصر التجميع الذي تتداعى فيه الأمم إلى تكتلٍ عامٍ شامل ، عجيب أن نتمسك بالنظرات الضيقة وبالنظرات القطرية والمحلية ، وعجيب أن نصنع لذلك حدوداً عقائدية تمنع هذه الأمة التي تعد ثمانمائة مليون تضع أقدامها على أغنى بقاع الأرض وعلى أخصبها وعلى أكثرها خيراً ، وتمسك بين يديها مفاتيح القارات الخمس ، لو أنها توحدت ولو أنها تجمعت ولو أنها وفت لله بموعوده ووفت لمحمد بميثاقه لكانت السيدة التي لا تطاول ولا ترام ، ولو أن هذه الأمة أشعرت نفسها حقيقة الذي يريده الله منها ويريده بها لما رأيت هؤلاء القلوب يعيش الإسلام على هامش الهامش من حياتهم ، ما الذي تعطيه أيها المسلم لربك ؟ ما الذي تعطيه لدينك من جهدك ومن عرقك ومن مالك ومن ذات نفسك ؟ الإسلام يعيش من نفسك مسجر كلب ، لأنك لا تحمل من الإسلام إلا هذا الاسم ، ولو أنك شعرت بالإسلام حق الشـعور لكن حقاً عليك أن تكون ثورة كاسـحة لا تعرف القعود ولا تعرف الركود .

 ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد ، المسلمون لم يكفهم أن جهلوا حقيقة دينهم وحقيقة الأهداف التي ندبهم إليها ربهم جلّ وعلا وقادهم إليها نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، المؤسف أن المسلمين ما زالوا حتى الآن يجهلون دنياهم أيضاً ، يجعلون هذا الشيء الذي تحرك وهذا المارد الذي انطلق ، يجهلون أن هذه الحركة المعاصرة جاءت لتخدم دينك ، المسلمون قوم عالميون ، انتبهوا وافتحوا عقولكم وقلوبكم يا مسلمون ، المسلمون قوم عالميون ، وينبغي أن يكون معلوماً أنهم عالميون ، ومتغيرات العصر فرضت أن تكون التيارات السائدة عالمية الصبغة عالمية المبدأ عالمية المنتهى ، المتغيرات العالمية جعلت التوازن النووي يقضي على الحروب الكونية المدمرة ، ولم يبقَ في الميدان إلا حرب الأفكار ، حرب المبادئ ، حرب الأيديولوجيات ، قد تحدث هنا أو هناك حروب موضعية صغيرة ، أما الحروب المدمرة الكاسحة فلا ، وهذا ميدان المسلمين ، ميدانهم أن يحملوا على أكتافهم وفي قلوبهم رسالة الله ليبلغوها إلى الناس في زحمة الأفكار التي تعرض نفسها اليوم ، وهي أفكار شائهة تلبس لبوساً مزخرفاً كالمومس الشوهاء التي تعرض نفسها في زينةٍ مزورةٍ مزيفة ، ميدانهم الحقيقي والطبيعي أن يأخذوا طريقهم لعرض هذا الإسلام على الناس ، على الإنسانية المعذبة التي يريد أن يُفرَض عليها سلام معاصر لصالح الأقوياء في الدنيا كالسلام الروماني الذي فُرض من قبل لصالح الرومان ، أتدرون بنأ مؤتمر يالطة في عام 45 ؟ أتعرفون مؤتمر فلادبوستن في العام الماضي ؟ دول العالم كلها لا تعرف ذلك ، لكن نبأ ذلك عند أمريكا وعند روسيا ، تريد أن تفرض على الدنيا سلاماً لمصلحة العملاقين الكبيرين ، وذلك لا يكون ، نحن نريد للمسلمين أن يعرفوا حقيقة رسالتهم وحقيقة دينهم ويتحسس وجائبهم تجاه هذا الدين ، كفى ارتماءً في أحضان الأقوياء ، كفى اعترافاً بالعملاقين الكبيرين ، فالعصر عصر الشعوب ، والعصر عصر العالمية ، والعصر عصر الأفكار ، والفكر الوحيد النيّر القادر على الصراع في كل ميدان وتحت كل ظرف هو فكر هذا الإسلام ، فخذوا به رحمكم الله ، واعلموا أنكم مسؤولون عنه ومحاسبون عليه ، إذا وفيتم لله أنالكم الله ما أنال آباءكم وأجدادكم من رضوان مذخور لكم عنده ومن عز وسؤدد وتمكين في الأرض كما مكن لآبائكم وأجدادكم من قبل . ولئن خستم ـ لا سمح الله ـ بالميعاد فلا ضمان لكم عند الله ، فالله ليس رب العرب وحسب ، وليس رب المسلمين وحسب ، وأنتم أيها المسلم في كل صلاة تقف تقول ( بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ) لا سبب ولا نسب بين الله وبين أحد من خلقه ، وإنما يتفاضل الناس عند الله بالتقوى والعمل الصالح ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) فإذا وفيتم لله بما أخذ عليكم به العهد والميثاق وفّى عهوده لكم ( ومَن أوفى بعهده من الله ) وإذا خستم وشذذتم عن الطريق أحلّ بكم ما أحل بالأمم السابقة ( وكلاً نقصّ عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى ) قصّ الله عليكم نبأ الأقوام الذين مضوا ، متعهم بالحياة الدنيا ما استقاموا على الطريق ، وأنالهم العز ما كانوا أوفياء له ، حتى إذا شذوا وحادوا عن الطريق أحلّ بهم العذاب والنقمة ، فحذارِ أيها المؤمنون ، حذارِ فإن الله جل وعلا إذا غضب بطش البطشة الكبرى ، ونعوذ بالله جل وعلا أن نرى بطش ربنا جل وعلا ، نعوذ بالله أن يُحِلّ بنا عذابه ونقمته ، والأمر بأيديكم وليس بأحد غيركم ، الله جل وعلا قال لنا ( وهديناه النجدين ) أرانا طريق الخير وأرانا طريق الشر ..

................ انقطع الشريط ..................