نحو قراءة سوسيولوجية لأغاني المهرجان
نحو قراءة سوسيولوجية لأغاني المهرجان..
مهرجان القمة نموذجا
محمود القاعود
فى مصر ..مجتمع يعيش به أكثر من تسعين مليونا من البشر .. فى هذا المجتمع تتصارع الرؤى والاهتمامات بل والأحلام .. فى هكذا مجتمع ثمة طبقات لها عوالم أخري غير تلك المتعارف عليها .. بل لا أبالغ إن قلت أن ثمة عوالم تكاد تتشابه مع بعض بقايا الهنود الحمر بغابات الأمازون .. أو غابات وسط إفريقيا .. هذه العوالم لها طقوسها ومعالمها واعتقاداتها ورموزها ومعانيها .. وفى هذا الإطار لابد من مناقشة هذه العوالم ومناقشتها علميا .. ومحاولة قراءتها سوسيولوجيا .. وربط ذلك بالفينومينولوجيا..
الفينومينولوجيا هى علم الظواهر .. ويعرفها الفيلسوف الألمانى " إديموند هوسرل" بأنها عملية إدراك الماهيات ..ويعرفها الفيلسوف الألماني " جورج هيجل" بأنها : الدلالة على المراحل التي يمرّ بها الإنسان حتى يصل إلى الشعور بالروح..
وبين إدراك الماهيات والشعور بالروح نقاط مشتركة .. وهو ما يعني أن هوسرل وهيجل يقفان على مسافة شبه متقاربة من التعريف الفينومينولوجي فى دراسة الظواهر ..
ولعل أغاني المهرجانات المنتشرة حاليا فى مصر بحاجة ماسة لقراءة سوسيولوجية .. لا سيما مع اكتساح هذه الأغانى لغالبية وسائل المواصلات .. حيث خرجت من عوالمها لتغزو العوالم الأخري .. خرجت بثقافتها العشوائية الشعبية .. لتفرض نفسها .. خرجت بهمومها وإشكالياتها وجذورها التاريخية وأمثالها وقراءتها للحياة .. لتشكل نمطا خاصا لابد من التوقف أمامه فى ظل مجتمع يعانى من الفقر والأمية والجهل والمرض والبطالة والعنوسة وتدهور التعليم وارتفاع الأسعار والتحرش الجنسي ..
وقبل الولوج إلى هذا العالم من خلال قراءة بعض الكلمات لأحد هذه المهرجانات .. ثمة حاجة لتعريف هذه الأغاني .. أو تعريف القارئ .. بماهيتها .. ونستطيع القول أنها تلك الأغانى التى تسير بالنمط السريع الذى قد يُشبه موسيقي "الراب" مصحوبة بايقاعات سريعة وآلات نحاسية واستخدام الطبلة بسرعة .. يشترك فى هذا المهرجان عدة أشخاص يتناوبون الغناء .. ويُلاحظ فى هذه الأغاني تغيير الأصوات من خلال استخدام التقنيات الحديثة بالكمبيوتر.. كما أنهم يعيدون غناء بعض المقاطع من أغاني أم كلثوم وعبدالحليم ومحمد عبدالوهاب ..
ومن أشهر المهرجانات الآن وأكثرها وجودا بالميكروباصات والتكاتك مهرجان "القمة .. إسلام فانتا " وانتشاره بحد ذاته دلالة على ما لقاه فى نفوس الناس من ترحيب بكلمات تحمل التحدي والإصرار والهروب من الواقع ..
يبدأ المهرجان بموسيقى .. صاخبة :
" يا خلق لو هتناموا .. لا ثوانى متناموش .. شارع 8 و العلواية ..الأبطال و يا الوحوش .. القمة و الدخيلة .. راجعين يعملوا هوليلة .. منعاشرش ناس بخيلة ولا ناس ميرحموش .. صباحكو غاشا باشا على كل واحد مستنينا "
بدأ المهرجان بكلمات تدل على ثقة المتحدثين .. ثم يُضفى صفة الأبطال والوحوش على سكان شارع 8 والعلواية .. ويعرف بأصحاب المهرجان التى هى فرق غنايئة تحمل اسم " القمة" وأخرى "الدخيلة" وأنهم سيحدثون "هُليلة" أى جلبة وصخب يحدث دويا .. ويتبع ذلك بنصيحة مفادها عدم معاشرة الناس البخيلة والذين لا يرحمون الناس ..
