تحليل مضمون خطاب الرئيس المصري حسني مبارك الأخير

تحليل مضمون خطاب

الرئيس المصري حسني مبارك الأخير

حسام مقلد *

[email protected]

تناقلت وكالاتُ الأنباء وعددٌ من وسائل الإعلام العالمي خطاب الرئيس المصري (حسني مبارك) لجماهير شعبه  الثائرة المطالبة برحيله، وأجمع المراقبون أنه كان خطاباً مليئا بالغرور والاستعلاء على  الشعب، وأنه لم يحمل أي جديد على الصعيد العملي، وكان تكرارا لوعود قطعها مبارك على نفسه مرارا طوال ثلاثين سنة ولم ينفذ شيئا منها حتى الآن، فلا ديمقراطية حقيقية أنجزت، ولا عدالة اجتماعية تحققت،  كما كان الخطاب مخيباً للآمال بكل معنى الكلمة وبكل المعايير والمقاييس السياسية المحايدة، ولم يقدم شيئا يذكر يبشر بالخير للشعب المصري، بل كان فقط يهدف إلى كسب مزيد من الوقت، والمراهنة على انكسار حدة الثورة المصرية بمرور الأيام، وخَلُص المحللون إلى ما يلي:

1.             قال الرئيس المصري في خطابه:" علينا أن نختار بين الاستقرار وبين الفوضى" وهذا الكلام الخطير فيه اعتراف ضمني بأن أعمال السلب والنهب والفوضى التي حدثت في اليومين الأولين من الثورة المصرية كانت من تدبير وتخطيط حكومة الحزب الوطني لترهيب الناس وترويعهم، وإلقاء الهلع والفزع في نفوسهم؛ وذلك لدفعهم للرجوع عن التظاهر السلمي الذي هو حق أصيل من حقوق الإنسان بحسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

2.             لعب الرئيس المصري على وتر الوطنية الحساس لدى كل المصريين، وحاول يستجدي عواطفهم نحوه من خلال العزف على وتر خدمته بالجيش المصري، وذلك ليستدر عطفهم؛ فالشخصية المصرية كما هو معروف عنها شخصية وطنية متسامحة وعاطفية وسريعة التأثر، ولكن السؤال المهم الذي يطرحه الخبراء والمحللون السياسيون: لِمَ لا يكون الرئيس المصري وطنيا بالفعل كما يقول فيرحل ليحقن دماء شعبه ويحفظ بلده ووطنه من الفتن؟! لماذا يتشبث بالسلطة لهذا الحد؟!! ولماذا لا يرحل بهدوء ويترك حكومة انتقالية من كافة القوى الوطنية لإدارة شؤون البلاد فترة انتقالية يعدون فيها دستورهم الجديد، ويجرون انتخابات حرة نزيهة؟ وأجمع المراقبون على أن الرئيس المصري يحب نفسه أكثر من حبه لوطنه وشعبه، فلو كان حقا يؤمن بالديمقراطية وتداول السلطة سلميا لسمح بذلك منذ مدة طويلة، ولكان أسرع الآن على الأقل بالاستجابة لنداء ثمانية ملايين إنسان من شعبه بالأمس ليطالبوه بالرحيل، ونصف هذا العدد  كاف في أية دولة ديمقراطية لتنحي رئيسها عن السلطة!!

3.             أبقى مبارك على حكومة الحزب الوطني التي شكلها مؤخرا (بعد حل حكومته السابقة قبل أيام) وأغلب وزرائها هم وزراء الحزب الوطني السابقون الذين وضعوا مصر في قبضة رجال الأعمال، ونتج عن ذلك وقوع مصر في قبضة الفساد، وقد جاء ترتيب مصر في مرتبة عالمية متقدمة جدا في الفساد وفق مقاييس الشفافية الدولية، وأبدى المحللون استغرابهم من رغبة الرئيس مبارك في استمرار هذا الوضع رغم قوله" إنه يحب مصر وحريص على تقدمها" فكيف ستتقدم بلاده في ظل حكومات الحزب الوطني التي كرست المحسوبية ورسخت الفساد في المجتمع على مدى ثلاثة عقود من الزمن.

4.             بدت نبرة التهديد والوعيد  واضحة جدا في خطاب مبارك حينما قال:" إنه سيحاسب المتسببين في هذه الأحداث الأخيرة التي شهدتها مصر" فهذا الكلام يعبر عن عدم قناعة الرئيس المصري بحق شعبه في التعبير عن مطالبه وحقوقه، كما يحمل تهديدا مبطنا لكل المشاركين في الاحتجاجات.

