من مُذكرات أبو الفتوح

عصام الدين محمد أحمد

أستيقظ في الغبشة، أرش وجهي بالمياه، لا فطور ولا (يحزنون)، أركب قدمي، ابتلع ثلاث كيلو مترات من الرمال، يجف ريقي، يتصبب عرقي، أخيراً أدخل أرض أبو الفتوح، يتشابك النخيل مُتباين الأطوال، لا وقت للتأمل يا مسروع، أرص الأقفاص فوق الأرض، أورقها :

هي لم تأت بعد ، تتدلل هذه الأيام، تتغندر .

الجنائون يهلون، البنات تثرثرن برفقتهم، يتسلقون أحقاف النخيل الوبرية بالأحزمة، أبو فرخةيرمي زوجته بالبلح، تأكل الرطب وتقذفه بالنوى .

ها هي تأتي بالمنشة، تكُب في كل قفص حفنات. كيف أجُرها للحديث ؟

لا تدع فـُرصة لالتقاط الأنفاس، تشرف الأقفاص على الامتلاء .

أتلخبط، تتلكأ، تفرز لبختي، تدنو من الفرش، تنقي البلح المُخصب ، توشش به أوجه الأقفاص، أورق المزيد من الأقفاص، أخيش المملوء بالغطاء الجريدي والدوبار، أخيراً تقول :

أطلبت من إسماعيل أن يريحك من التخليل ؟

أرد في هدوء :

أحتاج العمل ؛فالوقت شتاء ، ولا عمل الآن لى فى سوق روض الفرج ، ولن أدفعه ليستغني عني !

تعقب في غضب :

جبان .

أنشغل بالتعبئة، تصل الكارو ، أحمل الأقفاص، أزُق العربة مناوئاً الكثبان والحفر والكلأ، أجهدني الزمن، أقدام مُتشققة ورمال رخوة وبلح وحمار هزيل وعرق طافح لن تـُجدي معه سيارة الشفط، وفي الحلقة أعتق الحمولة، أزنها، أتشعلق فوق صندوق السيارة، أرض الأقفاص، الوجه يُلامس الوجه، أعشق الظهر في الظهر، ظهري تفسخت ضلوعه، مائتان وخمسون قفصاً تُبتر عزمي، أعود إلى الدار، تستقبلني ببشاشة وجلة، وعلى عجل أنتهى من طعام العشاء، تجوسني بعينيها، تقطر أتهاماً، الجو يُنذر بالأمطار، عرجت إلى الغرفة، طنين الكلمة يزجرني :

جبان .

أفترش قش الأزر،  زخات الأمطار تخلع قلبي، أتكور متوهماَ الدفء، أخشى اختراق الأمطار السقف، فتعريشة الخشب والقش غير مُحكمة ، والمشمع مليء بالخروم، تنثرني المخاوف، أقوم مخمولاً، أضع لفة أقفاص فوق أخرى، أعممها بالطشت، ينتفش جرن السُباطات ، أضع سُباطة في الطشت ، أنثر عليها الخل ، أمرمطها، أنكش عناقيدها، أدعكها، ترن الكلمة فى  الأرجاء :

جبان

ما زالت السماء تسح، أكوم تلال القيس / السُباطات، أفرد عليها شكاير الأسمنت الفارغة والقش، ألهث وتلهث السماء، أرنو إلى حروف ذهني المُرتجف :

أ للجُبناء عزم ؟ !

أأذهب إلى الميضة لاغتسل ؟ !

ولكنها استخسرت جردل المياه الفائرة، الصباح رباح، نم الآن !

كيف أنام وجسدي منقوع بالخل ؟ ؟

أتباطأ إلى المسجد، لا أسمع سوى شهيقي وزفيري.

 أعلق هدومي على حائط الحمام المليء بالمسامير، برد .... برد، تلمس يدي الصنبور، دفعة واحدة أديره، ينبعث ثلج مجروش، أتحسس المياه دهراً، أزفر بُخاراً، تنكمش أعضائي، أبلل شعري، أنفخ، أدعك رأسي بالصابون، الرائحة تنعشني، أدلق الكوز الصديء على رأسي بحذر، حتى لا تتسرب المياه إلى عمودي الفقري / سلسلة ظهري، أطيل غسيل الشعر، أنحت الصابونة على جسدي، أغمض عيني، فجأة أغرق الجسد بالمياه، ألاكم الهواء، تصطك أسناني، أنشفني، تتداعى أبخرة الجوف، ألبس الكلسون والجلباب النظيف، ألف هدوم الخل في كيس بلاستيك، أفتح الباب، فحيح الرطوبة يرعشني، ستائر الأمطار تغبش النيون، أدلف من باب الصلاة، أركن حاجياتي، أمضغ الحروف:

جبان .

ما بال الشيطان يستوطنك ! !

يا بوي إمرأة تشقلب الحال ! !

هدوء، خوف، وطمأنينة، والبدن لا يستقيم بعد، أيليق في هذه الحضرة حضور طيفهاأبتهل :

يارب .

ما زالت نفسي هلعة، وقلبي موتور، أصلي ركعتين، تأخذني سنة من النوم، أنهض من رقادي على صوت رخيم يتلو :

(وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كُنت منه تحيد )

صدق الله العظيم ( سورة ق – الآية 19 )

يشاهدونني على الجسر وبيدي لفة هدومي .

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 798