ويُتابع :
" الولعة و الكماشة و نزل شيشة على شاى خمسينة .. سقف علشان هتنام هنام جنبك و اصحى و صحينا .. هنرص كلام و فى ثانية .. يخرب و يهد الدنيا.. على أبطال العلواية و وحوش شارع 8.. و المسا باعته اسلام فانتا هنخش في حدوتة تانية.. افتحلى طريق ده أبو قلب جرئ خاف منى و جلا و طاطا.. و بعته يجيبلى سجاير قولتله روح على كشك شرادة .. وتزرجن يالا ويانا طاب طلع سيفك والصداده.. فرخة و كفتة و عشواية و من ع الإمة نجيب فركاية.. هنشغل فيلم السهرة و نسهر فى الشارع سهراية.. هنقضى الليلة الحمرا و بره عن الناس أى حكاية.. و متنساش يا ابنى البيرة و كاسين تلاتة علشان هنبلع.. و نشغل مهرجانات للقمة و نرقص كده نتدلع " أ.هـ
فى هذا المقطع .. يسرد حياة نسبة عالية من الشباب المحطم .. الذى لا يجد ما يشغله .. حيث شرب الشيشة والشاي .. ويتكرر حديثه عن أبطال العلواية ووحوش شارع 8 بما يؤكد أن هناك شعورا بالنقص يعوضه بتكرار صفات البطولة والتوحش .. كما تبدو النرجسية فاقعة فى الحديث عن إسلام فانتا .. والدعوة للخوف من "أبو قلب جرئ" تعبر عن الخلل النفسي الواضح .. ثم يحكي كيف يقضى اليوم.. حيث سيأكل دجاجة ولحم مصنوع على هيئة "كفتة" ثم السهر بعد مشاهدة الفيلم .. وقضاء الليلة الحمراء مع فتيات الليل .. وشرب البيرة " نوع من الخمرة" والحديث عن الناس والرقص على أنغام المهرجانات الصاخبة.. وهو ما يُعبر عن مجتمع منفلت أخلاقيا ومتحرر من أى ضوابط دينية .. بل يتفاخر بهذه الحياة البهيمة التى يعيش فيها الفرد محاطا بدخان الشيشة والسجائر وأضواء السهرات الحمراء ..
ويُتابع فى وصلة نرجسية فاقعة تعبر عن تورم الذات وشعوره بالعظمة .. وهو كلام يؤكد تعويض النقص الكامن بإضفاء صفات خيالية وأنه يكشف العفاريت ويحفظ الأسرار واستطاع أن يقلب اللانش سفينة وأن يحول البحر إلي طحينة ! يقول : " شارع 8 باعت رسالة إن العلواية رجالة.. و الدخيلة متتهزمش صعب جدا استحالة.. اسكندرية متتفهمش و اى غشيم نقلبه حصالة.. و هتسمعوا حدوتة جديدة و خلى دماغك بقى شغالة.. اركن يا زميل يا ابو دم تقيل و انا حللته و خففته.. ده العو اللى أكل الجو جبته ورايا دار ياما لففته.. و الجن ابن العفريت اللى ميتشفش كشفته و شوفته .. و البورمجي ياما علمته و اللى بيجرح ألمته.. طب و اللى طايح مش عارف و لا فاهم خدته و فهمته .. و الصاحب اللى قالى سره ده أنا شيلت سره فى قلبى كتمته .. و عملت البحر طحينة , و قلبت اللانش سفينة.. لو حرب انزل و اتعامل بالرشاش ابو سكينة " أ.هـ
وينتقل للحديث عن الأزمة الحقيقية التى يعاني منها ملايين الشباب وهى الفقر وعدم وجود العمل :