5.             لم يتحدث الرئيس مبارك عن تعديل المادة(88) من الدستور المصري المتعلقة بالإشراف القضائي على الانتخابات، فكيف سيثق الشعب في نزاهة الانتخابات القادمة، وسِجِلُّ مصر مشهور في تزوير الانتخابات، والثقة منزوعة تماما في حكومات الحزب الوطني التي تستخدم التزوير على نطاق واسع في كل انتخابات سواء أكانت نيابية أو رياسية، أو حتى انتخابات المجالس المحلية؟! وقد باتت ثقة الشعب المصري في الرئيس مبارك نفسه منزوعة بعد أن وضع نفسه خصما للمصريين، وآثر مصلحته الشخصية على مصلحة شعبه وبلاده.

6.             لم يتحدث الرئيس المصري عن حل مجلسي الشعب والشورى اللذين جاءا بالتزوير كما يؤكد المراقبون، بل أسند إليهما مع حكومة الحزب الوطني تَوَلِّي الإشراف على المرحلة الانتقالية المفترض أن تؤدي إلى انتقال سلس للسلطة، فكيف سيكون الحزب الوطني وحكومته ومجلس شعبه هو الخصم والحكم في نفس الوقت؟!! وكيف ستتولى هذه المؤسسات المزورة المطعون في شرعيتها القيام بعملة الإصلاح؟! وأي إصلاح يرجى منها؟! وهل سيثق الشعب فيها بعد كل ما ارتكبته؟!!

7.             لم يشرك الرئيس المصري المعارضة المصرية بصورة عملية في أية عمليات إصلاح ولا مشاركة في السلطة بأي صورة من الصور، اللهم مجرد الكلام المرسل والحديث المنمق عن الديمقراطية !!

8.             لم يبدِ الرئيس المصري أي تعاطف مع المتظاهرين المصريين وهم بالملايين، حتى لم يتعاطف مع الضحايا الذين فقدوا أرواحهم دفاعا عن حريتهم وحرية بلادهم، ولم يترحم عليهم، أو يذكرهم بكلمة واحدة وهذا يعبر عن أنهم بلا قيمة عنده وعند نظامه!! وهذا يؤكد أيضا عن غرور الرئيس المصري وأنه لا يرى إلا نفسه ومصلحته وكرامته الشخصية ولا يهتم في الواقع بكرامة ملايين المصريين!!

9.             لم يقدم الرئيس المصري أية  خطط عملية للتنمية الاقتصادية، ولم يتحدث عن أية تغييرات جوهرية في بنية النظام، وكل ما قاله مجرد كلام مرسل وحديث مستهلك ظل يقوله للشعب طوال ثلاثين سنة، ولم يحقق شيئا من هذه الوعود والشعارات البراقة.

10.        أبدى المحللون استغرابهم الشديد من كلام الرئيس المصري مبارك فكيف يكون على رأس السلطة التي يرفضها الشعب، ثم يزعم أنه سيقوم بإصلاحات؟ وأين كانت هذه الإصلاحات طوال الثلاثين عاما السابقة؟! وأكد المحللون أن الحديث عن أية إصلاحات يقوم بها النظام الحاكم في مصر مجرد وهم والتفاف على ثورة الشعب المصري الرائعة، لأن الرئيس ونطامه منزوعي الثقة الآن، وفاقدي للشرعية بعد خروج نحو ثماني ملايين يعلنون تأييدهم لمطلب تنحي الرئيس، وتغيير النظام الحاكم تغييرا جذريا!!

وقد أعرب كبار العلماء ورجال السياسة ومشاهير المفكرين في مصر والعالم وعلى رأسهم: الشيخ القرضاوي، والدكتور أحمد زويل، والدكتور فاروق الباز، والدكتور عبد الله الأشعل، ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوفان وروبرت فيسك، وناعوم تشوميسكي، وحتى الرئيس الأمريكي باراك أوباما حليف مبارك القوي... أعرب جميع هؤلاء عن حق الشعب المصري الثابت في اختيار من يحكمه، وطالبوا الرئيس المصري بأن يستجيب فورا لمطالب شعبه، لكن الرئيس مبارك لا يزال يرفض الاستجابة لصوت الضمير والعقل والحكمة، ولم يُبْقِ أمام الشعب المصري أية خيارات سوى أن يستمر في الدفاع عن حريته وكرامته ومستقبل أبنائه بالتظاهر السلمي الذي هو حق مشروع للجميع، وأبدت جموع حاشدة من ملايين المصريين استمرار ثورتها حتى يستجيب الرئيس مبارك لمطالبهم المشروعة، وأعلنوا أنهم لن يرحلوا ولو ماتوا جميعا، والآن فالرئيس المصري مخيَّر بين أن يستجيب لصوت العقل والحكمة ونداء الضمير والإيمان فيحفظ شعبه ووطنه، وبين إراقة دماء ملايين المصرين المعتصمين المطالبين برحيله... وعلى كل أحرار العالم أن يحددوا موقفهم: مع من يقفون.. مع الجلاد أو مع الضحية!!

"كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" [المجادلة : 21].

"وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [يوسف : 21].

                

 * كاتب إسلامي مصري