الحلم

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

مر الحلم ساعة فساعة , ويوما فيوما , وشهرا فشهرا ,لم يتصور أنه سيبقى كل هذه المدة, يوم أن عزم على الأمر , حدث نفسه قائلا : الأمور منتهية والمسالة تحتاج فقط لقليل من الوقت ولكنه بعد أن فعل كل شيء .. وترك كل شيء .. بدأ يخسر كل شيء.

نعم, كانت الأمور منتهية , إلا أن المسألة لم تكن تحتاج إلى وقت , فالقضية ماتت منذ الولادة .

 المعاناة التي بدأ يعيشها هي الهم الدائم , هي النزيف الدائم ,الذي أوهن الجسد بعد الولادة الميتة , النزيف مستمر لا ينقطع , والدم لا روافد له , والجسد يصرخ ليلا ونهارا.

 الساهر منهك, والنائم منهك, اختلط الأنين بالشخير, فلم يعد يسمع إلا صوتا نشازا, لا يعرف ماذا يسميه . النازف وحده يعيش حالة بين النوم واليقظة , لقد تحول الدم في جسده إلى مصل صديدي اللون , لكثرة ما حقنوه بالأدوية و" السيروم", لقد فقد لونه الأحمر , لأن الجسد المنهك فقد كرياته الحمراء , وهو يتابع نزفه , جفت مصادر الدم الأحمر , بدأت الطفيليات غزوها , أقامت معسكراتها في ميدان الجسد , ارتفع صوتها أكثر , استولت على مساحة أكبر , صار مستنقعا .

الحلم يتساءل مترنحا :إلى متى ألهث متعبا ؟هل أستسلم , فأخسر آخر شيء , وأعز شيء , وأثمن شيء ؟ يغيب مقهورا في غابات الوعي , يبحث عن أرض معشوشبة , أو بقعة نظيفة لم يؤرقها النزف , أو ضفة, أو شراع , ولكنه يعود في التيه مترنحا , يجتر قهره , ويصر على أسنانه : لن أستسلم .

 يخيل إليه أنه غدا سخيفا, لماذا ؟ .. لماذا يسير عكس التيار ؟ لماذا لا يوسع دائرة الواقع لينزوي فيها , ويتضاءل حجمه ويوفر على نفسه السعي وراء دم صديدي جديد؟ . لا أمل له في الحياة إلا في بؤر لايحبها ولا تحبه , لأن انفصام العرى , وشرود الروابط , وتشظي العلاقات

 أحالت الحياة نفسها إلى بؤر لا تعيش فيها غير الطفيليات .. إنها تتكاثر بالانشطار , لذلك فقد استولت على كل الجسد , وامتدت لتقيم معسكراتها في أعماق الروح , في السهول والوديان , لقد استشرى أمرها , فأصبحت هي الأصل , والنقاء نشازا , والصفاء دخيلا , والنظافة عدوا .

كان هذا الجسد الواهن المنهك يحار بين الأنين والشخير وهو بين اليقظة والنوم والنزيف لا ينقطع .

مرة حلق في فضاء رحب وقال:لماذا أخاف من طرح قضيتي ،من المطالبة بحقي ،من البوح بمعاناتي ؟ لماذا أستسلم لليأس ، وأتصور أن الحياة في نضوب ؟ لماذا لا أبحث عن كوة أمل أطل منها على الحياة ؟ الأمل وحده ينقذني ، يلملم جراحاتي .

ثم عاد مترنحا طارحا جسده الوردي في غابات الوعي القاحلة ، يعصره الألم : كم أبدو سخيفا ، ضحك ..قهقه.. سخر من نفسه ، هل أنا حي !؟ وما دليل الحياة في أعضائي ، الحركة؟ ليست دليل حياة ، إلا إذا كانت تبني ، ماذا أفعل حين أتحرك ؟ لا بد لي أن أجيب ، حتى أضع حدا فاصلا بين موتي وحياتي ، دون الاهتمام بالحركة التي أحس تفاهتها . لقد رفضت أن أكون طفيليا ، لأن هذا ليس من طبيعتي إني أكره هذا النوع من الحياة ، ولكن حتى أعيش ، علي أن أمارس حياتي ، وحياتي لا وجود لها إلا إذا قبلت أن أعيش الواقع ، ولكن لا لقاء بيني وبين هذا الواقع ، فإما أنا وإما هو ، لأن هذا الواقع هو سبب آلامي ومعاناتي . إذن سأبقى أسبح هكذا في فراغ ، هباءة حائرة .. ذكريات .. ذكريات فقط .أجتر أعمال الأمس ، أفكار الأمس ، آمال الأمس ، أحاول بها أن أسد رمقي ، أستر عجزي وضعفي . عندما أتصور الواقع أنهار ،أفقد شجاعتي ، تطيش أحلامي ، أنا الحلم الذي عاش عشرين عاما يتطلع نحو الأفق ، يرقب طلوع الشمس ، شروق النور السرمدي الذي يمد عجلة الحياة بالطاقة .

آه .. إني أختنق .. أختنق ، لقد وهن الجسم ،ضعف القلب ، خف النبض ، لاهواء.. لاهواء.. لاهواء، انطفأ الضياء ، لف الظلام الحلم الساكن الهامد بكفن أسود، وقذف به في غياهب النسيان .