" طب مسا على كل الدنيا و أى راجل ع الراس يتشال .. إسلام فانتا شارع 8 و العلواية أرض الأبطال ..عم أمين شيخ حراميين لكن هو ده صاحب المنزل .. بيقوللى فين إيجارك كل أما اطلع كده ولا أنزل .. و تروح تطلب من جارك يقول ده أنا بسببك هعزل .. الحالة تعبانة مش قادرة بنكح تراب من فترة .. طب نعمل إيه يا سيادنا نسرق ولا نبيع بودرة .. من النق يقل البركة و يضيع كده حركة ف حركة .. متقولش القبض يعيش .. ياللى بتقبض من شركة .. ده الغنى لو عاش متنعنش .. ده عشان كان وارث تركة " أ.هـ
بلغة السينما هذا هو " الماستر سين " الخاص بهذا المهرجان .. فبعد وصلات النرجسية والشوفينية .. يلج إلى صلب مشكلة الشباب المصري .. حيث البطالة والعجز عن توفير السكن ، فهو يسكن فى عقار يمكله عم أمين الذى ينعته بشيخ الحراميين .. والذى لا يصبر على استلام ثمن الإيجار .. وهو ما يدفعه لمحاولة السلف من جاره الذى يجيبه " بسببك هعزل" ! وهو ما يؤكد أنه دائم السلف من جاره .. فضاق به ذرعا .. ثم يقول أنه يكح "تراب" وهو مثل يُقال عن شدة الفقر والجوع .. ويتساءل .. "نسرق ولا نبيع بودرة" ؟! .. خياران كلاهما يؤدي إلى السجن .. السرقة أو الاتجار بالمخدرات .. ما يعني أنه وصل لمرحلة شديدة من العجز .. وتوفير الأموال .. ثم يحمل بشدة على الذين يتحدثون أن الرواتب الحكومية تجعل الإنسان يستطيع تدبير النفقات .. ويوضح سبب الغني .. بأن الغنى " كان وارث تركة" ! وهو ما يعنى أن الثراء – من غير الوراثة - لا سبيل للوصول إليه إلا بطرق غير مشروعة !
ينتقل بعدها لإعادة غناء أحد المقاطع من أغان رومانسية سابقة ..
" متجيش تبكى الدموع و عذابك بالضلوع .. و تقول ارحمنى منهم .. دول ناس مبيرحموش , بيبيعوا مايشتروش .. و ياريتنى بعدت عنهم .. امشى ورا كدبهم .. من تانى و روحلهم .. بس ياريتك تلاقى طيبة ف قلبهم .. متجيش تبكى بدموع و عذابك بالضلوع .. و تقول ارحمنى منهم .. دول ناس مبيرحموش , بيبيعوا ميشتروش .. و ياريتنى بعدت عنهم .. امشى ورا كدبهم , من تانى و روحلهم .. بس ياريتك تلاقى الطيبة في قلبهم " أ.هـ
ودلالة هذا المقطع هى التعبير عن جيل يشعر بالضياع .. جيل ارتفعت فيه نسبة العنوسة .. فيكتفى هؤلاء بالقصص العاطفية .. وغالبا ما يدخل الشاب فى علاقة مع فتاة .. ثم تصطدم طموحاته بصخرة الواقع .. حيث لا سكن ولا عمل .. ولا أموال .. وتنتهى القصة بالفشل .. وتترك آثارا قد تحيل حياته إلى أحزان دائمة .. ويحمل المقطع فى طياته ما يُشبه النصيحة بالابتعاد عن هؤلاء الذين " بيبيعوا ما يشتروش" .. وهو ما يتسق مع الأغنية المملوءة بالتحدى والاعتزاز بالنفس الذى يصل لنرجسية فجة ..
وتتوالى بعد ذلك تحيات وسلامات .. لفلان وعلان ووصفهم بأوصاف بطولية وعظيمة وأنهم "أحسن ناس" ..
هذا واحد من مئات المهرجانات المنتشرة انتشار النار فى الهشيم .. التى تنقل لنا العوالم الأخرى فى مصر .. بكل ما فيها من قُبح .. وبمقدار فجاجة الموسيقي وصخبها وانحطاط الكلمات بل بذاءتها فى أحيان كثيرة .. فإنها بحاجة لقراءة سوسيولوجية .. وربما سيكولوجية .. لسبر أغوار هذه العوالم التى تئن من الفساد والانحلال والانحطاط ..